الأكباد الطينية من "ماري"

حوار مع الآلهة

كمال شاهين

يبدو التنبؤ بالمستقبل اليوم عملاً يتقبله الناس بشيء من الهزء والسخرية، وهو برأي الغالبية من باب "الخرافة"، وقلة منهم يأخذه على محمل الجد، والتنبؤ بالغيب، كما صار يسمى توحيدياً، هو من اختصاص الآلهة في الماضي والحاضر بأسمائها المختلفة، وهي وحدها من يعرف ماذا سيحدث في قادم الأزمنة.

إن محاولات المتنبئين حديثاً والكهنة قديماً معرفة هذه الأحداث ليس إلا محاولة فتق الحجاب الإلهي بينهم وبين المستقبل عبر استرضاء الآلهة ومنحها محفزات لفتح تلك الأبواب السرمدية المغلقة.

في المشرق العربي القديم، ونعني الحقبة التاريخية الممتدة قبل الميلاد بعدة آلاف من السنوات، وككل البشر، شغف الناس بمعرفة المستقبل، وكان أكثرهم رغبة الملوك والحكام، كما هم اليوم أيضاً، واعتبر التنبؤ والكهانة وسيلة للاتصال بالمقدس الإلهي عبر استخدام النذور والتقدمات والذبائح، وكلها كانت برأيهم تساهم في إرضاء الآلهة ودفعها لتحقيق رغبات الكهنة التي هي رغبات الملوك من جهة أخرى.

ويكشف التراث الكتابي الكبير الذي اكتشف في "ماري و"أوغاريت" و"أور" و"نينوى" و"دلمون" وغيرها من مراكز الحضارة المشرقية العربية عن الاهتمام الكبير بهذا الموضوع، فقد اكتشفت نصوص تسمى نصوص العرافة الرافدية(Omen text)، فقد وصلنا العديد من الرقم الطينية المختصة بعلم التنجيم والكواكب وقراءة الطالع والتكهن بأحداث المستقبل، وظهرت شخصيات عرافة ذات شأن كبير كما هو الحال في "كاهنة المعبد" في ماري.

ماري ... بداية الشغف:

بدأ الاهتمام بموضوع الأكباد الطينية عندما اقتنى المتحف البريطاني نموذجين مجهولي الهوية للأكباد، يظن أن مصدرهما سورية، ثم تزايدت الاكتشافات في المواقع الأثرية السورية والعراقية مثل "حاتوشا بوغاز كوي وتل مجيدو" (في الحسكة)، ثم عثر في التنقيبات الأثرية التي أجراها الفرنسي "أندريه بارو" في مملكة "ماري" على الفرات في موسمي التنقيب لعامي 1935-1936، في الغرفة رقم 108 في القصر الملكي في "ماري"، على 32 كبداً، اكتشفت مع مجوعة من الألواح المسمارية الأخرى، وهي اليوم في متحفي "حلب" الوطني و"اللوفر" الفرنسي، وقدر زمنها بين القرنين التاسع عشر والعشرين قبل الميلاد([1]).

لم يتم التأكد بشكل قاطع من الطريقة التي استخدمت فيها الأكباد الطينية للتنبؤ بالمستقبل، ويعتقد أنه رافقها طقس قرباني، كأن يضحى بخروف، ويصنع نموذج مطابق له من الطين المشوي، أو أنها تمثل أمثلة حقيقية صنعت نماذج مطابقة لها بعد وقت قصير من نهاية الطقس القرباني، ثم يقوم الكاهن بكتابة ما يريده على الكبد الطيني أو يقدم العراف أو العرافة طلبه عادة للإله (مردوخ) لكي يسمح له بقراءة أحداث حياة الشخص المعني، وعادة ما يكون الملك.

لقد كان من الشائع بالنسبة لحضارات المنطقة أن الكبد هو مركز التفكير والفكر، ولذلك اعتمدَ بالمقابل على صحة وسلامة كبد الحيوان المضحى به في تقرير "مصير" و"أحوال" مستقبل الشخص المعني في هذه القراءة، فهذا الربط بين "سلامة" الكبد والمستقبل بقدر ما يحمل في طياته "رهاناً" مجهولاً على المستقبل، بقدر ما يربط بين الإنساني والحيواني في بناء علاقة وثيقة تكاد تصل إلى أخطر الحالات كما هو الحال في رغبة الملك بمعرفة المستقبل. ([2]).

ومن جهة ثانية، يبدو أن الأكباد الطينية ارتبطت أيضاً بالممارسات المرتبطة بدراسة أحشاء الحيوانات أيضاً كشكل من أشكال الرسائل الإلهية إلى البشر، ومن أهم هذه الأنواع الأكباد الطينية المفردة النموذج، أي تلك التي كان لها شكل مختلف كلية عن غيرها من الأكباد، وهذه وفق الأساطير البابلية هي "هدية سماوية" ويعتقد أن هذه الأفكار أخذت طريقها إلى النضج في الألفية الثالثة قبل الميلاد. ([3])

النثر المتفاوتة على امتداد المشرق العربي بينت أن الطقس يحتاج إلى أربعة أضحيات لتنفيذه، وقد ألح الكهنة على تفاصيل دقيقة عن الأضاحي إياها، من أين جاءت، من جهزها، من اختارها ومن دفع ثمنها، وكذلك من هو الشخص الذي يريد تنفيذ هذا الطقس، كل هذه المعلومات كانت تصب في النهاية لدى الكهنة لتبيان هل يتم تنفيذ الطقس أم لا، كذلك ما هو الوقت المناسب لتنفيذه، وهذا من العناصر المهمة المستمرة إلى اليوم في الطقوس النذرية لدى سكان المشرق العربي، فإذا أراد شخص ما التضحية بخروف كنذر ينتقي الأفضل صحة وشكلاً حتى لو كلفه ذلك الغالي والرخيص.

