لا يمكن لمن يقرأ دواوينها إلا أن يشعر بنفحات إنسانية عميقة ممزوجة بحزن، وكأنه مترافق مع تلك الشاعرة منذ سنين، إذ إن أنينه وآهاته تفوح من أشعارها لتجسد حالة إنسانية فريدة من نوعها. إنها الأديبة والشاعرة والممثلة المسرحية "آديل برشيني" والتي تحدثت إلى موقع eAleppo في الحوار التالي:
** أول بدايات كانت مع الزجل أي اللغة المحكية، فأنا متأثرة بالأغاني القديمة التي كانت أمي تنشدها لأنام وما يزال إيقاعها في أذني، رغم أنني لم أعد طفلة. ترعرعت في جو فني فوالدي كان يغني الميجانا والعتابا ووالدتي أيضاً. وقد تأثرت بفيروز والرحابنة الذين أعتبرهم أصدقائي. ونتيجة شغفي بالفن والأدب كنت أطالع كثيراً، الأمر الذي شكل خلفية ثقافية ومخزونا هائلا من المعلومات.
وقد بدأت بالزجل وكتبت مقطوعات منها: وبديت حب وخاف/ من شوق عم يكبر/ والقلب كلمالو عم يحصد أيامو/ وعم يعشقك أكتر. فهاجس إنتاج كتاب كان يتملكني، وقد ألفت كتابا بعنوان "حب وغربة وديب" ولكنه لم ينشر بحجة أن وزارة الثقافة لا تنشر أشعار محكية.
** أنا شاعرة بسيطة والإنسان كلما كان بسيطا أصبح أقرب إلى المتلقي. من خلال مطالعتي لجبران خليل جبران الذي اشتهر بلغته البسيطة والقريبة من القلوب، وقد تأثرت به لأن الأديب يتأثر بالناس الذين يقرأ لهم. أنا لجأت إلى الكلمات البسيطة كي تكون قريبة من القراء على اختلاف ثقافاتهم. ولكن بعد ذلك طُلب مني الكتابة باللغة الفصحى ولكن لم أكن أعرف حينها علم العروض. من ثم بحثت عن كيفية تعلمه، إلى أن أخبرتني إحدى طالباتي، لكوني مدرسة رياضة، عن جدها الأستاذ "عبد الله يوركي حلاق"، الذي يعود الفضل الكبير له في إطلاعي على الجو الأدبي في "حلب"، وقد اطلع بأنني شاعرة بالفطرة.
وقد تعلمت علم العروض وطبعت أول كتاب بعنوان "الطيور المهاجرة" وقام الأديب "محمود فاخوري" بكتابة مقدمة للكتاب الذي صدر سنة 1991 على شكل قصيدة عمودية.
** الشعر الكلاسيكي والقصيدة التقليدية أسهل للقارئ من قصيدة التفعيلة لكونها تعتمد على تكثيف الصورة، ومعروف أن "السياب" و"نازك الملائكة" هم أول من اعتمدوها، فهي تعطي قدرة على التخيل وتكثيف الصورة. بينما القصيدة الكلاسيكية تعبر عما يجول داخل النفس الإنسانية بشكل مباشر. في حين أن قصيدة التفعيلة لا تقيد الشاعر بل تعطيه حرية الخيال والتحليق عالياً، أي إن الشاعر يتمتع بحرية في أن يتحرك مع التفعيلة كما يشاء وأن يستخدمها في أكثر من صورة.
يتبادر إلى ذهني صور جميلة لكن بسبب الالتزام بنسق القافية الواحدة في الشعر الكلاسيكي اضطر للتغيير والتبديل.
** لا يوجد إنسان دون معاناة، وجميعاً نعاني من الألم. بالنسبة لي الألم الذي عانيت منه هو فقدان والدي ووالدتي، وقد جعلني ذلك أعيش في حالة وحدة. لكن حتى وأنا صغيرة كنت أشعر بالوحدة، رغم أن عائلتي أحاطتني بالحب والعطف، لكن دائماً كان ينتابني شعور بأنني وحيدة. أحب الألم الموجود بداخلي وأحب العزلة أيضاً. أشكو من الغربة القاسية، غربة النفس والروح، وأعبر عنها بشعري: صعقتني الغربة / وأنا ما زلت أفتش عن زمني / في قلب الغربة.
