تجربة شعرية طويلة تمتد لأكثر من ربع قرن اختصرها الشاعر "عبد الرزاق معروف" في خمسة دواوين ذات حضور بارز ومتميز في المشهد الثقافي في مدينة "حلب"، خمسة دواوين تتنفس من هواء "حلب" والسادس قيد الولادة وهي في مجملها تتضمن شعراً جميلاً يعبر من خلالها شاعرنا عما يجول في داخله من مشاعر رقيقة وأحاسيس مرهفة.
eAleppo التقى الشاعر "عبد الرزاق معروف" وأجرى معه لقاءً تمحور حول بداياته الأدبية والظروف التي نشأ فيها والعوامل التي ساهمت في تكوين شخصيته الأدبية، إضافةً إلى قضايا أدبية أخرى، وفيما يلي نص اللقاء:
أستاذ "عبد الرزاق"، بماذا تحدثنا عن بداياتك الشخصية؟
كانت نشأتي في حارة شعبية حلبية تسمى /"القطانة"/ التابعة لحي "برية المسلخ" أو "جب القبة"، درست الابتدائية في مدرسة "حسان بن ثابت" والإعدادية في "سيف الدولة" والثانوية في "ثانوية هنانو" في العام 1967.
متى بدأت علاقتك مع الأدب، وما العوامل التي ساهمت في تكوين شخصيتك الأدبية؟
** علاقتي بالأدب بدأت بنكتة أو طرفة في حياتي، ففي الصف الرابع الابتدائي كان عندنا معلم /سامحه الله/ لا يُدرّس وذو شكل ضخم، كان يدخل الصف وبيده عصا طويلة ويقول لنا اقرؤوا وكل من كان يخطئ ثلاثة أخطاء كان /يرفعه الفلقة/ وباعتباري كنت طفلا صغيراً كنت أخطئ ثلاثة أخطاء أثناء دوري في القراءة فكان /يرفعني الفلقة/ حتى لا أستطيع أن ألبس حذائي فرسبت في اللغة العربية، وفي السنة التي تلتها جاءنا معلم هو الأستاذ "عبد الحميد قلعه جي" الذي كان رجلاً تربوياً بحق وقد اكتشف ذلك المعلم أن لي ميولاً واضحة للغة العربية فبدأ يشجعني.
كان يأخذ مني كل يوم خمسة قروش /فرنك/ حتى إذا انتهى الأسبوع أعطاني كتاباً في الأدب وقال لي اقرأه يا "عبد الرزاق" وما زلت أذكر أول كتاب أعطاني إياه وهو /الأعرج في الميناء/ من سلسلة الكتاب الفضي عن مصر، وإضافة إلى ذلك كان يصطحبني معه إلى دروس الشيخ "عبد الله سراج الدين" في "جامع الحموي" تحت القلعة ثلاث مرات في الأسبوع.
ذلك الرجل اهتم بي تربوياً ودينياً وأدبياً وأنا الآن كلما صليت أتضرع إلى الله بالدعاء لذلك المعلم الذي له كل الفضل فيما حققته من إبداعات.
في إحدى المرات قال لي: يا "عبد الرزاق" أصبح لديك مجموعة من الكتب فيجب أن نشتري مكتبة وبسبب وضعي المادي قمت بشراء سحارة بندورة /صندوق خشبي/ وغسلتها ووضعت لها باباً وقفلاً وبدأت بتصفيف الكتب فيها.
لقد عشقت القراءة عشقا غريباً حيث كنت مشغولاً عن العالم بالمطالعة والقراءة سواء أكنت مريضاً أم تعباً أم جائعاً، ومن الأمور التي طلبها مني أستاذي هو أن أشتري دفتراً كي أدون عليه الجمل والأفكار التي تعجبني لاستخدامها في الإنشاء والتعبير.
