رحلة الكتابة من "أور" إلى "أوغاريت"(1)

كمال شاهين

هل النساء أول من تكلم؟

يأتي الكلام طبيعياً لكل طفل طبيعي في أزماننا هذه، في حين أن تعلم القراءة و الكتابة عملية شاقة، أما استخدام لغة "الإشارة"  فهو عملية أسهل تقنياً في التفاعل بين بني البشر، وهذا يعني وفق كثير من الباحثين أن اللغة المنطوقة ثم المكتوبة خرجت من معطف إشارات تبادلها البشر فيما بينهم منذ أقدم الأزمنة.

اليوم لا يمكن الحديث عن لغات حية دون الحديث عن "الكلام" المرافق لهذه اللغة، ودون الحديث عن "رجال ونساء ومدن وكتب ومؤلفات وإذاعات وتلفزات ومواقع أنترنت" تتعامل مع هذه اللغة، فالكلام جوهر أية لغة، أما كيف وصلت هذه اللغة وغيرها إلى هذه المرحلة من التطور، فهو سؤال ما زال قيد البحث، وكثير من النتائج المطروحة علمياً تتضمن في جزء  منها تخمينات تتغير بعد كل معطيات أثرية وبيئية جديدة.

أحدث القراءات في تقدير تاريخ نشوء الكلام استقرت عند 150ألف سنة من الآن، يزعم "فيليب ليبرمان" في كتابه "حواء تكلمت Eve spoke” أن اللغة المنطوقة الحقيقية ظهرت مع الإنسان الحديث المسمى هومو سبينس، ويستند دليل تاريخ ظهور الإنسان العاقل هذا على التغير الحاصل في مورثات (الدنا الميتاكوندري DNA) وهو شكل من المورثات ينحدر فقط من الإناث، وبالاستقراء الزمني وحساب نسبة التغير في الدنا، استنتج العلماء أن كل ما هو موجود منه اليوم من امرأة عاشت في أفريقيا قبل 150ألف عام، وهذه المرأة أصبحت تعرف، وبما لا يدعو إلى الدهشة، باسم "حواء"، ويطرح الباحث "مايكل كوراليس" سؤالاً مهماً تعقيباً على حديث "ليبرمان": إذا صدقنا جدلاً أن هذه المرأة تكلمت، ترى هل هناك من استطاع فهم حديث حواء هذه؟([1]

إن الحقبة بين ظهور الإنسان على سطح الأرض كتطور عن أحد الرئيسيات كما يقول بذلك كثير من علماء الأحياء، وظهور اللغة امتلأ تأكيداً باستخدام الإنسان الإشارة لإيصال أفكاره ورغباته إلى الآخر، وهذه هي الطريقة الوحيدة الممكنة التنفيذ بين أعضاء مجتمع ليس لديهم معاجم وحروف وكلمات، ولليوم ما زالت بقايا هذه اللغة الأولى موجودة في اللاوعي البشري وتتضح أكثر ما تتضح في سنوات الأطفال الأولى (حتى ثلاث سنوات)، حيث يستخدم هؤلاء البشر الصغار الإشارة التي لم يعلمهم إياها أحد من آبائهم لإيصال رغباتهم وأوامرهم.

الإشارة كلغة ليست لغة بالمعنى النحوي والصرفي، رغم وجود لغات إشارية كثيرة في العالم اليوم تتجاوز الألفي لغة، خاصة تلك المستخدمة من قبل الصم والبكم، ولكنها ـ أي الإشارة ـ هي الوحدة الأساسية الموازية للكلمة، وهي تتألف من حركات مختلفة بالأيدي ينفذها الشخص المشير إلى المواجه له أو قريباً منه، وتسهم تعبيرات الوجه في ذلك التواصل أيضاً، وكثير من المشيرين يفضلون استخدام اليد اليمنى على اليسرى، لماذا، لا أحد يقدم سبباً مقنعاً، ويرى بعض المختصين باللغويات أمثال "سوسير" أن الملمح الرئيسي الفاصل للغة هو الطبيعة التحكمية للرموز التي تستخدمها، ومن هنا يميز "سوسير" بين متتالية الأصوات، ويسميها "الدال"، وما تمثله ويسميه "المدلول"، ويضيع هذا التمييز في اللغات الإشارية الحالية أكثر من لغات الزمن القديم كما يبدو ([2]).

