أكثم عبد الحميد: الحس التعبيري يولد في الخيال متعة التصور والاكتشاف
علاء الجمّال
"أكثم عبد الحميد" نحات سوري، عرف عنه التمسك بالقيم الإنسانية في التشكيل النحتي، والهيام باكتشاف النحت تاريخياً عبر حضارات "بلاد الشام"، والسعي الدائم نحو إحداث ملتقيات ترقى بهذا الفن في "سورية"، وتعيد إليه مكانته وحضوره عالمياً..
eCalendarزار النحات "أكثم عبد الحميد" في /13/11/2008/ بمكتبه في معهد الفنون التطبيقية "بدمشق"، واستوفى منه رؤية حول إبداعه الوجودي كفنان، وبحثه في البعد الجمالي للتاريخ، عبر هذا الحوار:
ــ يذكر أنك تهوى خامة "الخشب" في النحت، كيف اكتشفت هيامك بها؟
توجهت في بداياتي إلى معظم الخامات، ولم أركز في عملي على خامة معينة، لكن عندي إيمان أن كل شخص يمتلك كيمياء في جسده أو فلسفة وجودية تحدد محبته للخامة التي يود العمل معها، كأن يفضل مادة "البرونز" على "الذهب" مثلاً، وهذه العملية تأتي من خلال الإسقاط البصري على الخامة من ثم استرجاعها إلى الذهن الإنساني ليقوم بتحليلها وتحديد مقوماتها لتكون هي خامة النحت أو لا، من هنا ومع التجريب المستمر اكتشفت هيامي بخامة "الخشب" المادة الأكثر شمولية واستخداماً في الحياة، موجودة في الطبيعة والشوارع والبيوت..
ــ الخشب خامة متسمة بالطراوة والأنوثة، كيف تتعامل معها عبر إيحاءاتك البصرية؟
جذبتني هذه الخامة من خلال اللون والرائحة والملمس.. كما إن طبيعتها المرنة واللطيفة والتواءات خطوطها اللينة تماثل طبيعة المرأة، وذلك حرض ذائقتي على إظهار التكوين النحتي بشكل رمزي يمثل جسد امرأة، وهذا الاقتباس اتسمت به معظم الأشكال التي قمت بنحتها.. أما خبرتي في تشكيل هذه الخامة ازدادت مكانتها عبر توالي معارضي الشخصية.. والإيحاء الذي يملكني عند ملمسها هو العمل على إحيائها وإظهار قيمها الجمالية بمنحوتات وأشكال مختلفة.. بعد أن كانت معطاءة بزهرها وثمرها، وأصبحت مجرد جذع أو غصن أو مقطع يابس ميت.
ــ "البرونز" له خصوصية في عملك النحتي، ما السبب في ابتعادك عنه؟
أوليت "البرونز" كثيراً من الاهتمام، وصنعت العديد من التماثيل نالت حيزاً من العرض في أكثر من معرض.. والمؤسف أننا لا زلنا في "سورية" نفتقر إلى تقنية جيدة لصب خامة "البرونز"، فالفنان يشكو من سوء نسخ هذه الأعمال، فمثلاً عندما أصمم تمثال بتقنيات عالية وأرسله للصب، يأتيني بتقنية غير جيدة فأعود للعمل عليه ولساعات طويلة حتى تظهر نسبة /70 %/ من شكله عندما قدمته "كماكيت" للصب والنسخ في البداية.. هذا النقص سبب لي القلق والانزعاج وأبعدني عن تشكيل هذه المادة رغم محبتي لها.
أما الخامات الأخرى مثل الرخام والبازلت وبعض الأنواع الحجرية.. كان لها حيز من اهتمامي، ونلت عليها عدة جوائز عالمية في ملتقيات نحت مختلفة أقيمت داخل وخارج سورية، ومنها ملتقى "دبي" حيث نلت الجائزة الثانية على /40/ نحات مشارك من دول العالم، وعملي النحتي شكل تجريدي يمزج الحداثة والتراث الإسلام بارتفاع /4/ أمتار.
ــ "البازلت" لك تجربة معه؟
لي تجربة مع حجر "البازلت"، كانت في ملتقى النحت " بالسويداء"، حيث تعاملت معه بعفوية وبساطة، وفكرة العمل استلهمتها من تراث و أثار منطقة "سيع" أرض الملتقى، وهي بورتريه لامرأة يمثل انطباعي عن المنطقة، وما شهدته فيها.
الحس التعبيري يخلق التصور والاكتشاف
ــ النحت فضاء تعبيري تسوده الرموز والدلالات.. ما وصفك للحالة الإبداعية التي تجمعك معه؟
قال أحدهم "لبوذا" «علمني النحت يا "بوذا"»، فأجابه: «تعلم الرسم والرقص والموسيقى والفلسفة أولاُ ثم تعال لأعلمك النحت»، وفعلاً النحت فضاء تعبيري يحمل كل هذه الصفات.. والإبداع فيه يحتاج إلى ثقافة واسعة لكي تتحول مفاهيمه إلى مادة ملموسة تحمل الرموز والدلالات والمعاني الإنسانية.. فهو أول عملية إبداعية للإنسان القديم عندما رسم حزنه وفرحه وعنائه في الطبيعة على جدران الكهوف والمعابد..