طلب منا مرة أن نكتب موضوعاً حول رؤية شخص يكاد يغرق والقيام بإنقاذه مع وصف استقبال الجمهور، فكتبت أن الجمهور استقبلني كما يستقبلون القائد المنتصر العائد من الفتح حينها التفت إلى الطلاب وقال: زميلكم هذا سيصبح أديباً، فقال له الطلاب بكل بساطة: وهل هو قليل الأدب يا أستاذ؟ فأجاب الأديب هو الكاتب يا أولادي.
باختصار كان لذلك الرجل فضل كبير في مسيرتي الأدبية من خلال تشجيعه لي لدرجة أنني في المرحلة الإعدادية كنت اقرأ لـ"مصطفى صادق الرافعي" و"محمد حسن الزيات" ما كان يعجز عنه طلاب الجامعة حيث كنت قد تجاوزت مرحلة قراءة كتب "المنفلوطي" وغيره، إن "مصطفى صادق الرافعي" هو أستاذي الثاني بعد أستاذي "عبد الحميد قلعه جي" من خلال كتبه وإصداراته التي قرأتها بتمعن وتعمق فأثرت بشكل كبير في مسيرتي.
** الكثير من شباب اليوم يبدوأن القراءة بكتب فلسفية /مثل الفلسفة الوجودية/ حيث يتأثرون بها وينطلقون منها أو يقرؤون عن الحداثة بمفاهيمها السلبية وينطلقون منها برأيي أنه إذا هُيّئ للإنسان في بداياته من يوجهه أو يتوافر لديه كتب ذات قيمة تراثية وأخلاقية ليصبح بعدها حراً فيما يقرأ من الفلسفات، هو الجو السليم والصحي الذي يجب الانطلاق منه، بمعنى يجب على الإنسان أن ينطلق من التراث وذلك بقراءته قراءة واعية حتى تصبح لديه القدرة على الموازنة لينطلق نحو الآفاق الرحبة من المطالعات والدراسات وذلك كفيل ببناء شخصيته السليمة.
أنا أرى أن الثقافة قبل أن تكون تصديراً هي استيراد شخصاني أي أن يصبح من الداخل جميلاً وتكوين شخصيته التي أسميها الشخصية الأنيقة والتي تنتج عن الثقافة الحقيقية ويؤلمني أن أرى شخصاً ضائعا أو مخرّباً من الداخل ويتقمص أفكاراً لا يعرف فحواها.
** نعم، في أواخر الستينيات من القرن الماضي كانت لي زيارات إلى مدينة بيروت، وقد اجتمعت هناك بالشاعر "عمر أبو ريشة" حيث زرته في منزله في شارع الحمراء فتعارفنا وأحبني الرجل وبدأ يدعوني إلى الطعام في بيته ثم كنا ننتقل إلى مكتبه لنتحدث في شؤون الأدب وكان يحدثني عن لقاءاته مع رؤساء وملوك العالم وعن ذكرياته ومسيرته الأدبية، وما زلت أتذكر بأنه كان يركّز على موضوع أساسي في الأدب ومضمونه: "لا بأس أن تطور وتجدد في مسيرتك الشعرية ولكن أن تحطم المسيرة الشعرية العربية وتخرج من إطارها نهائياً إلى مفاهيم تدمر الهوية العربية فهذا مرفوض".
ذات مرة دخلت علينا والدته وقالت أود التعرّف عليك لكثرة ما حدثني عنك "عمر" وجلست وتحدثنا، كانت تحفظ كماً هائلاً من قصائد التصوف وكانت تقول لي: "أنا أقرأ الكتاب الذي يُهدى لعمر قبل أن يقرأه".
كما اجتمعت بالشاعر "نزار قباني" مرتين أو ثلاثة حيث كان له مكتب في منطقة المعرض في بيروت وقد رحب بي وكنا نتحدث مطولاً وبشكل دائم في الشؤون والقضايا الأدبية.
