اللغة المسرحية .. بين التأصيل وإيصال المعنى (4)

كسار مرعي – الحسكة

للواقع أدواته التي يفرض بها نفسه على جميع من يعيش في كنفه، لكن هذا لا يعني أن يستسلم كل الأشخاص لما يفرضه وقع الحياة المتسارع، وبناءً على هذه المعطيات لم يقف المسرحيون مكتوفي الأيدي أمام هذا التحدي الذي فرضه واقع دخول اللهجة العامية على الحياة المسرحية، بل أشهر كلٌ منهم سلاحه ليتصدى لهذه الظاهرة سائقاً بين يديه دفوعاً وحججاً تصب في مصلحة توجهه.

هذا الكلام لا ينسحب بالتأكيد إلا على الرافضين لفكرة تعميم الفصحى إذا صح التعبير، فالفريق الثاني يرى ضرورة إقحام اللهجات المحلية إلى روح المسرح، وقد قطع شوطاً كبيراً في هذا المجال، والشواهد كثيرةٌ على ما آل إليه حال المسرح العربي، فقد سلّم الكثير بأن "المصرية أم اللهجات"، وسار عدد من الكُتّاب على هذا الطريق على اختلاف مشاربهم، إلا أن أصوات الباحثين عن الطريق الوسط بدأت ترتفع، على مبدأ "ما لا يُدرك جُلّه لا يُترك كله".

وفي متابعة حواره مع المفكرة الثقافية يقول الكاتب والمخرج المسرحي "إسماعيل خلف": «بعد أن تمكنت اللهجات العامية من فرض نفسها وكادت تقضم نصيب الفصحى، هُرع بعض الكتَّاب إلى ايجاد حلٍ وسط لهذه المشكلة؛ فحاول بعض المسرحيين أن يمسكوا العصا من المنتصف، وهذا ما فعله "توفيق الحكيم" في مسرحية "الصفقة"، فقد لعب على وترٍ جديد اعتمد على القفز بحذرٍ بين اللغة الفصحى واللهجة العامية، فاختار مفرداتٍ فصيحة إذا خضعت للإعراب وعامية إذا لم تعرب، ومثله فعل "يوسف غصوب" في مسرحية "يوم أحد في الضيعة" إذ ألغى التنوين وألغى تحريك أواخر الكلم ونوّن الأفعال المضارعة، وأدخل "اللي و ها" بدل أسماء الوصل والإشارة، أي أنه ألغى الفصحى وأدخل بعض لوازم اللهجة العامية».

ثم أضاف: «كثرت المحاولات الساعية إلى تجسير الهوة التي أحدثتها تبدلات اللغة، ومن المحاولات الفردية ما قام به "مارون النقاش"، إذ جعل لكل فئة اجتماعية لغتها الخاصة بها، فالخادمة تتحدث العامية اللبنانية في مسرحية "البخيل"؛ و"عيسى" حين يتنكر يتكلم العامية المصرية، و"نادر وغالي" يتكلمان العربية الممزوجة بالتركية، أما بقية أبطال المسرحية فيتكلمون الفصحى، لكن هذا لا يعني أن اللغة العربية لا تعاني من المشاكل، فاللغة والظروف التي يعيشها العالم العربي أمران متلازمان، فما تعانيه المسرحية العربية لا ينسحب على المسرح الغربي، وإذا ما أراد المسرح العربي أن يتمكن من الاتصال بنفسية المشاهد، فعليه أن يجتاز الكثير من الحواجز التي تقف أمامه، واللغة هنا تعتبر وسيلة لذلك؛ لكن على المؤلف أن يحسن استخدامها، ويسخر امكاناتها البلاغية والمحكية لبلوغ الغاية الحقيقية».

وفي شدٍ وجذب بين المسرحيين والمهتمين انبثقت مجموعة من الآراء رصد "خلف" بعضها وقال: «انشق المسرحيون بين مؤيدٍ ومعارض للفصحى والعامية على حدٍ سواء، ودفع كل فريقٍ حججه ومسوغاته التي ساقته إلى اعتقاده ويقينه، إذ يرى المخرج المسرحي "قاسم محمد" أن أسباب اللجوء إلى العامية المحكية في المسرح المُؤلَّف والمترجم؛ ترجع إلى أسبابٍ تقنية تنبع من الضرورة الفنية في المسرحية، ففي حال كان العمل شعبياً فالضرورة تقتضي أن يكون النص بالعامية، بينما ما يرى في الوقت نفسه أن أشخاص مسرحياتٍ أخرى يجب أن تتحدث بالفصحى، وقال الفنان "زياد الرحباني" أنا أعتبر اللهجة العامية أداةً لتوصيل أفكاري إلى  الجمهور، فأنا لا أتصور مسرحاً كمسرحنا يعرض مشكلةً تتحدث عن الناس مباشرةً باللغة الفصحى، فالفصحى هي اللغة الرسمية ولغة القواميس لكنها ليست لغة الحياة اليومية، ولا تمتلك تلك الحرارة التي تعبر عن الحالة المعاشة بشكلٍ مباشر، أما المسرحي "سامي عبد الحميد" فيذهب في الاتجاه الآخر، إذ أنه يرى أن السبب الرئيس في انجراف المسرح العربي نحو العامية، هو إرضاء الجمهور وشده والتمسك به، كما يرى أن اللهجة الدارجة هي إحدى سمات التخلّف، فهو يعتبر أن قدرات اللغة الفصحى واسعة ومعبرة وهذا ما تعجز عنه اللهجة العامية، ويعزو نفور المتلقي العربي من الفصحى إلى قصورٍ في أداء الممثل؛ وعدم تمكنه من السيطرة على اللغة وجعلها مرنة بين يديه».

ويختم "خلف" بوجهة نظر خاصة به مفادها: «أن مسرحنا العربي بحاجة قصوى وبالغة إلى لغةٍ مسرحية؛ تجمع بين بيان الفصحى ومتانتها وعراقتها ووجهها الحضاري، وإلى مرونة اللهجة العامية وحيويتها وسلاستها وقربها من الناس، لكن هذا كله يكون مع مراعاة الضرورات التقنية المسرحية والبناء الدرامي».