"محمّد كرزون" أو "محمّد بن يوسف كرزون" كما يحبّ أن يوقّع أعماله الأدبية، أديب جمّ التواضع والهدوء، يتحدّث بنبرة ملأى بالصدق، تحسُّ من خلالها بوجعِ خفيٍّ عنده، رغم أنّه لا يكاد يُخفي الابتسامة مع محدّثه طوال الجلسة.
التقى به موقع eAleppo في منزله بحلب فكان معه هذا الحوار:
ربما يبدو القَصّ عند بعضهم حالة تعبيرية فنية ليس إلاّ، ولكن القص عند "محمد كرزون" هو حالة أخرى، ليس من السهل أن تقرأ قصصه دون أن تشعر بأنك قد عايشت مثيلاتها، وليس من السهل أن تقرأ قصصه ولا تخرج بينك وبين نفسك بحكمة ما، وليس من السهل أن تقرأها ولا تترك في ذاكرتك أثراً، ربما يبقى لأمد طويل، وعلى كل حال، فإنك ستشعر بأنك متواصل مع هذا الكاتب دون أن تدري، لأنه يكتب عن أهل الريف وأهل المدينة، عن المثقفين وغيرهم، إنه يكتب عنك وعني بكل ودّ وشفافية وصراحة، وهذا سر نجاح كتاباته
** يتّألّق "محمّد كرزون" في الكتابة عندما يكون في حالة صفاء في الذهن. أولاً عندما يحدّثه إنسان بسيط، بسيط جداً في هذا المجتمع، عندما يسمح له أن يكشف كلّ آلامه وذكرياته ومعاناته اليومية، مهما كانت بساطة لغة هذا الإنسان، وثانياً عندما يدع المجال لطالب محب للدراسة أن يحكي له عن دراسته ويستطرد في الحديث عن لذّته في الدراسة رغم المعاناة والصعوبة، ثمّ في الصباح الباكر، بعد الفجر بقليل أرى نفسي في رغبة في الكتابة، فأكتب وأدع ما كتبتُ لأكثر من شهر، ثمّ أراجعه، ولا أصدّق أنّني قد كتبْتُ هذا، على أنّ قراءة بعض الكتب التراثيّة العظيمة تجعلني في عالم آخر من عوالم الإبداع، نظراً لما تمنحني إيّاه من ثراء لغويّ وفكريّ.
** لا أعرف الجواب، لأنّني قليلاً ما أحادث نفسي بهذا الأمر. أترك هذا السؤال لغيري.
** المسابقات الأدبية على الأقل في "الوطن العربي" ما هي إلا لون من ألوان الدعاية والإعلان، لا غير. انظر إلى عددها الذي يزداد في كلّ عام بما يشبه المتوالية الهندسية مَنْ قدّمَ من أسماء؟ وماذا قدّم من أعمال؟ الجواب واضح أنّه لم يقدّم شيئاً مؤثّراً.
الأدب بصراحة ليس لعبة كرة قدم، ولا يُقيَّم الأدباء بعدد النقاط أو الأصوات أو العلامات، هذا ظلم للأدب وللأدباء، ظلم للأمّة جميعاً. الأدب حضارة، ولأشبّهه تشبيهاً أقرب: الأدب بستان، ولا تستطيع التقوّل إنّ التفّاح أطيب من الكرز، ولا أن تقول إنّ التين ألذّ من العنب.. بل إنّكَ لتجد في الثوم والبصل نكهة لا غنى عنها لبعض الطعوم، فهل يمكن أن تُعطي التفّاح علامةً أقلّ من الكرز أو العكس؟، بالتأكيد لا.
** "اتّحاد الكتّاب العرب" في "سورية" أطّر نفسَه في إطار منظّمة، وأغلق على نفسِهِ الأبواب، بينما كان عليه أن يكون مدرسةً تُخرّجُ أجيالاً من الأدباء، فعمر هذه المنظّمة أكثر من 42 عاماً، ومع ذلك عدد الأدباء المنتسبين إليه في حدود الألف. بينما كان على هذه المؤسسة أن تنفتح أكثر وتتغلغل بين الشباب، بين الطامحين من الأدباء. إنّ هذه المؤسسة أو المنظّمة، أو سمِّها ما شئْتَ، تُنتِجُ الكتب والمطبوعات من صحف ومجلات، وكأنّ إنتاجها هو للتقول إنّها تنتج فقط، وهذا لا يكفي، إذ عليها أن تنتج الثمين، والمتنوّع، والشعبي، على هذه المنظّمة أن يكون لها دور شعبي في الترويج ليس للأدب وحسب، بل للقراءة، فلا أدب دون قرّاء، فمن غير المقبول أن تكون نسبة أكثر من (40%) من الأسماء متداولة في معظم كتب ودوريّات الاتحاد، ونسبة (60%) الباقية لبعض المجرّبين للكتابة الذين لم يكتبوا سوى ما نشرته لهم مطبوعات الاتحاد.
