"الهدو" و "المناغاة".. التواصل الروحي بين الأم وطفلها

اسماعيل النجم

أغاني "الهدو" و "المناغاة" شعر نسائي قديم قدم العلاقة مابين الأم وطفلها، لا يعرف قائله، إنما توارث بالشفاه عن الأمهات والآباء كلمات ونغما، وليس من آلة موسيقية ترافق أداء الأم لهذه الأغاني غير تلاوين صوتها الدافئ الحنون.

عندما يحين موعد نوم الطفل تحمله أمه وتضعه في السرير الخشبي أو الحديدي ذي القائمتين المحنتين، وتهزه برفق، أو تضعه في الأرجوحة، وتبدأ بأغاني النوم من نوع "الهدو " فيستجيب الطفل للصوت الحنون الدافئ ويشعر بالخدر اللذيذ، ويردد مع أمه بعض الأصوات في انسجام تام، فتعرف أن النعاس قد بدأ يدب في أجفانه، فتخفض صوتها شيئاً فشيئاً وهي تهدي له وتناغيه بالأغاني السحرية الجميلة حتى يتلاشى صوتها مع إغماضة عينيه.

و"آؤو" التي ترددها الأم إما مجرد صوت أو أنها مؤلفة من مقطعين "آ- ؤو، وآ" اداة لنداء البعيد أو ما هو نظيره كالنائم والغافل و"ؤو" هي الواو المفخمة التي تمتد وتمتد اثناء الهدو فتكون الموسيقا الهادئة التي تساعد الطفل على النوم، ولعلها الواو المتبقية من الهوم ومعناها النوم الخفيف، كأن الام تنادي النوم البعيد ليجيء إلى طفلها، فأصل النداء "آهوم" ثم انتهى إلى "آؤو" وكثيرا ما تعود الهاء في ترديد الأمهات فيلفظن العبارة بهذا الشكل: آهوو" أما الميم فلا تكاد تبين في اللفظ بعد مد الواو، فالهدو ضرب من الغناء يتميز بالصوت الناعم الذي ليس فيه انقطاع.

يقول "ابن الرومي" في وصف صوت وحيد المغنية:

من هدو وليس فيه... وسجو وما به تبليد

وأغاني الهدو تعتمد على ترديد كلمة نام أو نامي مع استعمال الكلمات التي فيها أحرف المدن أو مد الأحرف أثناء التنغيم في الكلمات التي تخلو من أحرف المد، لأنها تعطي أصواتاً ليس فيها انقطاع يكون لها مع النغم الرتيب تأثير سحري على الطفل من الناحيتين النفسية والفيزيولوجية يدفعه إلى النوم الهادئ المريح والعميق.

ومن هذه الأغاني:

نام يا ابني نام... لاذبح لك طير الحمام

ويا حمامات لا تخافو... عم بهدي لابنام لينام

أما "الترنيم" فعرف بأنه رجع صوته وطرّبه، حيث تتسم ترانيم ترقيص الأطفال ببساطة الصياغة، وتعبر عن آمال الأمهات في أطفالهن، وتشيع هذه الترانيم أرق العواطف وأنبل الأحاسيس والمعاني التي تستبد بوجدان الأمهات

كانت الأمهات يرقصن أطفالهن على نغم الشعر، ينظمنه في معان مختلفة، ويتضمن تشبيه الطفل بشخص عزيز، ويشدو هذا الشعر بصفات الطفل ذكرا أم أنثى، وتكتفي بعض الترانيم بالتعبير عن الحب الطاغي للطفل، وتعنى بعض الترانيم بعراقة أسرة الطفل أي إنها ترسم له طريق أسرته ليسير عليها عندما يكبر.

"فاطمة" بنتأبوها...ألف من خطبوها

واحد يقل لواحد...أنا عبدك يابوها

"فاطمة" من جودها...والكرام جدودها

والمعاضد عشرة... ينبته بزنودها

وفي وادي الفرات تبدأ المرأة الإنشاد لولدها لينام وهو يسمع صوت أمه الذي تبدأه بنغمتها الحزينة معبرة عنها بالتأوه "أوه -وآه" والتي تعني "أوف ويا ويلاه" ممزوجة بالألم، ومرارة الحياة، وكلما انتقلت بهداها لأبنها ببيت جديد من الشعر رددت "أوه -وآه" حيث يتألف كل بيت من الهدي من أربعة أشطر ينتهي كل شطر بالحرف نفسه.

