لا يمكن أن يُذكرالمشهد النقدي في القصة والرواية من غير أن يُذكر اسم "نضال الصالح". القاص، والروائي، والناقد، صدر له أكثر من مجموعة قصصية، ورواية، وأكثر من كتاب نقدي، وحاز عدداً من الجوائز الأدبية على المستوى العربي، كما حاز عدداً من شهادات التقدير من مؤسسات ثقافية مرموقة تثميناً لجهوده المتميزة في الإبداع والنقد.

هو مقرر جمعية النقد الأدبي في اتحاد الكتاب العرب، ونائب عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية الثانية في جامعة حلب للشؤون العلمية. من مؤلفاته: (في مجال القصة) مكابدات يقظان البوصيري- طائر الجهات المخاتلة- الأفعال الناقصة. جمر الموتى- رواية. دراسات: قال المعنّى- القصة القصيرة في حلب- نقد- تحوّلات الرمل، الحكائي والجمالي في القصة القصيرة في قطر- نقد- المغامرة الثانية، دراسات في الرواية العربية- النزوع الأسطوري في الرواية العربية المعاصرة.

مثير للجدل

إثر ما أثير حول تصريحاته من جدل عن علاقة الإبداع بالنقد، كان لنا معه اللقاء الآتي:

  • لنبدأ ممّا يصفك به معظم معارفك ومتابعي تجربتك في حقل النقد خاصة، أعني أنّك شخصية مثيرة للجدل، أو شديد الجهر بآرائك ومواقفك من الآخر ونصّه الإبداعيّ أو النقدي؟
  • ** في مرحلة مبكرة نسبياً من طفولتي اعتدت أن أطرح أسئلة على كل شيء حولي، وقد تعززت هذه السمة لدي منذ بدأت خطواتي الأولى على درب الكتابة، وازدادت نفوذاً مع اشتغالي في حقل النقد، إذ لم أسلّم بمجمل ما قيل حول هذا النص أو ذاك، أو هذه التجربة أو تلك. وسأظل متمسكاً بهذه الحساسية نحو كلّ ما يحيط بي، أو يعنيني، ولاسيما في حقل الثقافة، ما دمت أحيا، وما دمت أمارس الكتابة. أمّا أنني شخصية مثيرة للجدل أو شديدة الجهر بآرائها ومواقفها في هذا المجال، وربّما في سواه، فهذا ما أدمنته، وما أعتز به.

    أعتقد أنّ مشكلة "الآخر" معي هي صدقي مع نفسي أولاً.. أعني: الوضوح، وتسمية الأشياء بأسمائها. وإذا كانت هذه السمة هي ما يقلق هذا "الآخر"، ويدفعه إلى وصفي على النحو الذي ذكرتَ، فهي لا تضيرني، ولا تعنيني. ليقل الآخرون ما شاء لهم أن يقولوا، وسأقول وأكتب ما أشاء قوله وكتابته. إنني أعمل.. أفكّر.. أبحث عن صوت يخصني بدلاً من أن أكون صوتاً في جوقة من الذين أدمنوا هزّ رؤوسهم على كلّ ما يُقال أو يُكتب، أو من الذين ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا أتباعاً في هذه الإقطاعية الثقافية أو تلك.

  • لطالما رددت أنّ النقد هو الذي يمنح العمل الإبداعي شرعية وجوده في الذاكرة وتاريخ الأدب، أما زلت مصرّاً على ذلك؟
  • ** أجل، لا قيمة لأيّ نصّ إبداعيّ إن لم يكن ثمّة متابعة نقدية له. متابعة مخلصة للنص لا لكاتبه، وما يؤكّد ذلك أنّ الأعمال الإبداعية العظيمة التي وصلتنا عبر عصور التاريخ المختلفة هي تلك التي التفت النقد إليها، ولو لم يفعل لكانت طيّ النسيان.‏