** أرى أنْ تُقام مسابقة أو مسابقات على النحو الآتي، مثلاً مسابقة "أمير الشعراء" التي تُقام سنوياً في دولة "الإمارات"، لماذا لا يُعلَن أنّها مفتوحة لجميع الشعراء، وأن تصلهم دواوين تزيد على المئات، وتقوم لجنة أو لجان بقراءة هذه الدواوين واختيار 100 ديوان منها، وتُطبَع هذه الدواوين، وتوزّع بكميات لا تقلّ عن ألف نسخة من كلّ ديوان، وأن يكون التوزيع مُتاحاً لهذه النسخة الورقية في كلّ أرجاء "الوطن العربي"، بالإضافة إلى ميزة تصفّحها مجّاناً على الإنترنت، على أن يقوم بعض أعضاء اللجنة بتقديم كلّ ديوان بما لا يقلّ عن 10 صفحات ولا يزيد على خمس وعشرين صفحة، ويكون هذا التقديم قراءة نقدية جمالية، بل يكون نفحة مشجّعة لقراءته، وبذلك نكون قد أنتجنا على مستوى "الوطن العربي" مئة ديوان سنوياً من مسابقة واحدة، وفي غضون عشر سنوات نحصل على ألف ديوان جديد، ويكون لدى كلّ شاعر فرصة للحضور الأدبي، ولو كان يعيش في مكانٍ ناءٍ. هذا على مستوى المسابقات الكبرى. أمّا المسابقات الصغيرة فالأمر لا يختلف كثيراً، لنأخذ مثالاً مسابقة مجموع جوائزها خمسة وعشرون ألف ليرة سورية، يمكن أن يُطبع بهذا المبلغ كتاب يضمّ نصوصاً لعشرة أدباء، بخمسمئة نسخة، وهكذا. المهمّ أن يكون للمبدع كتاب يضمّ إبداعه.
** أدب الأطفال شحيح في "الوطن العربي" عموماً، والسبب غياب المتخصّصين في تدريس هذا الأدب، وغياب موادّ التدريس في كلّيّات الآداب والإعلام والتربية في معظم جامعات "الوطن العربي"، إن لم أقل كلّها، والكتابة للطفل تحتاج إلى دراسات نفسية واجتماعية معمّقة. الإبداع للطفل حسّاس جداً، ولهذا فإنّ الكتّاب يستسهلون الكتابة عندما يقتصر معظمهم على الكتابة للكبار. عموماً يحتاج "الوطن العربي" إلى مؤسّسة حقيقية ترعى الكتّاب وتُساهم في تدريب كتّاب شباب على الكتابة للأطفال، على أن تكون هذه المؤسّسة مستقلّة استقلالاً مالياً وإدارياً حقيقياً.
** دور النشر ظالم ومظلوم في آن معاً. وهذا الأمر يجسّد الواقع العربي المتناقض. سوق الكتاب في بلادنا من أسوأ ما يكون، والسبب غياب التفعيل المنطقي للقراءة، ولا سيّما في المدارس والجامعات. وصاحب دار النشر في المحصّلة تاجر، يهمّه رواج سلعته، فهو يبحث عن الكتاب الأكثر مبيعاً، لا الأكثر فائدة. ولذلك ترى أنّ كتب الطبخ والأبراج يُباع منها بعشرات الآلاف، بينما يحارُ أديب مشهور في أن يطبع (500) نسخة أو (250) نسخة من آخر إنتاج له.
