يقع "جامع البختي" في "محلة أغيور" ملاصقاً لمقبرة "جبل العظام"، وهو من الجوامع القديمة في مدينة "حلب" وأحد المساجد الجامعة الثلاثة التي كانت خارج الأسوار في العصر الأيوبي.
وللتعرف على تاريخ هذا الجامع وحضوره في حياة مدينة حلب التقى موقع eAleppo بالدكتورة المهندسة "بغداد عبد المنعم"* التي استهلت حديثها قائلة: «بعيداً جداً عن الأحياء الجديدة في مكانٍ يناديه العَدَمُ مثلما تناديه الحياة، وفي زمانٍ كأنه لا ينتمي إلى الحاضر إلا انتماءً آلياً ويقيناً أنه يرتبط بالأعماق التاريخية باعتبارات كثيرة وليست تلك الأعماق على سوية واحدة بل تنفلتُ من مسارب زمنية متفاوتة تبدأ، ربما من اللحظة التي كانت فيها هذه المنطقة تُسمَّى بالرمَّادة إلى هذه اللحظة التي ما زالتْ تحمل روائح كل الأشياء السابقة باقتدار وشغف، رائحةُ الفحم وضريح الشيخة "تاج بخت" وأرواح المكان المحتشدة باطمئنان عجيب بل قد يكونُ في هذا المكان حضورٌ قديمٌ جداً /ما قبل تاريخي/ فثمة عظام قديمة متكلسة كانت في منطقة المقبرة حتى سُمِّيَتْ بجبل العظام.
الساكنون حول الجامع والأضرحة والقباب والضريح المميز فهم "آلُ الهندي" القَيّمُون على الجامع والضريح وقد ذكروا لي أنَّ أجدادهم جاؤوا من الهند منذ مئات السنين، مؤذن المسجد الشيخ "أحمد الهندي" وقبله والده وقبلهما كان جده الحاج "زاهد الهندي" والشيخة "تاج بخت" صاحبةُ الضريح وهي جدتهم التاريخية الكبرى وأمَّا بيوتهم فتبدأ من تلك الغُرفة وفيها ضريح الشيخة وضريح خادمتها
أمَّا أثرُنا الذي نسعى إليه /"جامع البختي"/ فملاصقٌ لهذا الجبل ومتوارٍ خلف درجٍ ثم درجٍ ثم زُقاق ضيق متعرج وطويل فشارعٌ معبد جديد حتى يظهر البابُ الخارجي الجديد وأمَّا الجزءُ القديم فلا يظهر بسرعة كأنَّ هذا المشهد يُشَكِّل مقدمةً طبيعية لما سيأتي من غموضٍ وأبعاد متوارية».
وتابعت: «الساكنون حول الجامع والأضرحة والقباب والضريح المميز فهم "آلُ الهندي" القَيّمُون على الجامع والضريح وقد ذكروا لي أنَّ أجدادهم جاؤوا من الهند منذ مئات السنين، مؤذن المسجد الشيخ "أحمد الهندي" وقبله والده وقبلهما كان جده الحاج "زاهد الهندي" والشيخة "تاج بخت" صاحبةُ الضريح وهي جدتهم التاريخية الكبرى وأمَّا بيوتهم فتبدأ من تلك الغُرفة وفيها ضريح الشيخة وضريح خادمتها».
وتحدثت د."بغداد" حول معنى اسم الحي الذي يقع فيه الجامع: «"أغيور" هو اسم الحي الذي يقع فيع "جامع البختي" وهو تركي "أغيور"، "آقيول"، "آق يول" أي الطريق البيضاء وهذا الاحتمال وارد لأنّ التربة كلسية بيضاء في هذه المنطقة، أو هو "آغا يولي" ويعني طريق الآغا أي أمير السكان في الحي وهو من الأتراك، لقد كان في هذا الحي من العهد العثماني أربعة مقاهٍ وثلاثة أفران وخمسة خانات زالت جميعها بعد أن شُقّ فيها في الخمسينيات شارع عريض فتغيرت المعالم ولم يبق إلا "جامع البختي"».
وحول تاريخ إنشاء الجامع قالت مضيفة: «أنشأ "جامع البختي" "عيسى بن موسى الكردي" في عهد السلطان الناصر "يوسف الثاني" سنة 645هجرية وجدده السلطان "عبد الحميد الثاني" العثماني.
في التأريخ لهذا الجامع استندت المصادر إلى بعضها البعض وذلك من الأحدث إلى الأقدم واستندت إلى نص واحد تقريباً، فيذكر "طلس" عن "ابن الشحنة" في /الدر المنتخب/ والذي بدوره يذكر إحصاءَ "ابن شداد" أنّ بالرمَّادة أربعة وثلاثين مسجداً، و"الرمادة" محلة كبيرة كالمدينة في ظاهر "حلب" متصلة بالمدينة وفي هذا المكان المسجد الذي يُعرف بجامع البختي وقد خُرّبت هذه المساجد فيما يظهر بعد حادثة "تيمورلنك" في القرن الثامن الهجري.
في شهر رمضان من سنة 1311 هجرية أمر السلطان "عبد الحميد خان" العثماني الثاني" بترميم هذا الأثر القديم فأعيد بناؤه وأصلح صحنه وبابه وكُتب على بابه أربعة أبيات نظمها علامة "حلب" وأديبها الشيخ "بشير الغزي":
انظر إلى آثار رحمة ربنا /أحيا الموات وعاد بالإحسان
وإلى صنيع مليكنا الغازي الذي /سعد الزمانُ به وكل مكان
فلأمة المختار جدد جامعاً /حتى تُقام عبادة الرحمن
فلتغتبط إذ أرخوهُ بعيدها /قد شادهُ الملكُ الحميد الثاني.
