لأنه نشأ في "حلب" أراد التعلق بها، حيث أبى إلا أن يعود إليها، ولأنه لم ينسَ هذا التاريخ الطويل لتلك المدينة التي سكنت قلبه قرر أن يغوص في بطون الكتب والروايات بحثاً عن أشياء ربما تكون أُغفلت عنها.
انطلق من الأدب الفرنسي في تخصصه الترجمة من جامعة "حلب" لينتقل إلى الماجستير في اختصاص التاريخ في فرنسا، وهو يحضر حالياً لنيل شهادة الدكتوراه في قسم التاريخ في فترة تعود إلى المرحلة العثمانية المتأخرة، أي في عهد التبدلات الاجتماعية التي طرأت على المجتمع السوري، وقد اختار مدينته "حلب" نموذجاً لتلك الدراسة.
هذا التأثير يمكن أن أنظر إليه بعين المحايد، أي أن أضع حبي لـ"حلب" جانباً وأنظر للحقيقة الموجودة في بطون الكتب التي تتحدث عنها، وهذا ما أكَّد العلاقة بين "أوليفييه " وبيني، فليس كل ما يكتبه المستشرقون عن تاريخنا هو جيد ورائع
عندما تراه يتحدث عن "حلب" تراه كأنه يتحدث عن جزء من ذاته أو من شخصيته، حتى ذلك الهواء الذي يستنشقه في "حلب" لا يجده في مكان آخر، هكذا علمته "حلب"، وهكذا كان، إنه الأستاذ "حسين عصمت مدرس".
يدور فلك الباحث "حسين" في مجالين اثنين هما "التراث والثقافة " وله إصدارات أربعة تتحدث عن هذين المجالين، ترجم بعضها وأُصدر، وبعضها قيد الترجمة والصدور، وجميعها تتحدث عن سورية عامة و"حلب" خاصة.
ويقول الباحث عن تعلقه بـ"حلب": «يربطني بـ"حلب" رابط قوي، حيث جذور عائلتي متصلة بـ"حلب" ومتعمقة بها هذا أولاً، ومن ناحية أخرى هو نوعية دراستي "التاريخ"، فـ"حلب" غنية جداً بتاريخها وتراثها، فعندما اخترت "حلب" كنموذج في دراستي كان لابدَّ من أن تكون هي التجربة العملية».
تأثير متبادل..
خلال غربته في فرنسا تعرَّف على شخص يدعى "أوليفييه سالمون" وقد ولَّد هذا تأثيراً متبادلاً فيما بينهما، فمثلما تأثر به، استطاع أيضاًَ أن يؤثر عليه أيضاً، فكان نتيجة ذلك التأثير جعله يختار بحثاً مهماً عن "حلب" في دراسته لنيل شهادة الدكتوراه، وهو أن يتحدث عن "حلب" في أدب الرحالة الأوروبيين في المرحلة العثمانية، فكان له تأثير كبير لأن يدرس هذا الجانب الذي تكمن فيه جوانب كثيرة لا يعرفها الكثير من الدارسين عن أدب الرحالة، فكان عنوانه "حلب" في أدب الرحالة الأوروبيين في الفترة العثمانية /1516/م حتى نهاية الدولة العثمانية أي ما كُتب وجُمع عن "حلبَ" في تلك الفترة لدى الرحالة الأوروبيين.
و"أوليفييه "خلال زيارته لـ"حلب" عمل مدرساً للغة الفرنسية في المركز الاستشاري للغات، وخلال هذه الفترة أيضاً كان يتعلم اللغة العربية التي بدأ يتقنها، ليتحول هذا التأثير فيما بينهما إلى تأثير حقيقي حين أجمعا على أن يكون بينهما أعمالاً ثقافية مشتركة تنوعت ما بين تأليف الكتب المشتركة وإقامة المعارض الضوئية والعمل المسرحي
حيث قدما في عام/2006/ على مسرح مديرية الثقافة بـ"حلب" عملاً مسرحياً رائعاً وهو عبارة عن تأليف وإخراج مسرحية "النبي" والتي هي إحدى مؤلفات الأديب "جبران خليل جبران"، وقدم العمل مجموعة من طلاب جامعة "حلب" باللغتين العربية والفرنسية في آن معاً.