ــ الفراغات في كتلك النحتية، ما الانطباع الذي تتركه في نفسك؟
الفراغ في عملي النحتي، وضمن المسار التشكيلي الذي أتبعه مهم جداً، وبقدر ما احتوت الكتلة على فراغات وتحويرات مدروسة بصدق وعمق، بقدر ما اكتسبت أهمية وظهرت جماليتها من حيث الصياغة والملمس، وكلما ازدادت الأهمية ازداد الرضا في نفسي عنها.
ــ الخطوط المنحنية تعدّ أساساً في منحوتاتك بعد التشكيل الهندسي لها؟
البداية في العمل التشكيلي تأخذ شكلاً هندسياً، ثم تأخذ المنحى التكاملي الذي يصل به الفنان إلى تصوره الذهني نحوها، ومنحوتاتي تحمل الشكل الهندسي والخط المنحني، الأساس في تشكيلها، لأن الخط المنحني موجود في طبيعتنا "السورية" وفكرنا وطبائعنا لأنه خط عاطفي، فإذا لاحظنا الجبال والطبيعة في بلادنا نجدها خطوطاً منحنية، بينما الطبيعة في "أمريكيا" بجبالها وصخورها نجدها تحمل خطوطاً حادة..
ــ كيف يمكننا إدراك الأبعاد الحسية للعمل النحتي، وتحديد حركة الانهيار والصعود في تحويراته وخطوطه؟
المنحوتة التي تأخذ أبعادها الحسية من الجمال الروحي هي القادرة على إحداث ثقافة بصرية لدى الرائي وترك حس تعبيري بخياله حتى يصل إلى متعة التصور والاكتشاف عبر تفاعله مع أبعاد المكنون في الخطوط واللون والتعبير، وتأتي حركة الانهيار والصعود التي يناولها النحات في تكوينه الرمزي، مكملة للشكل في لمساته الأخيرة، وهي ناتجة عن فهم تقني للخامة والتعبيرية التي ستحدث عليها بإتباع التبسيط والاختزال..
النحت وقع نبيل خارج من النفس الإنسانية
ــ تعدّ "سورية" المهد الأول للنحت، رغم ذلك نجده متأخراً مقارنة مع النحت في "الولايات المتحدة ولندن وباريس" من حيث الاهتمام والملتقيات ومتاحف العرض..؟
تأخر النحت في "سورية" يعود إلى جهل أهمية النحت، وسيطرة الآراء الدينية غير الواعية التي قضت بتحريمه كفن، مما آخر في ظهور، وجعله متأرجحاً بين مزاجيات أصحاب القرار.. فمن أحبه أولاه اهتماماً ومن بغضه حاول طمسه، علماً أن المتاحف الأوربية تحوي منحوتات نادرة، تعود في أصلها إلى حضارات وجدت سابقاً على أرض بلاد الشام.. "باريس ولندن والولايات المتحدة" يتعاملون مع النحت كفن راق بفهم عميق وتذوق جميل للمسات الفنية على الشكل النحتي، وللقيم الإنسانية التي يحملها كونها بصمات خالدة لفنانين حفروا عليه فلسفتهم ورؤيتهم للحياة.
ــ أنتم كمعهد "فنون تطبيقية"، ماذا قدمتم كحلول لمسألة التأخر التي عانى منها النحت؟
نحن كفنانين سوريين استطعنا من خلال معهد "الفنون التطبيقية" "بدمشق" أن نحدث عدة ملتقيات محلية لفن النحت في "مصياف وجبلة واللاذقية والسويداء"، فالجمهور السوري مظلوم اتجاه هذا الجانب في معرفته واكتشاف غناه، علماً أن تاريخنا حافل بالأعمال النحتية الرائعة، وهي في متاحفنا مرجع لزيارة كثير من سياح العالم.. كما نادينا بإصرار على إقامة ملتقيات نحت عالمية في "سورية" وأصبح الأمر واقعاً من خلال تنظيمي لأول ملتقى نحت عالمي في "دمشق" بمشاركة /20/ فنان من دول عربية وعالمية.
ــ التراث التاريخي له مطافات في بحوثك حول النحت؟
بعد تخرجي من كلية الفنون الجميلة، اتجهت إلى دراسة النحت في الحضارات التي توالت على "سورية"، فكنت معجباً بالقيم الفلسفية لكل حضارة، ورحت أحلل الأعمال النحتية وأنظر في المبادئ التي اعتمدت في نحتها.. فتبين لي مثلاً أن أسلوب النحت في الفن "البابلي والأشوري" يعتمد على أن نسبة الحجم في الرأس تبلغ/¼%/ من حجم الجسد، فيكون الرأس بذلك قريباً من الجسد وممتلكاً للقوة والرصانة وعدم الانحناء السريع حسب فلسفتهم، بعكس ما نراه في الحضارة "الفينيقية" إذ أن نسبة الرأس بالنسبة للجسد تبلغ/½ %/، فيأتي العمل ممشوقاً إلى الأعلى، والنحت في الحضارة التدمرية كان له مجده واحترامه من قبل التدمريين، فقد اعتبر عندهم بمثابة الصورة الفوتوغرافية التوثيقية، والأعمال الأثرية الموجودة في متحف "دمشق وتدمر" تؤكد ذلك.
