المصور الضوئي "أديب طيبا".. يثيرني حجر البازلت وبنائه العمراني القديم

"علاء الجمّال":

ينقلنا المصور الضوئي السوري "أديب طيبا" عبر أعماله "الفوتوغرافية" إلى عتبات التاريخ وإنسانها المتوالد، باحثاً وسط الحضارات التي يزورها، يتعرف إلى تراثها وتقاليدها وأجوائها، ويوثق من عوالمها إرثاً معرفياً يثير الفكر والتساؤل والاستغراب. وهو المولود في "دمشق" عام 1945، والعضو في "نادي التصوير الضوئي بدمشق"، والعضو في "نقابة الفنانين بسورية"، والعضو "بالفياب الدولي" المنظمة العالمية "للتصوير الضوئي".

للدخول في عوالم ذلك الإرث، التقت المفكرة الثقافية الفنان "أديب طيبا" في  3/7/2008 في كافيتريا "موليا" بمنطقة "القيمرية بدمشق القديمة"، وأجرت معه الحوار التالي:

متى بدأ "التصوير الضوئي" رحلته في "سورية"، وكيف ترى انفتاحه وحضوره في العالم؟

شهد "الفوتوغراف" انتشاراً واسعاً في "أوروبا"، وبات له حضوره ووجوده بين الأوساط الثقافية والاجتماعية، كما احتل منزلة متميزة  بين الفنون الأخرى، لكنه في سورية بدأ متأخراً مع نهضة "الفن التشكيلي أوائل الستينات"، وبالرغم من الظروف التي لا زالت تعترضه حتى الآن إلا أنه  أثبت مكانة وحضوراً جديراً بالذكر، فقد استطاع فنانوه من "المصورين الضوئيين" أن يبنوا له هيكلية فنية حضارية داخلاً وخارجاً،  وأكثرهم لم يعتمد على تاريخ المنطقة فحسب في توثيق المكان واختيار المشاهد الفنية المناسبة بل انطلق باحثاً بشغف في تاريخ الدول العربية الأخرى، يتعرف إلى تراثها وتقاليدها وأجوائها، ويوثق منها ما يثير الفكر والتساؤل والاستغراب، ومنهم من انطلق إلى العالم كمستكشف وباحث، ومنهم من اقتصر بحثه في مختلف المناطق السورية الأثرية والقديمة المأهولة، يرصد إنسانها وعاداتها وتقاليدها ليحولهم في وقتنا الراهن عبر عدسته الضوئية إلى إرث معرفي ثمين، يبقى في الذاكرة ويستعيده التاريخ.

ظروف تحول دون الانتقال من الواقع الضيق

  ما هي طبيعة الظروف التي اعترضت فن "التصوير الضوئي" في سورية؟

هناك العديد من الطامحين إلى هذا الفن في "دمشق" وخارجها من المناطق المحيطة، ولهم فيه محاولة وتجربة كشفت عن إبداعهم الانتقائي في اختيار الموضوع عبر أبعاد وزوايا مختلفة كمشهد بصري في الصورة، لكنهم بقوا في الظل، خارج دائرة التنامي والانفتاح، وذلك لعدم وجود فرص جادة تنقلهم من واقعهم الضيق  إلى العالم، أو أن الظروف الحياتية التي تحيطهم لم تتح لهم مجالاً لعرض أعمالهم الفوتوغرافية  في معارض فردية خاصة تبرز مقدرتهم وكفاءتهم العالية، والبعض منهم اكتفى فقط بأن يشارك بعملين أو أكثر ضمن معرض جماعي مشترك تقيمه "وزارة الثقافة" أو إحدى الجهات الرسمية. وفي جانب أخر "نادي التصوير الضوئي" الذي تشكل  منذ حوالي 27 عاماً في "دمشق"، ليس له حتى الآن مقر فعلي يمارس خلاله نشاطاته الفنية والبحثية، والمستغرب أن تتبناه "مؤسسة الشؤون الاجتماعية" والعمل عوضاً عن "وزارة الثقافة"، وهو ناد فني يحمل ثقافة ودلالة "الصورة الضوئية" بكافة معاييرها، ولا يقل أهمية عن "الفن التشكيلي".

 لو أردنا حلولاً من أين نبدأ؟

من "نادي التصوير الضوئي بدمشق" في أن يكون له رعاية جدّية من قبل "وزارة الثقافة"، وأن يؤمن له مقرا دائما وصالة عرض دائمة تحتضن أعمال المصورين الضوئيين المحليين والعالميين، كما تحتضن "صالة الشعب في اتحاد الفنانين التشكيليين" أعمال الفنانين على اختلاف جنسياتهم. و بالإصرار طلبنا ذلك مراراً مؤكدين على تحقيق ما وعدنا به منذ 20 عاماً، فلو حدث لاستطاع النادي التوسع أكثر والانفتاح من المحلية ليكون اسماً يردد في جميع الدول العربية والأجنبية ويحتذى بنشاطه وأفكاره ومشاريعه، لكن القول لم يقترن بالفعل وما زلنا ننتظر.

