هي اللغة العربية، وشعرها الأصيل كانتا المعشوق الأول للأديب والشاعر "رياض حلاق"، فحينما آمن بسموها وعلو مكانتها أحبها وعشقها، بل وهام بها لتصبح شغله الشاغل، ومقصده من وراء كل قصد فأنبتت شعرا عربيا أصيلا. يحدثنا في لقائه معنا في eAleppo عن بعض من أفكاره ومسيرة حياته في حوار كانت باكورته من البدايات، فقال:
** ترعرعت في بيت أدبي بكنف والدي "عبد الله يوركي حلاق" الذي أسس مجلة "الضاد" عام 1931م ولهذا اعتبرها أختي الكبرى لأنها تكبرني بعشر سنوات. هذه المجلة استقطبت عددا كبيرا من الأدباء والكتاب والشعراء في سورية والوطن العربي والمهجر.
وعندما تفتحت أذهاني بدأت بالمطالعة - وهذا بفضل توجيه والدي الذي كان يوجهني لذلك- وكنا في المدرسة مجبرين على تلخيص قصة كل أسبوع، أسبوعا بالعربية وآخر بالفرنسية. هذا الحب للقراءة أعطاني دفعا كبيراً لحب لغتي لغة الضاد، وأنا عشت في بيت الضاد في أسرة أحبت العلم والأدب. كان أبي أديبا عربيّا وفيّاً لعروبته وفيّا لوطنه. تعلمت منه هذه المبادئ وعشنا بمحبة كبرى مع الجميع الفرقاء والأدباء والطوائف المتعددة، فلم نكن نفرق أحدا عن الآخر هكذا تربينا وهكذا تعلمنا.
بداياتي كانت في القصة ولكن مِلتُ بعد فترة للشعر فكنت أنظم الشعر العمودي ثم آتي إلى والدي ناظما قصيدة، فيقرأ أول سطرين ويمزق الورقة قائلا: هذا "صف كلام" لا أريدك أن تكون ناظما أريدك أن تكون شاعرا وإلا "إترك المصلحة".
وعندما بلغت الثامنة عشر طلب مني أن أقرأ القرءان الكريم لأقوي لغتي، لأن في القرءان الكريم خزانة كبيرة من المفردات والتعابير والمصطلحات. وتابعت رسالتي في كتابة الشعر وهذا الكلام في الستينات. ولا أخفي عليك أنه حتى الثمانينات قدمت قصيدة لوالدي فقال لي الآن أصبحت شاعر.
** الشعر من الشعور، وأجمل مافي الإنسان هو شعوره وعندما يشعر بإخلاص نحو قضايا أسرته وبلده وأمته. هذه القضايا الحيوية التي تأسر الإنسان في حيثياتها. والشعر يرصد كل هذه الحوادث لذلك تراني أنظم في مختلف الألوان كتبت الغزل الكثير في بداياتي، وكتبت الرثاء في العديد من الشخصيات التي رحلت، وأيضا نظمت الوجدانيات لأصدقاء والإخوانيات، وهناك الكثير من القصائد الاجتماعية، هذا التنوع شكل عندي رصيدا كبيرا من الشعر.
** الغزل هو مفتاح الشعر لأنه يؤجج الشعور، والشعر هو شعور، والغزل أكثر من يؤجج الشعور ويطلق له العنان، كما قد تقوم بعض الحوادث بتأجيج الشعور كرحيل رجل عظيم أو شخص قريب من قلبك، فكل شيء يؤجج الشعور سيقود الشاعر لنضمه شعرا.
والغزل مثل كأي لون شعري آخر بحر واسع، هناك من تغزل بمجون المرأة وأظهرها عارية وأسهب كثيرا في ذلك، لكني أنا لم ألجأ إلى ذلك النوع، لي قصيدة واحدة ذكرت في بعض أبياتها النهدين، وسواها لا تجد في ما أكتب من غزل اللجوء إلى هذا النوع.