  • إذا كان العمل الإبداعي يحتاج إلى ناقد أو نقدٍ؟ أفلا يحتاج النقد أو الناقد إلى عملٍ إبداعي أولاً؟
  • ** هذه أطروحة ناقصة، فثمة شكلان للممارسة النقدية: نقد لا يحتاج إلى مصادر إبداعية مباشرة، وآخر يتطلب الاشتغال على مصادر إبداعية مباشرة، ومن المؤسف أنّه غالباً ما لا يتمّ التفريق بين الشكلين، وغالباً أيضاً ما يتم وضعهما في سلة واحدة، والحق أنّ كلاً منهما يمثل فعالية معرفية مستقلة بنفسها، وغير ملحقة بسواها، فكما يشكّل الأول ممارسة ثقافية لها حدودها الخاصة، وإذا شئت لها علمها الخاص ونشيدها الخاص، يشكّل الثاني ممارسة ثقافية لها حدودها الخاصة أيضاً. وفي الحالين معاً، ودائماً، فإنّ النصّ الأدبيّ، أيّ نصّ، ومهما تكن قيمته، يولد ميتاً إن لم يرافقه نقد يمنحه معنى لوجوده، ويخلّقه (بتشديد اللام)، ويؤكّد نسبته إلى الإبداع.

  • لا يحتاج إلى نصوص محددة، ولكنه يحتاج إلى نصوص، أليس كذلك؟
  • ** يحتاج إلى ظواهر في الإبداع وليس إلى نصوص إبداعية، وإذا كنت ما تزال مصرّاً على نفي أيّ حياة للنقد من دون إبداع، فليس ثمة مشكلة لديّ. هذا شأنك وشأن من يعتقد بذلك، لأنني لا أرغب في تحويل الحوار إلى مساجلة، أو لعبة لثني ذراع الخصم، وسأكتفي، لتأكيد دقّة ما أراه وصوابه، بإحالتك على أيّ عصر من عصور الأدب، لأنتهي إلى القول إنّ عصر المتنبّي، على سبيل المثال، كان متخماً بمئات الشعراء، إن لم يكن بآلاف الشعراء. صحيح يا عزيزي أنّ المتنبّي كان شاعراً مبدعاً، ولكن الأكثر صحّة أنّه لولا تلك الحركة النقدية الصاخبة حوله، أعني المتنبّي، لظلّ حبيس عصره.

  • لنمض إلى سؤال آخر، عندما تدرس نصّاً ما الذي يحدد المنهج الذي ستنطلق منه في الدراسة؟
  • ** من الحماقة أن يتقدّم الناقد إلى النص الأدبيّ، أيّ نصّ، وثمّة منهج معدّ لديه لقراءته نقدياً، فالنصّ، كما اعتدت أن أفعل في مجمل ما أنجزت، هو الذي يفرض شكل مقاربته، بل منهج مقاربته، أو يحدّد المنهج النقدي الأكثر قدرة على استجلاء مكوناته وعناصره والعلاقات القائمة بين هذه المكونات والعناصر. ومن اللافت للنظر أنّ معظم أدائنا النقديّ يفعل نقيض ذلك، إذ ينطلق من أطروحات ومفهومات وآراء ووعي سابق على مصادره الإبداعية.

  • هل هناك مناهج نقدية واضحة المعالم في الوطن العربي؟
  • ** إذا كنت تقصد بالمناهج ما يتصل بالجذر القومي للمنهج، فهذا يعني أنّك تستمطر مطراً في آب، أو تستحصد بنفسجاً في صخر. ليس لدينا مناهج نقدية عربية، لا قديماً ولا حديثاً، وليس من الضرورة أن يكون لدينا مناهج خاصة بنا، لأنّ أيّ منهج، مهما يكن من أمر نشأته في جزء محدد من الجغرافية الإنسانية، لا يعني إبداع ذلك الجزء وحده، بل الإبداع عامة. إنّ الإبداع ونقده فعاليتان إنسانيتان بامتياز، فالمبدع، أيّ مبدع وفي أيّ جزء من العالم، لا يكتب من أجل القرّاء في موطنه فحسب، بل من أجل الإنسان أيّاً كان العرق الذي ينتمي إليه، ولو لم يفعل ذلك فلن يتجاوز حدود الجغرافية القومية التي ينتمي إليها. والنقد كذلك لا يتوجه إلى قرّاء محددين، إنّه كالإبداع يعني الإنسان عامة.‏