** أنا بدأت بالقصيدة العمودية وقد قرأت في العام 1978 بعضها على "عمر أبو ريشة" و"نزار قباني" في بيروت ولكن قبل طباعتها في ديوان نظمت مجموعتي /الانفجار/ التي تتضمن قصيدة النثر وبعد ذلك توقفت عن القصيدة النثرية فقد وجدت بأن هذا النوع من الكتابة بدأ ينتشر على أيدي أناس لا يتقنونه إلى درجة أنه أصبح شتيمة لصاحبه في مجتمعنا على الرغم من أنه جنس أدبي وله خصوصيته واحترامه وكتّابه من أمثال "محمد الماغوط" المعلم في قصيدة النثر، المشكلة كما قلت أن الناس الذين ليسوا بشعراء أصلاً بدؤوا يكتبون /قصائد الكلا كلا/ ويسمونها قصائد النثر، والآن لدي كتابات في قصيدة النثر وربما في المستقبل أجمعها وأطبعها.
** ربما لأني أتقن القصيدة العمودية جيداً وعندي حس داخلي بأن القصيدة العمودية تحمل رؤى وصورا حداثوية قادرة على إيصال المضمون المعرفي فيها للمتلقي بسهولة.
** حصلت على بعض الجوائز الأدبية عن الشعر في مسابقات شعرية ونشرت في العديد من الصحف المحلية والعربية وكتب عن تجربتي الأدبية الكبار مثل "عمر أبو ريشة" والدكتورة "جواهر عبد العزيز آل الشيخ" من كلية التربية في الرياض، أما بالنسبة للتكريم الرسمي فذلك لم يحدث، وفي إحدى قصائدي قلت حول هذا الموضوع في بيت عتاب يشملني ويشمل كل الأدباء العرب:
"ما أوجع القول إن قالته نائحة/ الأم عائدة والابن قد ذهبا".
وأقصد به التكريم بعد الموت حيث ننتظر المبدع في مختلف المجالات أن يموت لنبادر إلى تكريمه، طبعاً الآن يحدث بعض التكريمات ولكنها لم تأخذ بعد مجالها الواسع الذي يستحقه أدباؤنا.
** هي المواضيع التي لها مضمون أخلاقي وإنساني، والمحور الرئيسي فيها هو الحب والتسامح.
** الشعراء في "حلب" كثيرون وفيهم الكثير من المبدعين والمنتجين ولكن المشكلة هي أن مجالات النشر ووسائلها أمامهم قليلة، فدور النشر مكلفة مادياً وهذه عقبة والصحف والمجلات لا تتسع للكم الكبير من النتاجات الشعرية، وهنا أقترح أن تكون هناك صحيفتان أدبيتان بدلاً من واحدة مثلاً، في "حلب" توجد جريدة الجماهير اليومية التي تنشر نتاجات شعراء "حلب" أقترح أن يصبح لها ملحق ثقافي وأدبي خاص.
** لقد سمعت الكثير من الشعراء الشباب في "حلب" ففيهم الكثير من الموهوبين والمبدعين الذين يقرؤون ويبدعون وينتجون ويجب تشجيعهم للاستمرار والمواصلة، منذ فترة استمعت إلى أحد الشباب في أحد المركز الثقافية وقد أدهشني لدرجة كدت أشك بأن هذا الشاب يستطيع أن يكتب مثل هذه القصيدة وفاجأني أكثر أنه في البكالوريا إذن المشهد مبشر بالخير مستقبلاً على الرغم من أن هناك الكثير من الشباب يسرحون ويمرحون في كتابة ما يسمى قصيدة النثر بشكل يشكل انزياحاً لا علاقة له بالشعر إطلاقاً.
يُذكر أن الشاعر "عبد الرزاق مصطفى معروف" هو من مواليد مدينة "حلب" في العام 1947 يحمل إجازة جامعية في الأدب العربي من جامعة بيروت العربية في العام 1971، وله خمسة دواوين مطبوعة هي: الانفجار- 1978، حصار المرايا- 1992، ربيع آخر للحب- 1999، ابتهال السيف- 2001، مكابدات التوحيدي- 2005، وتحت الطبع ديوان /شرفات البرق/.