ويقول "حسين المدرس" عن هذا التأثير: «هذا التأثير يمكن أن أنظر إليه بعين المحايد، أي أن أضع حبي لـ"حلب" جانباً وأنظر للحقيقة الموجودة في بطون الكتب التي تتحدث عنها، وهذا ما أكَّد العلاقة بين "أوليفييه " وبيني، فليس كل ما يكتبه المستشرقون عن تاريخنا هو جيد ورائع».
أعمالٌ ثقافية
يملك الباحث "حسين" هاجساً ثقافياً متمثلاً في طباعة الكتب الثقافية التي تتحدث عن سوريا عموماً وعن "حلب" خصوصاً ونشرها، وبعبارة أخرى هو يحاول أن يعمل على نشر ما يسمى "العلاقات السورية الأوروبية"
وأول كتاب صدر له ويقوم بترجمته حالياً يتحدث عن "العلاقات السورية العثمانية نموذج "حلب" مع جمهورية مقاطعات السبع الهولندية المتحدة "وله عنوان آخر هو" 400 سنة على إقامة القنصلية الهولندية بـ"حلب" 1607/2007/"، وهذه المناسبة التي أقيم لها احتفال كبير فصدر هذا الكتاب الذي يتحدث عن تلك العلاقات التجارية والثقافية والقنصلية بين سورية وهولندا، وقد اختار "حلب" نموذجاً لهذه العلاقات.
فهولندا أو "البلاد المنخفضة" كما تسمى هي التي كان يأتي منها التجار والباحثين والمؤرخين وجامعي المخطوطات والجغرافيين بالإضافة إلى سفر أشخاص من الطرف الهولندي إلى "حلب" لأهداف أخرى.
والكتاب يترجم إلى اللغة العربية ومن المتوقع أن تنتهي ترجمته نهاية تشرين الثاني وأول كانون الأول ، وهذا العمل هو أول عمل مشترك بين "أوليفييه" والباحث "حسين المدرس" حيث اعتمد فيه المدرس خلال تأليفه على الأرشيف الموثق لديه والذي كان يعمل لأجله منذ أواسط السبعينيات من القرن الماضي، ويقول حسين المدرس عن ذلك: «عندما تحب بلداً معيناً ويؤثّر عليك تتحامل على من كتب عليه بسوء، فقبل إطلاق أحكامك عليه عليك دراسة الظروف والأسباب التي أدت إلى ذلك، كما يجب عليك معرفة أي من الأماكن التي زارها، وما أغفل منها ، وماذا كان يريد، وهنا أقصد الجوانب التي لم يكن يعرفها الجميع عن "حلب"».
أما العمل المشترك الثاني لهما، فهو كتاب يتحدث عن رحلة رومانسية عبر رسوم الفنان الرحالة "وليام بارتلت" وهو رحالة انكليزي جاء من أوروبا إلى بلاد الشام (الشرق) وتحديداً لسوريا ولبنان وفلسطين عبر أوروبا، قاطعاً هولندا وبلجيكا وألمانية وأوروبا الوسطى مروراً باسطنبول والجزر اليونانية، والكتاب هو عبارة عن رسوم رسمها في بداية القرن التاسع عشر، وقد جُمعت جميع أعماله كاملة والتي تتحدث عن بلاد الشام، وهو صادر باللغة الإنكليزية، وقد اختارا اللغة الإنكليزية لأنَّ "أوليفييه" وقتها لم يتمكن من اللغة العربية بطلاقة، كما أنَّ الشيء الأساسي هو أن ينشرا هذه المطبوعات في سورية ومنها توزع إلى الخارج.
ولمدينة دمشق مكانتها عند الباحث "حسن المدرس" حيث أصدر كتاباً جمع فيه أقوال الرحالة الذين تحدثوا عن "دمشق" في القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، وقد أرفق في /200/ بطاقة بريدية لـ"دمشق"، والبطاقة البريدية اعتبرت داعمة لأقوال الرحالة الأوروبيين فكانت بمثابة الصورة الداعمة للنص، وقد تزامن صدور هذا الكتاب مع احتفالية "دمشق" عاصمة للثقافة العربية حيث اعتبر جزءاً من مشاركته فيها.
يقول الأستاذ "حسين المدرس": «أنا أهتم بأرشفة الصور والوثائق المرئية وهذا مهم جداً بالنسبة لتكويني، فأنا أعشق الصور حيث كنت في بداياتي مصوراً فوتوغرافياً، وقد شغلت منصب رئيس لجنة التحكيم في مهرجان "بيارتس" الدولي الضوئي لاختيار جائزة الصور الصحفية عام/2002/».