ــ بات الاتجاه الشخصي في النحت هو السائد على المدارس النحتية، وغالباً ما يكون له التأثير المباشر في تحريض ذاكرة المتأمل على استقراء الشكل والبحث في محتواه الفكري، ما رؤيتك لذلك؟
النحت وقع نبيل خارج من النفس الإنسانية، ووعي الفنان وثقافته، وهذا يتجلى واضحاً في التعامل مع الخامة والتقنية والتكوين والإيحاء، مما يحول الفن بعد الإشباع في الرؤية إلى أسلوب شخصي يسوده الإبداع والخلق أكثر من العمل وفق النظريات الأكاديمية.. وهذا النتاج هو الخلاصة الحقيقية للعمل النحتي الأكثر تأثيراً وقرباً لذائقة المتأمل.
ــ ماذا عن ملتقيات النحت الأربعة التي اٌسستها في حديقة النحت السوري في "إسبانيا"؟
أحدثت ملتقيات النحت السورية في مدينة "المونيكار" التابعة "لغرناطة بإسبانيا"، وهي مدينة رائعة الجمال، تقع على البحر الأبيض المتوسط، دخل إليها صقر قريش "عبد الرحمن الداخل" وأسس فيها الحضارة الأندلسية، واحتفاءً بشخصيته التاريخية أرسلت دعوة إلى معهد الفنون التطبيقية "بدمشق" لإقامة ملتقى نحت سوري أول في أهم حديقة من حدائق هذه المدينة، وتمّ الملتقى بالتعاون مع "رفعت عطفة" مدير المركز الثقافي السوري "بمدريد"، وكانت نتائج الملتقى حسنة وقد حظيت بحضورجماهيري، واقترح وضع الأعمال الناتجة بالاتفاق مع عمدة المدينة في أروقة "الحديقة" تحت اسم "الحدائق النحتية السورية"، واستمرت المشروع حتى العام /2008/، وبات هناك /32/ قطعة نحتية بقياسات متفاوتة من /2ـ4/ أمتار غطت جوانب الحديقة، التي يزورها سنوياً أكثر من مليون سائح، وسميت "الحدائق النحتية السورية".
ارتحال عاطفي وانفعالي
حول أعمال النحات، قال الباحث والناقد السوري: "أديب مخزوم": «إن الهاجس الرئيسي للنحات "أكثم عبد الحميد" يعتمد على بقاء الذاكرة الفنية، وعلاقتها بتحولات الأزمنة والأحلام النحتية.. فأعماله تبقى مفتوحة على اختبارات ورؤى جديدة، تجمع ما بين إيقاعات الكتل والفراغات وحركات الأشكال القديمة عبر المرأة المحببة والتاريخ والتراث.. فهي تؤكد انفعالاته بحركة تعبيرية وبجهد تقني يتفاوت ما بين النعومة والخشونة، وهكذا فإنه يقدم لنا حواراً بارزاً بين حركة الفنون النحتية الحديثة عبر ارتحاله الداخلي العاطفي والانفعالي.. وهذا يوضحه إبراز الكتل النحتية والحركة العفوية للأجساد».
وأضاف:«تعكس منحوتات "أكثم عبد الحميد" في بعض أوجهها دلالات التعبير عن واقع الإنسان المعاصر المحاصر بالحزن والتوتر والقتامة.. فهو يجسد الإحساس بمأساوية هذا الواقع من خلال تفاعله الإنساني معه، وهذا كسا أعماله بقوة الخط و التعبير».
ببلوغرافيا النحات
ولد "أكثـم عبـد الحميـد" في "جبلة" الساحل السوري عام /1955/، درس الفن بكلية الفنون الجميلة ـ جامعة "دمشق" عام /1976ـ 1981/، أسس قسم النحت في معهد الفنون التطبيقية "بدمشق"، واستلم رئاسة القسم من عام /1987/ وحتى العام /2000/، وحالياً المدير المسؤول فيه، نظم تسع ملتقيات نحت على الرخام محلياً وعالمياً.. يذكر منها:
- ملتقى النحت العالمي بمدينة اللاذقيةضمن مهرجان المحبة/2004/
- ملتقى النحت العالمي دبي /2005/
- ملتقى النحت العالمي باليونان بعنوان المنكوبين من الحروب عام/2006/
- ملتقى النحت السوري الثالث في اسبانيا /2007/، كما حصل على عدة جوائز.. منها جائزة تمثال "عبد الرحمن الداخل" من عمدة مدينة "المونيكار ـ اسبانيا".