رجل مرّ على رأسه الكثير وظل صامدا كجبل "الشيخ عقيل" الذي تستند على كتفه مدينة "الباب".. عانى وكافح ورسم بالمجان وكتب الخط بالمجان وعلـّم كلّ من أحبّ الرسم والخط بالمجان، كان ينشر الفنّ الرفيع وهو مقتنع أنه يؤدي رسالته .. نزق لا يحتمل أن تأخذ اللوحة بين يديه أكثر من يومين.. بوسعه وبوقت قصير أن يرسم لك صورة تحار هل هي رسم أم تصوير؟!
"عيسى أحمد حداد" يعرفه القاصي والداني، مواليد "الباب" \1939\ م. جده كان مفتي "تادف" ووالده مدرس علوم شرعية تعلم منه الخط وعاقبه على الرسم، بدأ الرسم منذ طفولته وكان يعاقب ويقمع لو مارس الرسم إذ كان الموقف غير واضح من الرسم أما الخط فكان أبوه يعلمه إياه، أطلق العنان للرسم بعد وفاة والده وكان عمره اثنا عشر عاما لمَ لا?! والرسم ممتزج فيه ويتصدر اهتماماته، وكان لنا معه الحوار التالي:
ندمت لأني لم أعمل بالحديد .. لكنت تفرغتُ للصناعة والاختراع
** «في البداية استفدت من الأستاذ "طالب دملخي" رئيس تحرير صحيفة "الجماهير" والذي كان معلما للرسم آنذاك. وبعدها قرأت الكثير من الكتب التي تفيدني بالرسم والتصوير واستعنت بالمكتبة الوطنية بحلب "دار الكتب الوطنية".. وأكملت عمليا بجهد شخصي أما في مجال عملي كمصور طلب مني في الستينات استديو "فينوس" في "القامشلي" أن أساعده بالرسم واتفقت معه أن أرسم له ما يريد شرط أن تجمعنا جلسة يجيب فيها عن كل أسئلتي فوافق الرجل وهكذا كان..عدت لمدينتي صنعت وصممت كل ما يلزم الاستديو من آلات تصوير يدويا وأجهزة إضاءة ولوازم وصنعت حتى ميزاناً دقيقاً لوزن المواد التي تستخدم بتظهير الصور وبطبيعة الحال كان التصوير يعتمد على الرسم وقتها وليس مثل هذه الأيام كنا نحمض الصور بجوٍّ خاص ونظهّر ونعمل رتوش ونقوم بأعمال كثيرة تأخذ وقتا وجهدا.. فمن شدة حبي للرسم عملت مصورا واخترعت وعدلت أدواتي وآلاتي كلها بنفسي».
** «الرسم في دمي.. لم ولن أتخلى عنه،عرض علي أيام الوحدة أن أعمل مصوراً تلفزيونياً وسينمائياً في مصر رفضت لأني سأبتعد عن بلدي وهذا أمرٌ لن أحتمله كما لن يكون بوسعي التفرغ للرسم لأني سأتقيد بوظيفة بعيدة عن الرسم الذي أتنفسه.
عملت بالرسم والخط في أكثر من محل بحلب اجتمعت خلال تلك الفترة بأكثر الخطاطين والرسامين الذين كانوا محط إعجابي مثل الرسام "جاك" أكثر من يجيد الدمج المائي والرسام "جعفر" الذي أحب رسوماته عموما أحب كل رسام كلاسيكي مثل "رافي" الذي عملت معه و"أدمون" و"سيريوس" وكلهم رسامون من حلب».
** «نعم والهدوء والعفوية والنقاء.. أحب الريف لأن فيه متسلط واحد أما في المدينة تجد ألف متسلط.. كنت معلما في الريف وخلال فترة إقامتي هناك ورأيت نقشا أعجبني على ثوب امرأة ريفية رسمتها وتعرضت للنقل لأنهم ظنوا أني قمت بتصويرها فرسمت "المفتش" كما كان يسمى حينها.. رسمته بسرعة ودقة لأقنعه دون كلام أني لا أملك آلة تصوير».
* أي أنواع اللوحات رسمت؟
** الفلكلور والمنظر الطبيعي ورسمت الكاريكاتير والشخصيات.
** «وهل نملك غيرها..؟ كيف؟ نحن لم نتقن بعد المذهب الكلاسيكي ولم نفهمه ولم نفهم لغة لونه وخطوطه وظلاله حتى ننتقل لغيره..أعتبر الخوض في المدارس والمذاهب في الرسم جنون وحلزونيات.. فلسفة لا أريد أن أفهمها.. هروب وتغطية لمن لا يجيد الرسم».
* هنا لا رأي لي..