  • أقصد هل هناك اشتغال نقدي منهجي واضح المعالم لدى النقاد العرب؟
  • ** دعنا نفرّق بين عدة أشكال للممارسة النقدية في الوطن العربي، بين فريق من النقّاد استثمر المناهج النقدية والتيارات النقدية استثماراً مهماً ودالاً على كفاءة معرفية عالية، وآخر فقير معرفياً بتلك المناهج والتيارات، وفريق ثالث لا علاقة لأي من المنضوين تحت عباءته بصفة الناقد. ودعنا نفرّق، في الوقت نفسه، بين غير شكل من أشكال الأداء النقدي داخل كل فريق، ولاسيما ما يعني الفريق الأول الذي يترجح وعيه بمعنى الممارسة النقدية بين مستويين: أول دوغماتي رأى في المناهج مرجعاً مكتفياً بنفسه في الدرس النقدي، وثان انطلق من النص قبل انطلاقه من المنهج، أي ساءل النصّ من داخله لا من منهج سابق عليه.

  • أنا أتحدث بالضبط عن النقاد البارزين في الوطن العربي.
  • ** لا أومن بهذا التعبير، أعني النقّاد البارزين، الذي تمّ تصديره إلى الوعي الجمعي العربيّ عبر وسائل غير ثقافية، إعلامية أكثر منها معرفية. ما من ناقد بارز، كما أنه ما من مبدع بارز. ثمة أداء نقدي جدير بالتقدير، بل قل نصّاً نقدياً جديراً بالتقدير، ونصّاً إبداعياً جديراً بالتقدير. تاريخ الإبداع العربي الحديث يؤكّد ذلك، وتاريخ التجربة النقدية العربية الحديثة يؤكد ذلك أيضاً، فليس مجمل ما كتبه هذا المبدع أو الناقد، البارز بتعبيرك، أو ذاك، ينتمي بالضرورة إلى حقل الإبداع أو النقد. ثمة، في رحم كل تجربة إبداعية أو نقدية، مهما يكن شأنها، نصوص أشبه ما تكون بتمرينات في الكتابة، والأمثلة أكثر من أن تحصى في هذا المجال، سأفصح عنها في كتاب أشتغل عليه الآن.

  • عندما نتحدث عن مراحل مرت بها الرواية العربية نتحدث عن أعمال شكّلت محطات في تاريخها، وما أقصد إليه هو: أليس لدينا نقاد يمثلون محطات في الأداء النقدي العربي؟
  • ** أختلف معك كثيراً في التوصيف المتضمن في سؤالك، فليس صواباً القول بروايات مثلت علامات أو محطات أو منعطفات في التجربة الروائية العربية، لأنّه ما من عمل روائي يستطيع أن يدعي أنه قد أحدث انقلاباً في الإبداع الروائي، والأمر نفسه يعني النقد أيضاً، فمن الزعم تماماً القول إنّ تجربة نقدية ما، أو أن ناقداً ما استطاع أن يحدث تحولاً أو نقلة أو منعطفاً في التجربة النقدية في النقد العربي. لا أعتقد ذلك، أعتقد أن كل مرحلة تاريخية تفرض أشكال كتابة إبداعية تكاد تكون خاصة بها، كما تفرض أشكالاً من النقد الذي يكاد يكون خاصاً بها أيضاً. عد، على سبيل المثال، إلى تجربة السبعينيات النقدية وستكتشف أن الأسماء الذين اصطلحت على أن أعمالهم مثلت منعطفاً هي تلك التي تنتمي إلى جزء بعينه من الطيف الأيديولوجي الشاسع آنذاك.