ما تقييمك للنهضة القوية التي أحدثها بعض المصورين الضوئيين المعاصرين في "سورية" واستقطاب "أعمال ضوئيّة" من العالم لعرضها والتعرف إلى مكنونها؟

يعود الفضل هنا إلى المجدّين والمخلصين لهذا الفن العريق، واستنكارهم لواقع "الفوتوغراف في سورية"، ودأب السعي نحو الوصل إلى العالمية حتى وإن كان التوجه على حساب ظروفهم ومعيشتهم، أما المعارض التي أقيمت مؤخراً وجمعت "أعمالاً ضوئية" من دول عربية مختلفة فهي تدل إلى أصالة الباحث الذي حقق الفكرة وأقامها مشروعاً ثقافياً نوعياً يستحق التقدير والثناء.

غياب الفوتوغراف عن معرض الخريف

كيف تفسر غياب "الأعمال الفوتوغرافية" عن المشاركة في "معرض الخريف" الذي يقام سنوياً في "دمشق"؟

لم تغب "الأعمال الفوتوغرافية" عن المشاركة في "معرض الخريف" إلا في السنوات الأخيرة ولأسباب مبهمة غير معروفة، على الرغم من أن المعرض نفسه منذ تأسيسه الأول يحوي قسماً يختص بأعمال المصورين الضوئيين الرواد، ويعرض  مختارات عديدة من فيض عطائهم و إنجازاهم.

    

ماذا تقترح لهذا الموضوع؟

أن يسمح بإدخال "فن التصوير الضوئي" مجدداً إلى معرض الخريف، كونه فن مهم  يتعلق بثقافة "الصورة الضوئية" المأخوذة من الطبيعة والتاريخ، وعلى الأقل أن يعود الوضع في المعرض كما كان سابقاً، حيث كنا نشهد تقديراً كبيراً لفن "التصوير الضوئي" وتفكيراً يختلف بطموحاته المستقبلية عن الآن.

وأذكر قديماً لهفة الرواد في عالم التصوير ومتذوقوه من الحضور والمثقفين إلى مشاهدة قسم "الفوتوغراف" أولاً وتأمل الأعمال التي عرضت فيه بعمق قبل الالتفات إلى رؤية "الفن التشكيلي".

حبذا لو نحيي في الذاكرة بعض الأسماء لرواد متوفين ومعاصرين في هذا الفن؟

من الرواد الراحلين نذكر "الدكتور قتيبة الشهابي"، و"عبد الكريم أنصاري" و "فواز جابر"، ومن   المصورين المعاصرين "لطفي لطفي ومروان مسلماني ومحمد الرومي وجورج عشي" والكثير من الأسماء الأخرى التي حققت خطوة كبيرة في رفد هذا الفن إلى الرقي والتنامي الذي يشهده الآن، خاصة وأنهم من مؤسسي "نادي فن التصوير الضوئي في دمشق".

استعادات في عوالم الذاكرة والتصور

ما هو منظورك "للصورة الفوتوغرافية"؟

أراها مستحيل يتقد واقعية في لحظة معينة تنسجم مع رؤيتي وتفكيري.

ماذا عن المواطن الإلهامية التي تمدّك بدفق الإبداع؟

الولاء لمهنتي التي أحب هو الفعل الذي يمدني بدفق الإبداع، أما مواطني الإلهامية  فهي تمتد بعيداً إلى الريف والبيئة الريفية والحياة الشعبية، ثم الإنسان في مكان إقامته وعمله، إلى القرى الأثرية أين ما وجدت في "سورية"، أتعرف إليها وأدرسها عن كثب ثم أصور فيها ما يأسر عيني المتأملة من "البيوت الحجرية القديمة" لأنتقل إلى معالمها التي حفر الزمان بها عميقاً فالطبيعة التي تحيطها والصخور التي أخذت في أماكنها شكلاً نحتياً يفتن الحس والبصر عبر أعمالي أستعيد التاريخ وأحرص أن تكون معالمه حيّة دائماً بين عوالم الذاكرة والتصور.

ما الأماكن التي زرتها خلال عملك، وأغنيت من علومها وتراثها تراثك الخاص؟

زرت "سورية" بمختلف مناطقها وأرجائها، ومن العالم زرت "الأردن و مصر واليمن والسودان والجزائر وتركيا والصين الشعبية"، وهنا خليط من التنويع المعرفي  صادفته عبر تجوالي بين الحضارات، وقد أضاف إلى ذاكرتي ومهارتي العملية في "التصوير الضوئي" الكثير من الخبرات الفنية والتقنية وأفقاً تخيلية لا حدود لنهايتها.