استراحة محارب..
كما أصدر الباحث "المدرس" كتاباً رابعاً وهو عبارة عن ديوان شعر باللغة الفرنسية، وهو يتكلم عن أحلام متنزه في مدينة "آنسي" الفرنسية والتي استقر فيها لفترة من الزمن، وهذه المدينة التي تملك حيزاً كبيراً في وجدانه لأنها مسقط رأس "أوليفييه ".
يقول الأستاذ "حسين عصمت المدرس": «هذه المدينة التي تتجمع فيها بحيرة جميلة جداً دخلت وجداني وآثرت بشكل أو بآخر فكتبت ببوح على الورق منذ سنوات طويلة، وفجأة اكتشفت أن "أوليفييه" يملك هذا البوح أيضاً واتفقنا على أن نجمع هذا البوح المشترك في كتاب يحوي في داخله صور قديمة للمدينة مع /10/ صور حديثة لها أيضاً بالإضافة إلى /30/ صورة قديمة لها من مجموعتي ، وأسميناه "استراحة محارب" فضم مجموعة أشعار من نثر حديث لكلا الطرفين.
يشغلني الآن..
ينشغل الباحث "حسين المدرس" حالياً في ترجمة كتاب العلاقات السورية الهولندية خلال الحقبة الماضية، كما يعمل على تأليف كتاب "قنصلية فرنسا" في "حلب" في القرن السابع عشر من خلال تاريخ ثلاثة قناصل عملوا بـ"حلب" وأحدهم هو "شوفالييه دارفيو"، هذا القنصل الفرنسي الذي عمل في "حلب" وكتب عنها.
ويقول الباحث "حسين ": «جميع هذه الكتب التي أصدرتها قد دخلت كبريات المكاتب في فرنسا وبريطانية وهولندا، واعتبرت مراجع لمن أراد الاستفادة منها بتاريخ "سورية وحلب"، ومؤخراً جاءت جامعة "القديس يوسف" من لبنان ليعتمدوه كمرجع رئيسي»
معارض ضوئية
أقام الباحث "المدرس" معارض فنية متنوعة في التصوير الضوئي تجاوز عددها العشرة معارض، منها أقيم في فرنسا وهولندا وسورية، كما أقام معرضين تحدث فيهما عن بداية الطباعة في الشرق وقصد هنا "مطبعة حلب" من خلال عرض النسخات الأولى المطبوعة فيها بما فيها الكتب المسيحية والكتب الإسلامية والكتب العلمية الأولى التي طبعت باللغة العربية أو غيرها، كما جمعت صوراً للقواميس الأولى الصادرة آنذاك، ويحضر الآن لإقامة معرض للكتب الأدبية التي طبعت في تلك الفترة كـ"ديوان المعري" الذي طبع لأول مرة من خلال عرض النسخة الأولى منه.
وهنا يظهر العشق والحب لمدينة "حلب"، فالمعرض الذي يقيمه هو جزء منه ويستطيع من خلاله أن يظهر ما يريد وما يحب.
تحت عريشة المحبة..
يقول الأستاذ "حسين عصت المدرس" عن تجربته خلال المراحل السابقة: «أنا أشجع الطباعة وخاصة طباعة الكتب رغم أنَّ لها مشاكل كثيرة وأعباء مادية، ولكن لا بد من أن نظهر الجوانب لمدينتنا بلدنا، ولابدَّ أن من يقرأ من الغربيين سيعرف ما نكتبه حديثاً، وليس أن نقرأ ما يكتبوه هم فقط، فما نكتبه بلغات أجنبية سيساعد على نشر ما نكتبه بشكل أوسع، ولابدَّ من أن يصبح لدينا اهتمام داخل مؤسساتنا العلمية والاجتماعية في الحصول على هذه الكتب وغيرها ووضعها بأيدي الجميع، فكل ما أكتب وأؤلف أقدم نسخة منه مهداة إلى مكتبة الأسد بـ"دمشق" ونسخة أخرى إلى المكتبة الوطنية بـ"حلب"، كما أقدم نسخ من كتبي لأي مكتبة أقوم بزيارتها».
هذه كانت رؤى لطالما راودت الباحث في حياته التي كان منتهاها سكناه في بيت عربي داخل المدينة القديمة، وهذا الذي لم يتحقق بعد ليبقى هاجساً لا يزال يراوده ويسعى لتحقيقه.