* ماذا يعني الحب لك؟
** الحب لا يعرف بكلمة فمعناه واسع جداً. وكل فتاة تمر بحالة حب في سن معينة ونسمي ذلك صدمة. دائماً تجتاح الرومانسية الفتاة من الداخل وتجعلها تحلم، لكن عندما تصطدم بالواقع تكتشف أنه لا يوجد معنى للحب في الحياة. أنا ككل فتاة صدمت وأشكر الله أنني تلقيت الصدمة لأصبح شاعرة، فالخد الذي يتلقى الصفعات، على الطرف الآخر يتلقى القبلات. أنا سعيدة نتيجة هذه الصدمة وأنزّل القبعة لمن صفعني لأنه أهداني أدباً واسماً يذكره التاريخ.
** تعرفت على "العجيلي" أثناء وجودي عند معلمي الأستاذ "عبد الله يوركي"، حيث كان منزله مقصدا للأدباء. بالمصادفة دخل الدكتور "عبد السلام" على عجلة من أمره وقد طلبت منه أرقام هواتفه كي أتواصل معه. أنا أحببت أسلوبه في القصة وهو رائد القصة العربية بلا منازع، من ثم أرسلت له كتابي "الطيور المهاجرة" وقد رد علي برسالة جميلة أعطتني ثقة بنفسي لكون أديب كبير بوزن "العجيلي" يثني على كتابي. من هنا بدأت الرسائل بيننا، وهو كان بمثابة أخ وصديق ومرجع رائع بالنسبة لي، وكل شيء أتضايق منه كنت أكتب له عنه، فهو كان مكمن أسراري.
** هناك غاية لـ"غادة السمان" في نشر رسائل "كنفاني"، بينما "آديل" لا تبحث عن غاية في نشر رسائل "العجيلي"، حتى إن الرسائل التي أرسلتها له لا يوجد لدي صورة أخرى عنها، لكن احتفظت برسائله لأن لها موقع كبير في حياتي. لقد زرته قبل وفاته بأسبوع وقال لي "أنت الوفية" وبكى. لقد كنت المرأة الوحيدة التي حضرت جنازته أثناء دفنه.
بالعوده إلى رسائله، لقد عرض علي "هاني الخير" تقديم رسائل "العجيلي" في كتاب، وقد عارضت بالبداية خشية تأويلها، لكن اقتنعت لاحقاً لأن هناك فناً من فنون الأدب يدعى "أدب الرسائل"، وقد طبع الكتاب في دار العلوم الإنسانية بدمشق.
** الأديب المتعدد الأجناس كالذي نقول له "كثير الكارات- قليل البارات". الأفضل أن يكون الأديب في المكان الذي يجد نفسه به. لقد حاولت كتابة أجناس أخرى ونشرت في جريدة "الجماهير" قصصاً قصيرة بعنوان "يوميات امرأة"، لكن لم أجد نفسي إلا في الشعر.
** دائماً نبحث عن هذا الدور، وفي برنامجي الإذاعي على صوت إذاعة حلب والذي يحمل عنوان "أدباء من حلب" أطرح دائماً هذا السؤال على الأدباء الذين أحاورهم، لكن للأسف كان الجواب بأنه دائماً نهتم بفنان ونجم درامي أكثر من الاهتمام بشاعر. يجب أن يكون هناك توجه إعلامي للاهتمام بالأديب، فإذا لم تتوافر له الحياة الكريمة كيف له أن يكتب ومعدته خاوية. الأديب لدينا لا يكرم إلا عندما يموت.
من الجدير بالذكر أن الشاعرة "آديل برشيني" أديبة وشاعرة ومربية، وممثلة مسرحية وتلفزيونية، ولدت في الأول من أيار عام 1958 في حلب. تعمل مدرسة تربية رياضية في إحدى مدارس "حلب"، كما تشرف على إعداد وتقديم برنامج إذاعي في إذاعة حلب بعنوان "أدباء من حلب". لها مساهمات فنية على صعيد المسرح المدرسي والمسرح القومي، والتمثيل التلفزيوني، فشاركت في تمثيل عدد من الأعمال الدرامية مثل: خان الحرير، والثريا، وعرس حلبي، ودوار القمر، وحكايا الليل والنهار، وحوش العيلة. من نتاجها الشعري: الطيور المهاجرة 1991
أوجاع الأسئلة 1993
رسالة محبة للوطن 1993
عندما تغني الروح 1994
نخب الرماد.. كما طبعت كتاب رسائل وذكريات (رسائل العجيلي لآديل) 2007.