من الواضح اليوم، ضمن  متتالية "سوسير" السابقة، أن العلاقة الصوتية التي تحكم حرفاً لغوياً ما، تجاه "المدلول" الذي "تشير" إليه قد أصبحت في غيابة النسيان، فكلمة "بيت" اشتق منها حرف الباء في نقوش سيناء، وهي دلالة لا علاقة لها الآن بأي شكل بالبيت الحالي أو القديم، لا شكلاً، ولا تأثيراً صوتياً، فشكل البيت في أبجدية سيناء كان على شكل صندوق مغلق تماماً، وأحياناً قليلة كان يترك فيه ثغرة توسعت تدريجياً حتى أصبحت في الخط المعيني الجنوبي العربي صندوقاً مفتوحاً بدون نقطة ولكن مقلوباً ( مثل حرف ج اليوناني)، وحتى ابتكار التنقيط في العربية على يد "أبو الأسود الدؤلي" كانت حروفا كثيرة في العربية متشابهة ويصعب فك شيفرتها (ب، ت، ث ومثلها كل الحروف المزدوجة).([3])

في التخمينات المتعددة  لنشوء اللغة الأولى، يتحدث الباحثون عن تغيرات فيزيولوجية في بنية الحنجرة والرئتين واللسان والأعصاب التي تصل الدماغ باللسان (كالعصب المبهم)، ويركز البعض من هؤلاء على أن انتقال حركة الإنسان من الحركة مستخدماً أطرافه الأربعة إلى الحركة مستخدماً قدميه فقط مع تحرر يديه، قد أثر في تركيبته الفيزيولوجية عبر حقب طويلة أفضت إلى هبوط موقع الحنجرة لديه إلى حيث هي الآن، واختفاء الجيوب الهوائية الموجودة في منطقة الرقبة لدى كل الرئيسيات، مما قاد تدريجياً إلى تغيرات في بنية الحنجرة أدت إلى ظهور الكلام في حقبة تقترب من 150ألف عام كما ذكرنا قبل قليل .([4]).

توجد دلائل كثيرة على أن تعلم الكلام لدى هذه المجموعة البشرية المخمن عددها بحوالي عشرة آلاف شخص، بدأ مع أصوات القباع والصراخ ومن ثم إصدار الحروف اللينة، والأخيرة لا تحتاج إلى جهد لإطلاقها، وهي معروفة اليوم بأحرف العلة في كل لغات العالم (أ، و، ي)، ومن هذه الحروف اللينة أيضاً وليست حروف علة، حروف الميم والكاف والباء، ويستدل  عليها من مراقبة الأطفال وأحرفهم الأولى، فأغلب كلمات الأطفال في معظم لغات العالم تبدأ بهذه الحروف وبكلمات مقطعية من حرفين مزدوجين، مثل ماما وبابا وكاكا (الأخيرة تقليد واضح لصوت الدجاج، والمقطع (كا) موجود في السومرية اسماً لأحد ملوك أكاد)، ومرة أخرى فإن الكلمات المقطعية المزدوجة كما يبدو أساس في أغلب لغات العالم، تطور بعض هذه المقاطع ليصبح ثلاثياً ورباعياً في حالات قليلة.

إذا لقد ظهر الكلام، ومما يؤسف له أنه لم يكن لدى أولئك الأقرباء مسجلات كتلك التي اخترعها أديسون القرن الماضي حتى نستمع إلى طفولتنا المفقودة، وبدأت البشرية تضج وتملأ الفضاء بثرثرة لا تنتهي، ومن الجدير ذكره أن "داروين" طرح نظرية في ظهور اللغة تتمثل في تقليد البشر للطيور في غنائها، وأنهم اكتسبوا مهارة الصفير من محاكاة حركة لسان بعض الطيور، كما اكتشف ذلك في جزء من جزر آسيا الشرقية حيث كان يقوم بأبحاثه تلك.([5]).




[1]
     في نشأة اللغة، مايكل كورياليس، ترجمة محمود ماجد عمر، سلسلة عالم المعرفة، العدد325آذار 2006، ص58-60

[2]     مرجع سابق، ص 130

[3]     حول هذه الإشكالية، كتاب الباحث "منير صبح سعيد" لماذا كانت العربية أم اللغات، دار المرساة، اللاذقية، 2006

[4]     نقاشات كثيرة حول هذه النقطة،  لمن يرغب بالتوسع فيها كتاب "في نشأة اللغة" المصدر السابق ذكره.

[5]     أصل الأنواع، تشارلز داروين، منشورات الجامعة العربية، ترجمة محمد بدران، 1965