  • يعني إذا قلنا عبد الله الغذامي، يمنى العيد، ألا يشكل كل منهما ظاهرة؟
  • ** لا الغذامي، ولا العيد، ولا سواهما، ظاهرة بالمعنى الذي تقصد إليه، كل منهما ظاهرة منسوبة إلى المرحلة التي كتب فيها. لقد حقق الغذامي والعيد، وسواهما ممّن يتم الاصطلاح عليهم بالعلامات في التجربة النقدية العربية، حضورهما من مرجع خارج نصيّ، أو خارج نقدي إذا شئت الدقة، فيمنى العيد، على سبيل المثال، لفتت الانتباه إلى نصها النقدي لأنها استقدمت إلى الكتابة النقدية العربية أدوات في الإجراء النقدي لم تكن الساحة الثقافية العربية قد عرفتها من قبل، وهذا ما منحها، إلى الآن، ذلك الحضور المزمن في المشهد النقدي العربيّ على الرغم من أنّ كثيراً من أدائها الراهن يثير الكثير من الأسئلة حوله.

  • إذا انتقلنا من النقد إلى الإبداع، كيف ترى راهن الرواية العربية؟ هل هي في طريقها إلى الفناء؟ أم أنها الجنس الأدبي التائه؟
  • ** ليس ثمة أشكال تعبيرية أو أجناس أدبية تموت، يمكن أن يتراجع حضورها. لقد تربّع الشعر العربي على عرش الذائقة الجمعية العربية على مدى أربعة عشر قرناً، ثم ولدت أشكال جديدة من السرد الفنّي فأحدثت خلخلة في تلك الذائقة، ومن تلك الأشكال الرواية التي وصفت بأنها ديوان العرب في القرن العشرين، ثم ما لبث هذا الديوان أن تضاءل حضوره لصالح شكل تعبيري جديد، هو القصة القصيرة، ثم شاع فيما بعد ما يسمى القصة القصيرة جداً، فهل يعني ممارسة الكثير من المبدعين لشكل تعبيري جديد، أو لشكل تعبيري مستولد فناءً لأشكال تعبيرية سابقة؟ بالتأكيد لا.

  • إذا انتقلنا إلى الفرد العربي المعاصر، إلى أي مدى يستطيع المبدع أن يتحدث عن سواه، بمعنى كيف يستطيع أن يشكل قطيعة بين حياته الخاصة وبين العمل الإبداعي الذي يبدعه؟ يعني هل هناك روائي أو قاص يكتب غير حياته؟
  • ** دعني أبدأ من المشهد الروائي في سورية ثم أنتقل إلى مثيله في بقية أجزاء الوطن العربي من خلال متابعتي لهذا المشهد أرى أن عدداً غير يسير من الأعمال الروائية التي تم انجازها في السنوات العشر أو العشرين الأخيرة في سورية هي أعمال سيَرِيَّة بهذه الدرجة أو تلك وهذه السمة تبدو حاضرة لدى التجارب الروائية الجديدة أو ممن يمكن وصفهم بالأصوات الروائية الجديدة التي تبدو سيرهم الذاتية حاضرة بقوة في أعمالهم الروائية الأولى أو الثانية أو سوى ذلك لسبب أساسي في تقديري هو أن حجم معرفتهم بالواقع أو الحياة ناحل لدرجة أنهم لم يستطيعوا الكتابة إلا عما يعنيهم على المستوى الفردي متوهمين أن ما يعنيهم على هذا المستوى الشخصي أو السيري جمعي بهذه الدرجة أو تلك. ولعلّك تتفق معي، أو لا تتفق، في وصف الكثير من منجز الأصوات الجديدة بأنّه تصفية حساب مع الواقع أكثر من كونه قراءة له.

  • المشهد الثقافي في سورية كيف تراه؟
  • ** مثخن بالمتناقضات، فكما هو في جزء منه، أو في أجزاء، يبدو مضيئاً، وناصع البياض، ومحرضاً على التفاؤل، يبدو في جزء آخر، أو أجزاء أخرى، قاتماً، ومدججاً بالسواد، ومثيراً للتشاؤم. وكما يمكن القول بوجود أصوات إبداعية جديرة بالتقدير والمتابعة، يمكن القول بحضور بالقوّة في وسائل الاتصال المختلفة لأصوات فقيرة الموهبة. وكما يمكن القول بأداء ثقافي يدعو للإحساس بأن ثمة أداء مخلصاً للحقيقة أو للثقافة الوطنية يمكن القول أيضاً أن ثمة أداء وظيفياً لا معنى له ولا طعم ولا رائحة.