**لا.. ليس بالضرورة، من المهمّ أن يكون الكاتب مثقّفاً ثقافةً متنوّعة، ليس في مجال الأدب وحسب، بل في مجال العلوم والمعارف والفنون، ربّما تتفتّح لدى الكاتب مواهب الكتابة في الشعر والقصّة والخاطرة والدراسة الأدبية، ولكن لا ضير من أن يقتصر على نوع واحد، وللعلم فإنّ الاختصاص مطلوب في شتّى العلوم، ولكن في الأدب والكتابة الأدبية لا بأس من التنقّل بين الفنون الأدبية.
** مستوى الأدب النسائي كمستوى الأدب الرجالي، كلاهما متخلّف، إلا ما ندر.
** عملهم هذا يعني ابتعاداً عن التثاقف. مَنْ يدّعي الواقعية فعليه أن يتحوّل إلى آلة.. إلى كاميرا.. إلى مسجّلة، والأديب ليس مسجّلة، إنّه يعيد إنتاج الواقع، ليحمّله رؤيته ويقدّمها للآخرين، واللغة الفصيحة واسعة الأطياف والمدى، إلى الحدّ الذي جعلها خلال قرون كثيرة تستمرّ وتتألّق، بينما نرى وبكلّ وضوح محدوديّة اللهجة الدارجة.
** كلّ ما أطلبه هو الموضوعية والإنصاف، والابتعاد عن الشللية والمحسوبية. كلّ نصّ يجب أن يُقيّم بذاته، بعيداً عن اسم كاتبه، سواءٌ أكان مشهوراً أم مغموراً. المحرّر عندنا بعيد عن حِرَفيّة التحرير، إنّه ينتظر أن يأتي الأديب إليه، وهو لا يكلّف نفسه بالبحث عن الأديب. أصدقُكَ القول إنّني في مدينة "حلب" نشرْتُ في إحدى السنين أكثر من (25) مادّة أدبية في صحيفة "الجماهير"، ثمّ انقطعْتُ عمداً عن الكتابة، للأسف الشديد لم أتلقَّ أيّ اتّصال من أحد أعضاء هيئة التحرير بمعاودة الكتابة، بينما نشرْتُ خمسة أعمدة في صحيفة "القبس" الكويتية خلال ثلاثة أشهر، وتوقّفْتُ، وإذا بالمحرّرة للصفحة الثقافية تهتف لي وتقول: أينَ أنتَ؟ قُرّاؤكَ في انتظار الجديد منك، وحكاية "الجماهير" تكاد تكون مقبولة بالقياس إلى الموادّ التي أرسلْتُها إلى المجلات السورية الأخرى الرسمية وغير الرسمية، إذْ لم يصلني منهم أيّ ردّ حتّى بالوصول.
الشاعر "غازي سعيد العابد" تحدث عن نتاج الأديب "كرزون" قائلاً: «ربما يبدو القَصّ عند بعضهم حالة تعبيرية فنية ليس إلاّ، ولكن القص عند "محمد كرزون" هو حالة أخرى، ليس من السهل أن تقرأ قصصه دون أن تشعر بأنك قد عايشت مثيلاتها، وليس من السهل أن تقرأ قصصه ولا تخرج بينك وبين نفسك بحكمة ما، وليس من السهل أن تقرأها ولا تترك في ذاكرتك أثراً، ربما يبقى لأمد طويل، وعلى كل حال، فإنك ستشعر بأنك متواصل مع هذا الكاتب دون أن تدري، لأنه يكتب عن أهل الريف وأهل المدينة، عن المثقفين وغيرهم، إنه يكتب عنك وعني بكل ودّ وشفافية وصراحة، وهذا سر نجاح كتاباته».
ننتهي إلى القول بأن "محمد كرزون" من مواليد "حلب" عام 1955 وحاصل على الإجازة في اللغة العربية وآدابها من كلية الآداب بجامعة حلب 1982، ويكتب المقالة والدراسة الأدبية والقصة القصيرة والشعر وينشر في المجلات الثقافية في "سورية" و"الوطن العربي"، وقد صدر له أكثر من 11 مؤلفاً تراوحت بين البحث الأدبي والشعر والمقالة والقصة القصيرة، منها: جحا رائد الظرفاء، الخنساء سيرة تاريخية أدبية، عودة جحا، المكتبة المنزلية، اللغة العربية هموم وطموحات" بالإضافة إلى إصداره مؤخراً لمجموعة قصصية تحت اسم "الأبواب المفتوحة".