* تقول في إحدى قصائدك:
ارفعْ صلاتك للقصيد قصيدا / إن كنت تنشــــــد في الزمان خلودا
واركبْ شراع الشعر ريّان الرؤى / واصطدْ عليه لؤلؤاً منضودا
ولربّ بيتٍ قد شـــداه شــــاعر / يشفي العليـل ويبرئ المـــفؤودا
ففي هذه الأبيات دلالة على سمو رسالة الشعر، والسؤال كيف ترى الشعر في الساحة الأدبية اليوم؟
** لاشك أن الشعر يبقى جميلا وأصيلا، لكن الحياة تبدلت. أنا مع جميع التطور والتحديث الذي جرى بين منتصف القرن الماضي واليوم. لاشك أن الدنيا في تغير وتطور، وأصبح العالم منفتحاً على بعضه نتيجة التطور الصناعي والتقني فتقربت المسافات كثيرا.
لكن هناك حيثيات بين الشعر وباقي ألوان الأدب، اليوم لجأ الكثير من الأدباء إلى النثر أو الشعر المنثور أو مايسمونه بالنثر الشعري. أنا مع التحديث في الفكرة والمعنى والجوهر، لكن فليبقى كل شيء باسمه. فالطاولة لا يمكن تسميتها خزانة!. الشعر العربي الكلاسيكي يمتاز بموسيقاه وأنغامه وبحوره. والنثر العربي لا يقل جمالا عن الشعر، فهناك الكثير من الأدباء العرب اشتهروا بالنثر كـ"ابن المقفع" و"الجاحظ" و"المنفلوطي" و"طه حسين".. النثر له لون جميل من ألوان الأدب والقصة لون جميل والقصة القصيرة والرواية والزجل. هناك من أراد أن يكتب الشعر من دون معاناة أو تعب، وهو لا يدري أن القصيدة تمر بمخاض حينما ينضمها الشاعر، وعندما تولد القصيدة يرتاح الشاعر. أدباء اليوم اتجهوا نحو الشعر المنثور، وكثير من الأدباء الكبار الذي بدءوا بهذه المرحلة عادوا إلى القصيدة الأم، "السيّاب" و"محمود درويش" وغيرهم.
"سعيد عقل" يمتاز بشعره الكلاسيكي وكذلك "عمر أبو ريشة"، "سعاد الصباح" لها ديوان آخر السيوف من أروع مايكون في الشعر. ولها ومضات رائعة جدا في نثرها ولكن هذه الومضات لا تسمى شعرا. أنا أختلف في التسمية فقط ولست ضد الفكر فهناك الكثير من الومضات والخواطر المهمة في النثر وأجمل من القصيدة ولكنها ليست قصيدة. القصيدة لها أركان، وزن، قافية، روي، وإن لم تتحقق أركانها فليست قصيدة فناثر جيد أفضل من شاعر سيء.
** لي الفخر في التعرف على كم كبير من الأدباء والمفكرين العرب في بلاد المغترب، كان لي تواصل مستمر مع هذه القمم من أدباء ومفكرين فكانوا يزروني دائما في منزلي بحلب، وهذا سبب صدور كتابي الجديد "وجوه عرفتها".
خلال بداياتي كان هناك عدد كبير من الأدباء والشعراء ولكن بعدما توفوا لم يبق إلا القليل منهم في بلاد المهجر، حتى في الوطن العربي خلت الساحة من الأدباء والشعراء. ففي منتصف القرن الماضي كان هناك عمالقة وقمم كبيرة كـ"بدوي الجبل" و"عمر أبو ريشة" و"عبد الله حلاق"، أما الآن لم يبق إلا بعض الشعراء القدامى أمثال الشاعر "سليمان العيسى" وغيره أما الجيل الجديد فكل يمشي بطريقة السهل.
** خلال مسيرتي حتى اليوم زرت عددا كبيرا من الدول العربية بدعوات إلى مؤتمرات أو ندوات فكرية. زرت البلاد العربية كلها ماعدا "السودان" وآخر مشاركاتي كانت في "نواكشط" في "موريتانيا" عام 2006 في مؤتمر الشعر العالمي. وفوجئت بأن مجلس المؤتمر انتخبني لتمثيل الشعراء العرب الذين كانوا أكثر من 160 شاعرا.
في أوربا زرت معظم الدول عدا انكلترا وآخر المشاركات في أوربا كانت في بلجيكا العام الماضي. كما زرت الصين وألقيت محاضرتين في جامعتي بكين وشنغهاي. كما زرت أيضا كندا والولايات المتحدة، وفي فنزويلا زرت 16 مقاطعة والجميل أنه في كل مقاطعة يوجد النادي الفنزويلي السوري الحلبي.