من المهم التأكيد على أن هذه الطقوس انتشرت في كامل المنطقة المشرقية، وانتقلت منها إلى اليونان وأوروبا، وأثّرت كثيراً على التكهن اليوناني والروماني في مراحل مختلفة، ويبدو أن هذه التأثيرات قد شقت طريقها عبر التبادلات التجارية والثقافية بين البلاد المشرقية وحوض المتوسط، فعلى سبيل المثال فإن الحضارة "الأتروسكية" في جنوب إيطاليا وهي حضارة مشرقية على الأرجح قضى عليها الرومان قضاءاً مبرماً تركت وراءها كتاباً في العرافة يتضمن طقوس الأكباد الطينية نفسها في المشرق العربي([4])، كما أن هذه الممارسات بقي بعض آثارها إلى اليوم في المشرق، فحتى اليوم، عندما يريد شخص مختص بالكهانة (وهو لا زال رجل الدين نفسه ولكن بلباس توحيدي هذه المرة) أن يقرأ مستقبل شخص ما، يعمد إلى صناعة شكل شبيه بالكبد الطيني نفسه ولكن من قماش، وقد استمرت هذه الممارسات ممثلة في طقس دمية "أم الغيث" لاستجلاب المطر في المناطق الجافة أيضاً ([5]).

لقد ارتبطت نماذج "ماري" الكبدية بالدين بقوة، كما هي حال التداخل الديني الإنساني والحياتي كالعادة في المشرق، لتبدو هذه العلاقة مع الأكباد على أنها حوارية مستمرة مع الآلهة تطلب رضاها وحبها وعطفها على الإنسان الذي لا يرتجي منها إلا الخير، وقد تراوحت حالات الأكباد بين الشؤون الشخصية (كإنجاب ولد أو بنت أو شراء أرض أو تحقيق الربح الأكبر في صفقة تجارية...الخ) والشؤون العامة لدى الطاقم الرسمي للمملكة كتوقع التهديدات الخارجية، أو العلاقات بين الدول والممالك، ويذكر أن الرومان استخدموا هذه الأكباد في توقع مستقبل سياساتهم تجاه منطقة الرافدين. ( [6])

في الإمبراطورية الآشورية الحديثة لعب التنجيم والعرافة والأكباد ضمنها دوراً أكبر من المعتاد، ويلاحظ ذلك من كثرة اللقى المتعلقة بالعرافة وأمورها، فعندما تتم الاستشارة مع الأكباد الطينية عبر الكاهن ويكون قراره مثلاً تأجيل الموضوع أياً يكن فسوف يتم تأجيل الموضوع مهما كانت أهميته وسرعته، فعلى سبيل المثال إن نوقش قرار إرسال الجيش إلى منطقة ما، وقالت "الأكباد" أن الظروف غير مناسبة، فسيتم تأجيل العملية حتى يقول الكاهن بغير ذلك ([7]).

تسمح لنا الأكباد الطينية فهم آلية انتقال المعرفة عبر الأجيال فيما يتعلق بهذه القضية، العرافة والتنجيم، وتوضح كم أن هذه التقاليد مغرقة في القدم ولا يعرف متى ولا كيف نشأت، خاصة بكون نموذجي الأكباد الطينية المتوفرين بحثياً هما النموذج المفرد،  والثاني الأكثر انتشاراً وهو الكبد العادي، ونستطيع التأكد أن الأقدمين من المشرق العربي عرفوا الكبد تشريحياً بصورة متقدمة، ولكن افتراض أنه مركز القلب له قصة لا يمكن تخمين سببها ولا كيف وصلت هذه الشعوب للقناعة بها، على أن بقايا الأمر في لغاتنا الحالية توضح استمرار هذه الرؤية بشكل خجول (فالولد حشاشة الكبد)، وإلى اليوم فإن اللفظة اللاتينية تجد جذرها اللفظي في الكلمة البابلية للكبد ([8](،hēpat  التي تجد ترجمة عربية قريبة من كلمة "الهبة".

طبعاً، في نهاية هذا الحديث، يجب النظر إلى المسألة برمتها على أنها نتاج زمن موغل في القدم، زمن شكلت معارفه سوية معينة تم من خلالها رؤية العالم والتعامل معه بصدق وشفافية واحترام لمكنوناته وبطريقة قد نجدها اليوم غريبة، إلا أنها في وقتها شكلت أساساً في النظر الإنساني إلى العالم.



[1]
مجلة الحوليات الأثرية السورية، العدد العاشر، 1976


[2] Richardson, S. F. C. (2010). On seeing and believing: Liver Divination and the Era of Warring states (II). The Oriental Institute, pp. 225–266.

[3] Benoit, N. (2007). Ancient Divination [online] Available at: http://www.louvre.fr/en/oeuvrenotices/model-liver-divination    [Accessed 6 -11- 2014]

[4]د. ألكسندر ستيبيتتش، ترجمة محمد الأرنأؤوط، تاريخ الكتاب، الجزء الأول، سلسلة عالم المعرفة الكويتية، عدد رقم ،

[5]فراس السواح، لغز عشتار، دار علاء الدين، الطبعة الثانية عشرة، 1998، حمص

[6] HeeBel, N. P. (2010). The Calculation of the Stipulated Term in Extispicy.The Oriental Institute, pp. 163–176.

[7] Koch, U. S. (2011). Sheep and Sky: Systems of Divinatory Interpretation. K. Radner and E. Robson (Eds).

[8] Martins, C. and A. Cavalcanti de A. Martins (2012). History of Liver Anatomy: Mesopotamian liver clay,models. International Hepato-Pancreato-Biliary Association, pp. 322–323.