تشتهر مدينة "حلب" بأسواقها التجارية القديمة التي تعود بتاريخها إلى تاريخ بناء مدينة "حلب" نفسها وتعد الأولى في جميع أنحاء العالم من حيث كبرها وسعتها وتعدد الفعاليات الاقتصادية التي تُمارس فيها منذ أقدم الأزمنة وحتى يومنا هذا، وقد لعبت هذه الأسواق عبر التاريخ دوراً بارزاً في تاريخ المدينة الاقتصادي والتجاري والسياحي والإداري.
حول تاريخ هذه الأسواق وميزاتها يقول مؤرخ "حلب" المعاصر "عامر رشيد مبيض": «تعود أصول أسواق "حلب" إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد أي إلى عهد "ياريم ليم" ملك "حلب" فقد أقيمت المحال التجارية على طرفي الشارع المستقيم الذي يمتد بين "باب إنطاكية" ومعبد القلعة حيث كان الحجاج يأتون إلى "حلب" بغية زيارة الإله الحلبي الكبير "حدد"، و"باب الجنان" بحلب هو أول سوق هال في التاريخ، ويرتقي بناء هذه الأسواق الموجودة اليوم إلى "نور الدين زنكي" ثم توسعت في العهد الأيوبي ثم في العهدين المملوكي والعثماني.
في المدينة القديمة داخل الأسوار نجد أسواق "حلب" الرائعة التي تمثل حياً قائما بذاته في جنوب غرب القلعة والتي تمتاز عن كل أسواق مدن الشرق الأوسط الإسلامي الأخرى، فهي عبارة عن أسواق مستورة بألواح خشبية عتيقة وأقمشة مهلهلة بالية بل مغطاة بعقود حجرية سميكة هي أشبه بالأروقة تحمي من وهج حر الصيف ومن برد الشتاء بأمطاره وثلوجه أما التنوير فيتحقق بمقادير معقولة من خلال كوات مفتوحة في السقف تنير الممرات بواسطة حزم من أشعة الشمس التي تندفع وكأنها أنوار المصابيح الكشافة
لقد كانت الأقمشة والملابس والأحذية والأنواع المختلفة من القبعات والحلي منذ القرن السادس عشر هي السلع الرئيسية المباعة في الأسواق وكانت البهارات والسجاد تحتل مكانة هامة ومع تحديث موضات الحياة اندثرت معظم الملابس التقليدية ما عدا الألبسة المخصصة لأهل البادية أو للمجموعات المتمدنة المحافظة، أما صابون "حلب" الغار فهو مشهور جداً في كل أسواق العالم ويُصدّر بشكل واسع وما زال أحد الأسواق الحلبية يحمل اسم "سوق الصابون" رغم أنّ هذا المنتج لم يعد يباع فيه منذ زمن بعيد، وفي العهد العثماني 1516 -1918 كانت "حلب" تشكل المدينة الرئيسية للتجارة بين بلاد الشرق والغرب وإذا كانت السفارات الغربية واقعة في استانبول فإنّ المهام القنصلية الرئيسية كانت تتم في "حلب"، وابتداءً من القرن الثامن عشر بشكل خاص بدأ القناصل والتجار الأوروبيون يتمنون السكن في "حلب" مع عائلاتهم مؤسسين بذلك سلالات راسخة.
وكدليل على أهمية "حلب" وأسواقها التجارية قبل فتح قناة السويس يقول أحد الرحالة: /إنّ ما كان يُباع في أسواق القاهرة خلال شهر كامل كان يباع في أسواق "حلب" في يوم واحد/ وقد امتدت الفعاليات التجارية والصناعية والمهنية واليدوية في أسواق "حلب" لتغطي 16 هكتارا من مساحة المدينة أما طول السوق بتفرعاته فيبلغ أكثر من 13كم وتشغل هذه الأسواق اليوم آلاف المحلات، ومن "باب إنطاكية" إلى "سوق الزرب" توزعت 39 سوقاً وعدد كبير من الخانات والقيساريات، تتلاصق هذه الأسواق الواسعة والكبيرة بعضها إلى جانب بعض على مجمل طولها وتتخصص كل منها لمهنة محددة».
أما الدكتور "محمود حريتاني" المدير السابق لآثار ومتاحف سورية الشمالية فيقول عن تاريخ أسواق "حلب": «إنّ أهم شواهد الألف الأول قبل الميلاد والتي لا تزال ماثلة إلى العيان هو بد تشكل /المدينة/ القديمة على طرفي الشارع المستقيم الممتد بين "باب إنطاكية" إلى سفح "قلعة حلب" وتفرعاته التي تظهر على الشكل الشطرنجي وهو التخطيط المعروف في الفترة السلوقية في القرن الرابع قبل الميلاد وهذا ما نرى شبيهاً له في دمشق /السوق الطويل/ الممتد حتى باب شرقي وفي أفاميا /قلعة المضيق/ وتدمر /الشارع المستقيم/ وفي جرش بالأردن وغيرها من المدن التي بناها "سلوقس نيكاتور" 312 -280 قبل الميلاد وهو أحد قواد "الإسكندر المكدوني"، وعلى طرفي الشارع الرئيسي في "حلب" بُنيت المخازن وتلك هي نواة الأسواق القديمة التي توسعت فيما بعد وأصبحت على ما هي عليه اليوم».