** «لماذا ألست متابعا؟ ألا يعطيك الكلاسيكي الألوان الحقيقية والشكل الحقيقي "رافائيل" و"مايكل أنجلو" و"دافنشي" رسوماتهم كانت واضحة وغموضها بالوضوح أنا أريد شيئا أفهمه لا شيئا أَضل به وأُضل».
** «نعم ولكن متى ..؟ حين ملَّ الغرب من الكلاسيكي ورسموه على جدران وسقوف الكنائس..أوجدوا مذاهب أخرى أما نحن فلم نزل بحاجة لمجرد الإلمام بالكلاسيكي».
** «لا يتجرأ الكثيرون على طرح الموضوع معي مباشرة، ربما لأن أبي وجدي عالما دين، ومع ذلك سألت الأزهر، حين كنت بمصر مرة، حول شرعية الرسم والتصوير، فكان الرد: «الحرام ما يكون له ظل»... المعنى كما فهمت "النحت" و"التماثيل" وأنا بطبيعة الحال هجرت النحت من صغري لأني تعاقبت من المرحومة والدتي حول تنظيف المكان، ولم أعد إليه بعد ذلك.
أما معاناتي الحقيقية تتمثل بعدم تقبل الناس أو تقديرهم للرسم والإعلان أذكر مرة أني كتبت لصديق لوحة تدل على اسم صاحب المنزل ثبتها الصديق وكم لاقى توبيخا من والده حين سأله عن ماهيتها فقال: «ليعرف الناس اسم صاحب المنزل». فردّ الأب بغضب: «وهل نحن غير معروفون». وأمره بخلعها. ومعاناتي بكل أسف هي فقر المنطقة بالمناظر والأماكن الأثرية».
** «رسمت لمهرجانات القطن في "حلب" ولسوق الإنتاج بـحلب أغلبية المواسم إن لم تكن كلها. رسما وتخطيطاً وتصميم عربات تسير في المواكب ورسمت للتلفزيون 1965م.
شاركت بأكثر من ذلك في مهرجان الحبوب في "القامشلي" صممت ورسمت وكتبت الخط وأدرت المهرجان فنيا كما رسمت صوراً لشخصيات هامة وصممت شعارات مختلفة».
** «بعد إنهاء فترة الريف بقيت معلما للرسم في ثانوية "البحتري" بالباب قرابة ست سنوات وشاركت أثناءها بالمسرح بالديكور وأحيانا ممثلا كان ذلك في فترة الستينات بعدها تفرغت للرسم في منزلي في عام 1970 رسمت "جبل الشيخ عقيل" من فوق سطح منزلي».
** «لم يحدث أن مررت بعجز أبدا لأداة أو لتقنية كنت أصنع أدواتي وأستخدم أدوات كثير من الحرف والمهن..أدواتي بأرخص التكاليف لأنها غالبا من صنع يدي».
* هل ندمتَ على أمر ما؟
** «ندمت لأني لم أعمل بالحديد .. لكنت تفرغتُ للصناعة والاختراع».
** «بالنسبة لي الوحي مستمر بفضل الله ..فقط أتناول أدواتي وأبدأ الرسم وكأنني أغرف من بحر أرسم منبطحا على بطني فوق أكبر اللوحات مساحة وأرسم».
* ومتى تتوقف؟
** «حين يصيب الخدر أصابعي أو أصاب بعمى الألوان فلا أعود أميّز بين لون وآخر عندها فقط أكف عن الرسم».
* علام تعتمد في الرسم؟
** «أعتمد قواعد الظل والنور ومستوى النظر وفوق النظر وتحت النظر وأعتمد مبدأ المربعات عند التكبير».
** «أستخدم مواد لا تخطر على بال للتلوين وللتعتيق استخدم دباغ الرمان والقهوة المرة وحبر الجزر ومن الطبيعة استخدم شقائق النعمان وكثير من الأعشاب».
* عم تبحث؟
** «أبحث عن مناظر لم يتطرق إليها أحد وأهتم لمناظر لا يهتم إليها أحد».
*لوحة لم ترسمها؟
** «"عامل النظافة"- و"الرحى" لوحتان أحلم برسمهما ... حلم يراودني منذ عامين ولا أدري متى سأرسمهما».
** «في كليهما الخطوط ثلاثة منحنية ومنكسرة ومستقيمة، أحب المستقيم منها».
* كيف حالك مع الناس؟
** «أنا أرسم باستمرار وهم يتكلمون باستمرار لم ألتفت للناس يوما هم في وادٍ وأنا في واد..الإنسان مهما كمل يبقى فيه عيب حين أرسمه أعدّل هذا العيب فالشكل له أما التفاصيل فهي لي..كذلك الأمر يكون بيني وبين الناس».