أما المميز في "المناطق السورية" منطقة "حوض الفرات" خاصة الحياة الشعبية المبسطة هناك، و"البادية السورية"، و"قلعة سمعان في حلب"، و"القببية" ـ الأكواخ الطينية التي قاربت إلى الاندثار وتحول معظمها الآن إلى بناء عمراني حديث، وصولاً إلى منطقة "شقا في السويداء"، وأميز معالمها قدم البناء "الحجري البازلتي" وهندسة عمارته.

خلال تجربتك في "الفوتوغراف" لا زلت حتى الآن تفضل التصوير باللونين الأبيض والأسود، علماً أن لك تجربة مع "الصورة الملونة"، ما سبب هذا التفضيل يا ترى؟

اللونين الأبيض والأسود في "الصورة الضوئيّة" أعتبرهما لغة بصرية لها قواعد يجب على "المصور الضوئي" أن يتعلمها ويتقنها عبر التجريب والبحث في أدق تفاصيل محيطه الحياتي لينتقل إلى ما هو أوسع منه علماً وأكثر منه إدراكاً، ينهله من معرفة العالم وطبيعة الحياة التي يتسم بها. واللغة تتعلق بتناسق الضوء والظل بين اللونين في الصورة وتدرج الرمادي بينهما، وفي كيفية تحديد الرؤية الدقيقة للمشهد البصري الذي نصادفه في الواقع، وقد يكون حصاة على الأرض، أو كرسي في زاوية معتمة أو شجرة لها تشكيل غريب أو باب خشبي متهرئ ارتسمت في شقوقه صور تدل إلى المجهول الذي لم يدرك بعد، وصوراً أخرى مشابهة لكن تبقي المقدرة المبدعة حقاً هي في اكتشاف تلك الرؤية والسيطرة على أبعادها المكانية ودلالتها الزمنية بلغة الضوء الفوتوغرافي الأبيض والأسود الذي يحدد لنا تلك الأبعاد والدلالات بعمق له انعكاسه الحسي على النفس والحدس ذلك المكنون المنبئ  بحقائق الرؤى الواقعية التي يدفعنا بتوق نحو الوصل إليها.

متعة الجمال الحسي في النفس

يعتبر اتخاذ "البورتريه" الوجه موضوعاً للقطة من أصعب الأعمال في التصوير، كيف تتعامل معه؟

تصوير "البورتريه" الوجه الإنساني الحي يعدّ من أصعب الأعمال في "التصوير الضوئي"، لأن الشخص الذي تشدك ملامحه الظاهرية إلى رغبة تحديدها في وضع ما تتخيله وتصوره عبرها، ينفر ويتمنع أحياناً وفي أحين أخرى يبدي انفعالاً شديداً ويصبح كتلة عصبية فضة في التعامل، وإن أحسنت السيطرة عليه سيلجأ إلى التصنع كي يظهر في ملامح وجهه صورة أفضل مما هي عليه في طبيعتها،  وهنا تأتي حكمة التصرف التي يتحلى بها المصور في عملية الدخول إلى أعماق هذا الشخص ودفع ما بداخل نفسه من أحاسيس ومشاعر متوترة إلى الهدوء والارتياح، حتى يبدو وجهه أمام عدسة الكاميرا طبيعياً دون تصنع، وأستطيع بدوري تحديد وأخذ اللقطة التي أريد.

حول أعمال المصور الضوئي "أديب طيبا" قال الفنان الفوتوغرافي "جورج عشي":« تعتبر تجربة الفنان "أديب طيبا" من التجارب المهمة في مجال  "الفوتوغراف"، وخلال عمله في مجال الإخراج التلفزيوني بصفة مساعد مخرج أفاده ذلك في مجال التصوير، فكون لنفسه أسلوباً ونهجاً خاصاً حدد عبره أبعاد "الصورة الضوئية" واختيار المشهد بدقّة متناهية. أكثر موضوعاته إنسانية ويعنى باختيارها كتكوين، ويدرس عند تحديدها تداخل الضوء والظل».

أما الفنان الفوتوغرافي" عبد القادر الطويل" فقال:«كون الفنان "طيبا" مسرحي وفنان تشكيلي بات لديه خبرة فنية عالية ترجمها إلى مقامات انتقائية في مجال "التصوير الضوئي"، و الموضوع في الصورة ليس أمراً سهلاً أو اختياراً عشوائيّاً بل يعتمد على معرفة في الثقافات المحيطة، وعين راصدة للمشهد الجمالي. لقد اختار "طيبا" المشهد الإنساني والأثري ليفرغ مخزونه المعرفي بالطريقة الأمثل».