ويضيف: «هذه الأسواق هي الشاهد على عراقة "حلب" وتطورها عبر التاريخ وخاصة على صعيد العالم القديم /آسية افريقية أوربة/ حيث بدأت سيرتها كما قلت في القرن الرابع قبل الميلاد وتستمر بنشاط متزايد إلى اليوم حيث يجد فيها المرء كل حاجاته /من حصيرة القش وحتى اللآليء/ كما قال عنها أحد الرحالة في القرن السابع عشر، إنها بلغة العصر الحالي أكبر سوبر ماركت في العالم ولو صفت مخازنها على نسق لبلغت المسافة عدة كيلو مترات أما لو ركّبت محلات أسواقها الست والثلاثين وخاناتها السبع والعشرين وقيسارياتها الست وحماماتها وجوامعها ومساجدها ومقاهيها فوق بعضها لطاولت أكبر ناطحات السحاب في العالم.
تعد أسواق "حلب" فريدة من نوعها ووحيدة في اتساعها وسقوفها ومناخها وتوزيع النور فيها /قبل أن تظهر الكهرباء/ وأخيراً في تقاليد البيع والشراء والتي جعلت من التاجر الحلبي معروفاً من أقاصي الصين حتى سواحل المحيط الأطلسي وفي فرنسة واسبانية».
ويقول الدكتور "عبد الرحمن حميدة" في كتاب /محافظة "حلب"/ منشورات وزارة الثقافة السورية 1992 ما يلي حول أسواق مدينة "حلب": «في المدينة القديمة داخل الأسوار نجد أسواق "حلب" الرائعة التي تمثل حياً قائما بذاته في جنوب غرب القلعة والتي تمتاز عن كل أسواق مدن الشرق الأوسط الإسلامي الأخرى، فهي عبارة عن أسواق مستورة بألواح خشبية عتيقة وأقمشة مهلهلة بالية بل مغطاة بعقود حجرية سميكة هي أشبه بالأروقة تحمي من وهج حر الصيف ومن برد الشتاء بأمطاره وثلوجه أما التنوير فيتحقق بمقادير معقولة من خلال كوات مفتوحة في السقف تنير الممرات بواسطة حزم من أشعة الشمس التي تندفع وكأنها أنوار المصابيح الكشافة».
ويضيف: «تؤلف هذه الأسواق تيهاً معقداً من طرق متصالبة أو متوازية يمتد مجموعها على مسافة 15 كم ويحمل كل سوق اسماً خاصاً به مثل "سوق الفرائين" و"سوق السراجين" و"سوق الزرب" و"سوق العطارين" و"سوق العبي" و"سوق الخيش"، غير أنّ هذه الفعاليات الخاصة بهذه الأسواق والتي منحت الأسواق أسمائها قد اندثرت في معظمها كصناعة العبي والأحذية الحمراء /الصرامي/ حتى إن الحبال لم تعد تصنع من القنب بل من النايلون، ويتمم هذه الأسواق المختلفة سوق خاص بالمطاعم والحلويات هو "سوق السقطية" حيث تتصاعد روائح شواء اللحم من الدكاكين».
وأخيراً تقول الدكتورة "بغداد عبد المنعم" في كتابها /"حلب"- مدينة أم أغنية من مقام القلعة -منشورات وزارة الثقافة السورية 2006: «تتحقق في عمارة هذه الأسواق ما تحقق في مجمل العمارة الإسلامية المدنية فنظراً لكونها تتمركز في التجمعات السكنية فإنها تنفتح إلى الداخل وتلك من أوضح السمات في الهوية المعمارية الإسلامية /أي سمة الانفتاح على الداخل/ فالمدينة الإسلامية عادة مدينة متقاربة ومتجاورة بشدة في مجمل تكويناتها المعمارية فالبيوت متلاصقة جداراً بجدار ومتعانقاً باباً بباب وبالرغم من هذا التكتل الكثيف إلا أنّ ثمة انفتاحات داخلية عبر الفناءات الملتحمة مباشرة بسماء عالية وواسعة ومتفردة وتلك سمة معمارية إسلامية تلمس بقوة في عمارة الأسواق ففي الوقت الذي تنفتح فيه على بعضها ويفضي أحدها إلى الآخر فهي تنغلق معمارياً على الخارج الذي يصله بها تلك الأبواب الضخمة التي تُقفل في نهاية يوم من البيع والشراء.
وبالرغم من أنّ بعض المستشرقين الذين مروا بأبحاثهم بهذه العمارات الإسلامية اعتقدوا أنّ بنية السوق الإسلامية قد أُخذت من المدن الرومانية "فقد كانت الأسواق في المدن الرومانية تقام حول الميدان Forum والمعابد والكنائس ثم أنشئت الدكاكين على جانبي الشوارع وشاع ذلك في العصر البيزنطي*"، غير أنّ السوق الإسلامية تعتبر مرحلة متطورة على ذلك، مرحلة تسربت فيها القيم الإسلامية في طريقة الإخراج المعماري كما تداخلت في عصب الوظيفية معطية بالنتيجة تخطيطاً مدنياً إسلامياً مرتبطاً بحياة المجتمع وحركته الشاملة.
موضوعياً ليس هناك عمارة حضارية مستمرة بدأت من الصفر تماماً فقد أخذت هذه الأسواق بعض الأشياء والعناصر المعمارية والتي سبق وجودها في العمارة البيزنطية والرومانية وأدخلتها في رؤية تخطيطية وتشكيل معماري مختلف وذلك ما يؤسس لدعوة إلى نقد الرؤى الاستشراقية العابرة سريعاً في عمارتنا ولا سيما ما ذكره "ستيرن" و"سوفاجيه" من إحالتهم التكوينات المدنية الإسلامية مثل الأسواق إلى أصولها اليونانية».