في الحقيقة هذا الكم الكبير من التواصل مع كبار الأدباء والمثقفين أصل فيَّ حبَّ اللغة العربية والشعر العربي فكتبت بالشعر وألوانه والنثر وألوانه وخاصة عندما استلمت مجلة الضاد عام 1962، ومنذ عام 1992 في حياة والدي أصبحت صاحب الامتياز. هذا الرصيد الفكري جعلني اهتم بالأدب وأنا خريج الحقوق. ولم أكن يوما لا محاميا ولا قاضيا. هذا الرصيد جعلني انكب في عملي الأدبي والفكري والصحافة واكتب المقال الافتتاحي في مجلة الضاد منذ العام 1996 بعد وفاة والدي وحتى اليوم، كما انشر في العديد من المجلات داخل "سورية" وخارجها.
** رسالتي هي استمرارية مجلة "الضاد". وعدتُ والدي قبل وفاته أن تبقى الضاد لذلك هذه رسالة أخذتها على نفسي أن أحافظ على "الضاد" وأتمنى أن تبلغ مئويتها ويحتفل بها محبوها.
السيد الرئيس "بشار الأسد" عندما التقى بي وبنجلي "عبد الله" قال لعبد الله: "يا عبد الله أريد أن أقول لك شي ليس كرئيس وإنما كأخ. جدك ووالدك أسسوا المجلة واستمرت هذه السنين الطويلة، وأريدك أن تستمر بها حتى تبلغ مئويتها". وأنا همي أن تستمر "الضاد". هذه المجلة التي تؤدي رسالة أدبية وفكرية واجتماعية.
أحب أن أقول للجيل الجديد أن يعي ما للغتنا من روعة وجمال، وأن يحبها ويتكلم بها ويحافظ عليها ويعلمها لأولاده. وأن لا يهاجر إلى الغرب، بل عليه أن يعمل ويضع جهده في بلده وأن لايضيعه في الغرب وأن تبقى الأخوة القائمة بين جميع الفئات والمذاهب.
بقي أن نذكر أن الأديب والشاعر "رياض عبد الله حلاق" من مواليد مدينة حلب 24/12/1940، درس الحقوق في جامعة حلب. دَرَّسَ اللغة العربية في عدة مدارس رسمية وخاصّة بحلب. بدأ حياته الأدبية بكتابة القصّة والمقالة والقصيدة العمودية. في عام 1962، ترأّس إدارة مجلّة "الضاد" التي يصدرها والده "عبد الله يوركي حلاّق" منذ عام 1931، ولا تزال تصدر حتّى الآن. وفي عام 1992 نقل عميد الضاد امتياز المجلّة إليه. رئيس تحرير مجلة الكلمة. عضو في جمعية العاديات. عضو اتحاد الصحفيين العرب. وله العديد من المشاركات في المحافل الثقافية داخل سورية والوطن العربي والبلاد الأوربية. طُبع لـه ثلاثة كتب: الأول "من نوادر الضاد" عام 1995، والثاني "دراسة نقدية في أدب الدكتورة سعاد الصباح" عام 1994، والثالث "ثمار الضاد في رحلة العمر" في مناسبة مرور 75 عاماً على انطلاقة الضاد. وكتاب "وجوه عرفتها" الذي صدر مؤخرا.
له تحت الطبع ديوان شعري بعنوان "حصاد السنين". وكتاب نثري بعنوان "قطاف الأربعين". و"رحلة العمر" وهو في أدب الرحلات يتحدّث فيه عن رحلته إلى المهجر الأميركي وما لقيه هناك واتصاله بالجاليات العربية والحلبية.
ونختار لكم هذه الأبيات:
فخراً بني الشهباء حسبكم عُلاً
إن كنتم في الدهر شمس إخــاءِ
فمحمّدٌ هو مثــــل عيسى رحمة
للعالمين وســـــــيّد الحكـــماء
باسم الصليب أُقبِّــلُ القــرآن في
حُبٍّ وتـقــديــــسٍ وفي إعلاء
إنّ العــــــروبة بيــــرقٌ بظـلاله