النحات الراحل "وليد محمود" .. صياغة الكتلة بعين الغضب

كمال شاهين- اللاذقية

اللاذقية 28 تشرين الأول 2014

في مرات كثيرة نفتقد فجأة أسماء لها تجاربها الإبداعية المميزة، فتترك في فضاء الإبداع منجزها غير مكتملٍ، وبعض هذه التجارب يقيض له من يرعى منجزه فيحمله إلى الذاكرة ليبقى، وتتناقله الأجيال التالية قارئة أو مستمتعة به، وهو ما نرجوه لتجربة مهمة في النحت السوري فقدناها على حين غرة.

في الطريق إلى عزاء النحات "وليد محمود"، ندلفُ بيت الأهل البسيط، وهناك نجد ثلاث كتل جرانيتيه أحضرها الراحل قبل يومين فقط من رحيله ليكمل بهما منحوتات معرضه السوري الأول في صالة "لاميرادا" في "جبلة".

في رحلته إلى الاكتمال، بقيت مسافات قليلة تسمح لنا بالصعود معه إلى لغته وفنه البصري، واستشفاف حكايات بذرها في منحوتاته البازلتية القاسية قساوة الطقس في قريته "سَلْمية"، ذاك المكان، الذي يحمل اسماً سريانياً، ليس "سَلَمية" محمد الماغوط التي ابتلعت الرومان على أبوابها، فهذه القرية الصغيرة لا يتجاوز عدد بيوتها العشرين، وبنيت على سفح جبل عالٍ يمكن مشاهدة الجبل الأقرع "صفون" منه في ليالي الصيف، والوصول إليها يحتاج إلى مشقة ودأب.

الرجل الإشكالية(1973ـ 2014)، بأحلامه التي كان يحيكها وكأنها واقع لا محالة، سرى إلى عالم النحت بعناد شديد في بيئة تعتبر الفنون كلها "رجسٌ" من عمل البني آدم، ليس لأنها تماثل الخالق السماوي في أفعاله، فهذه الإيمانية آخر همهم، بل لسبب أبسط، "أنها لا تطعم خبزاً"، في الخبز الدلالة على الاقتناع من الحياة بالقليل، وفي هدر الفن وتحطيم المنجز الطفولي من منحوتات للنحات الراحل من قبل الأب، كثيرٌ مما يفسر إصرار الراحل على الوصول إلى العالمية، وقد نجح بذلك إلى حد كبير بمساعدة آخرين، أولهم زوجته  الفنانة "دنيا الصالح".

بدأ "وليد  محمود" رحلته النحتية في عالم الطين الذي وفرته له "سلمية" بكثافة عبر "الجد" والد الأم  والمعلم الأول له، فقد كان واحدا ممن (عمّر) السلاسل الجبلية (الرمايا كما تسمى هنا أيضاً) بالأحجار المشذّبة بعد تكسيرها وتحويلها إلى شكلها النهائي، وذاك الجدّ علم حفيده مبادئ الإزميل والمطرقة والعلاقة التي تربطه بالأحجار. 

في رحلته مع النحت تصادم كثيراً مع محيطه، والكثير من أعماله الأولى تعرضت للتكسير على يد والده، فكانت قطيعة مرّةً بينهما.

درس "وليد" في ثانوية "بعبدة"، ليتخرج من الجامعة بعدها معلم صف يدرّس في قريته، ولان الأحلام أكبر، شدّ الرحال إلى "بيروت" ليبدأ من هناك رحلة النحت.

في "بيروت"، عمل معلماً للصحية باعتزاز بقي يذكره دوماً، في أوقات تالية باع الراحل قطعة الأرض الوحيدة التي وهبها إياه والده لشراء عدة نحت ألمانية لأنها كما يقول: "الأصلي لديه ميزة لا تتوفر في غيره، فهو يقدر على تفكيك الكتلة بطريقة أجود".