فتقول:

أوه - وآه...أصبحت ببلاد وأصبح خاطري ببلاد... وأصبح قليبي عليهم كفحم حداد...يا كاتبين الورق حاج تكتبونه عاد... والعمر محدود لا ينقص ولا ينزاد.

وهناك بعض الأمهات التي تعرب عن تمنيات بأن ينشأ ابنها نشأة دينية وأن يحفظه الله ويبعد عنه الهموم ويرفع من شأنه

يالله ينام ابني...يالله يجيه النوم

يالله يحب الصلاة... يالله يحب الصوم

يالله يا دايم... تحفظ عبدك النايم

بعض أغاني المناغاة تحمل الفائدة إلى الأم أيضاً فهي تقدم لها نصائح تربوية وصحية في رعاية الطفل والعناية به وحفظه من البرد والأذى خلال النوم والاهتمام بنظافته قبل النوم.

نيمتو نومه نظيفة... ولفيتو بها الليفة

اهدي له يالطيفة... بلكي على صوتك ينام

نيمتو بسرير حديد... وخفت عليه من البرد يزيد

اهدي له يا م حميد... بلكي على صوتك ينام

أما أغاني المناسبات للطفل فهي أربعة احتفالات: الأولى حين الولادة، والثانية عند الطهور، والثالثة عند بزوغ الأسنان، ومن الأغاني التي تلاعب الأم طفلها في هذه المناسبة :

طلع سنو طلع سنو... بالله خبو الكعكة منو

وإن طلع سنو التاني... أبوه يطلق أمو

أما الاحتفالية الرابعة فهي عندما يبدأ الطفل في المشي فيخطو الخطوة الأولى فيصبح لزاما على الأهل أن يقيموا له حفلة شواء أو يوزعون الحلوى وتبدأ الأم على تعليمه الخطو برفق وهي تغني له:

داده يالله ويالله ... داده ويا ما شاء الله

خطوة خطوة... نقلة نقلة

ومية اسم الله... وما شاء الله

كما كانت الأم تحرص على ملاعبة طفلها خلال النهار فتمسكه بكفيها من إبطيه وتنططه في حضنها وهي تغني له الأغنيات المفرحة المرقصة، مشبعة حاجته إلى المرح والصوت والمنغم والحركة ومنها :

تس تك تس تك تستاية...بعرسك لا طبخ رشتاية

وإن عيروني الجيران... لاضربهن بالجمجاية

ومن أغنيات الملاعبة المعبرات، والتي ترسم لوحة اجتماعية للفقر والغنى في عهد الإقطاع والباشوات، هذه الأغنية التي تصور أما فقيرة تعاني مع طفلتها من البرد وهي تأمل أن تتغير الأوضاع فيصبح الباشا نفسه في خدمة ابنتها:

حوحو حوحو يابردي... قشة حطب ما عندي

عندي بنية غندورة... تضرب لي بالطنبورة

شايل بقجة حمامك... عمال يمشي قدامك

حمامك تحت القلعة... وأولادك ستة سبعة.

نشأت هذه الأغاني من حاجتين الأولى حاجة الطفل إلى أمه والرغبة في امتلاكها، واستبقائها قريبة منه مستهديا بصوتها وإن أغمض عينيه، والثانية حاجة الأم إلى ابتداع لغة للتواصل الروحي واللغوي مع طفلها، وبالتالي هذه الأغاني بأصواتها وكلماتها وألحانها هي اللغة المشتركة بين الأم وطفلها، ومما لا شك فيه بأن أغلب هذه الأغاني بدأت ببيت بسيط اخترعته أم، ثم تناقلته الأمهات فزادت إليه مقاطع أخرى.

وكأغلب الشعر النسائي الشعبي فإنه لا وزن لهذه الأشعار إلا النغم، ويغلب على بعضها استخدام "فعلن" فهذه التفعيلة أكثر ملائمة لتلوين النغم، وتختلف إيقاعات هذه الأشعار المغناة، وطول أبياتها، بحسب الحالة التي يكون فيها الطفل مع أمه من استعداد النوم للنوم، أو ملاعبة، أو تعليم للنطق أو السير، فهي تمتد بين الهدو والحركة السريعة الراقصة، وهي في جميع الأحوال تحقق أعلى درجات التواصل الروحي بين الأم وطفلها، وتمنح الصغير أهم ما يحتاجه وهو الشعور بالامان. 

 

المراجع

- دراسات ونصوص في الشعر الشعبي الغنائي- عبد الفتاح قلعه جي

غزليات من الفرات- عبد القادر عياش

معنى ومغنى من إدلب- عبد الحميد مشلح