ويبدو أنّ اسم المسجد اُكتسب من اسم صاحبة الضريح الشيخة "تاج بخت" وهو اسم بتركيبة غير عربية ومعناه "أميرة الحظ" والبخت من الفارسية هو الحظ والطالع وربما كان المقصود أن يكون "جامع البختية"، ولم يفسر معنى اسم الجامع أي البختي أيٌ من المصادر والمراجع التي عُدت إليها وهي على الأغلب جميعُ المصادر التي أرّخت للجامع وهذا باعتقادي غريب».
وحول الجامع من الناحية المعمارية تضيف: «ليس ثمة قبة شاسعة تسقف بيت الصلاة كما في السمات العامة للعمارة المساجدية العثمانية وربما ليس لهذا الجامع من عثمانيته إلا زمنُ تجديده ولعل الترميم لم يتركْ من الوجه القديم أثراً كبيراً أو أنّ الزمن أتعب الكثير من عناصره القديمة ومنها المنبر الخشبي الذي ذكرته المصادرُ والمراجع التي أرخت لمدينة "حلب" ولمساجدها، غير أنَّ الشيخ "أحمد الهندي" مؤذن المسجد أخبرني بأنَّ المنبر كان مهترئاً لدرجة عدم إمكانية ترميمه وتمَّ ترحيله وقد بُني منبرٌ حجري جديد، أما بيت الصلاة فمستطيل متطاول وهو معمارياً مع المئذنة يعودان إلى العهد العثماني، مئذنته تبدو شديدة البساطة دائرية تعلوها مظلةٌ دائرية وهي بدورها لا نصيب لها من الهُوية العثمانية إلا زمنُ ترميمها.
القبلية أو بيت الصلاة يتشكل من مسقط مستطيل متطاول 27,5 x 6 م، والمحراب وهو جديد يتوسط الضلع الطويل وإلى جانبه المنبر الحجري الجديد أيضاً وعلى يمين المحراب في غربي القبلية تم التسقيف بأقبية متقاطعة تستند إلى ركائز ومن شرقيها تم التسقيف بقبتين متجاورتين متشابهتين كل منهما نصف كروية تستند على أربع مثلثات كروية ثم أربعة أقواس مُدببة ارتفاع ذروة القبة حوالي 8 م.
أرضية الصحن مبلّطة تبليطاً جديداً وتمَّ وضع سقف مستعار للصحن ضلعاه الشرقي والشمالي رواقان تتقدمهما الأقواس المدببة بركائزها والضلع الغربي فيه المئذنة ثم الباب القديم للجامع ويليه جدارٌ يُعتقد أنه مكانُ قسطل قديم كان يغذي الجامع وفي وسط الجدار كتابة قديمة.
إذاً معمارياً نحن عند جامع بسيط وصغير، الواجهة الخارجية كما هو في السمات العامة العثمانية بسيطة خالية من الزخارف وكذلك واجهة القبلية تخلو من أي عنصر زخرفي عدا نقش لأبيات شعرية فوق باب القبلية.
على الحائط الغربي الحالي للجامع ومن الخارج –والكلام ما زال لها- نجدُ ما يوحي بأنه كان في هذا المكان قسطل بحوضه فثمة ثلاثة درجات جديدة نصعدُ فمساحة مبلطة وعلى الجدار المذكور بقايا حفرة أو حفرتان وكتابة في الأعلى /وسقاهم ربهم شراباً طهوراً/ مؤرخة من سنة 1312هجرية، وعلى نفس الجدار ولكن من الداخل هناك بقايا لما يمكن أن يكون قسطلاً قديماً طُمست بأعمال الترميم وغطتها الخزانة التي وضعت في هذا المكان.
وفي شمالي الجامع حيث بيوت عائلة "الهندي" تقع تلك غرفة الضريح التاريخية بسقفها الواطئ، فبعد الدخول من الباب الصغير نصعد بضع درجات لنصل إلى مستوى الضريح، لقد سُقِّفت غرفةُ الضريح بقبو نصف اسطواني /قبو مهدي/ لا يرتفع أكثر من متر عن أرض الغرفة ويبدو على المكان أنه لم يخضع لأية عملية ترميم منذ قرون سوى عملية تزريق بالطينة الإسمنتية للضريح وحين حاولتُ العثور على نقوش عليه لم يكن ثمة شيء».
وفي قسم /الجوامع والمساجد/ الذي ألفه كل من الدكتور "سالم خلف" والدكتور "عدنان مامو" في كتاب /تقصى خطا الدولة العثمانية في "حلب"/ جاء حول الجامع: «أنشأه الحاج "عيسى بن موسى الكردي" سنة 645/1247 وهو أحد المساجد الجامعة الثلاثة التي كانت خارج الأسوار في العصر الأيوبي في حين بقي "الجامع الأموي الكبير" المسجد الجامع الوحيد داخل الأسوار إلى أن أنشئ جامع "ألتون بغا" في العام 1318م، وقد هُجر الجامع بعدما دمر "تيمورلنك" المنطقة المحيطة بها وشارف على الانهيار ولكن أعيد بناؤه أيام السلطان "عبد الحميد الثاني" سنة 1311/1893.
لهذا الجامع أهمية كبيرة في الذاكرة الشعبية إذ يسود اعتقاد عند الفتيات بأنّ زيارة "جامع البختي" تجلب لهن البخت /الحظ/ ولذلك نرى أكداساً من أشيائهن وثيابهن في غرفة مخصصة لذلك لتبيت عند البختي ثم تلبسها الفتاة طالبة الزواج وسرعان ما تتم خطوبتها».