وفي مدينة النحات المعجزة "فيداس"، نال الراحل أول جائزة له في النحت، فحل ثانياً في ذاك الملتقى الدولي عام 2002.

حملت المنحوتة التي نال عليها تلك الجائزة اسم "جوهرة الصباح"، وهي اليوم في صالة "الشرقية" بالسعودية .

تعددت المنحوتات التي اشتغل عليها الراحل بعد ذلك ضمن أسلوبه المعتمد بشكل أساسي على الكتلة الطولانية ذات الارتفاع المتوسط، فالفراغ  كما يقول في هذه النوعية أوضح وأقدر على التواصل مع المتلقي.

ما تميز به أسلوبه لا يرتكز فقط على نحافة الكتلة النحتية المتطاولة، بل على جملة توصيفات غلب عليها التجريد القاسي والحاد في تقديم الملامح البشرية أو الرمزية، وفي كثير من أعماله بدت الرغبة الشديدة لديه في تحطيم أساليب فنون النحت التقليدية دون أن تصل إلى مرحلة تشكيل هوية بصرية متكاملة، ولعل الرحيل المبكر أفقدنا مشروعاً نحتياً مهماً كان سيقيض له تقديم صورة مختلفة للنحت العربي المعاصر.

أغلب أعماله طولانية وهي عبارة عن كتلة نحيفة عموماً، بمشهدية بصرية تجريدية حادة الملامح، تتفوق فيها العناصر الحياتية المرتبطة بالمرأة على غيرها، فالمرأة الحاضرة بكثافة هي المدخل لفهم فلسفة الفنان النحتية، وهي نفسها تحضر في أعماله الأخرى المنتمية إلى جدل السياسي والحياتي مع الصورة الأنثوية للوطن، لم يكن القصد سياسياً بأي معنى مباشر، بقدر ما كان حضوراً للحال السورية الراهنة الممعنة في الموت في حجر صلب يتشظى إلى رؤى بصرية، وثقَ النحات دوماً بقدرتها على الخروج من هوة العدم إلى رحابة الأبدية واستمراريتها في منحوتات جرانيتيه عمقها هو العمق الحضاري السوري.

في مشغله في مدينة "جبلة"، وبعد أن "احتل" سطح البناية، اشتغل طويلاً على عدة قضايا نحتية، اشتق بعضها من مقطوعات موسيقية، وبعضها الآخر من عيون الأطفال الذين حلم بهم كثيراً ولما يوفق في إنجابهم.

في علاقته الكثيفة مع الحياة شغف  وحب نجح  في خلق منحوتات تماثله، وإن ترك في كل منها غصّاته الروحية المتعالية على الفقد والطفولة بلغة راقية لم تبدلها الأيام رغم تنقلات عيشه المستمرة، لقد بقيت لغته الجبلية المحببة حاضرةً في ثنايا منحوتاته بفرح وحب.

شارك الراحل بمعارض عربية ودولية كثيرة، في "دبي" العام الفائت في معرضها السنوي للفنون، وفي "لندن" في معرض النحت العالمي هناك، في "بلجيكا" بمنحوتة صادرتها السلطات البلجيكية بعد أن أثارت جدلاً واسعاً ورفضها رجال دين حملت عنوان "الرب"، في "الرياض" بصالة الشرقية، و"بيروت" في معرضه الدائم في غاليري "أكواريوم" الذي افتتحه العام الماضي وكان منفذه الأول إلى عالم التسويق النحتي.

منحوتاته اليوم موجودة في عدة بلدان، منها مصر والعراق والجزائر وسورية وإسبانيا وبريطانيا والولايات المتحدة التي نال منها اعترافاً من الاتحاد العالمي للنحت بكونه نحاتاً عالمياً.

في ذكرى أربعينه التي تصادف أواخر الشهر القادم، سنقيم معرضه الذي حلم به في بلده ومدينته، ونتوج له حلماً من أحلامه التي بقيت تسري في روحه سوريةً خالدةً خلود قامة الجبل الذي أنجبه.