سعد يكن: أقدّم صورة بصرية بصمتٍ صاخبٍ يُسمع بالعين

إيمان أبوزينة

من بحاول الغوص في فهم لوحاته يحتاج إلى أكثر من قراءة، وأكثر من استفسار، لكن الأمر في النهاية يأخذ شكلاً حرا من خيال المتلقين اتجاه اللون، والخط التشكيلي الذي يرسمه مايجعلهم يطرحون تساؤلاتهم بانتظار مايريد هو إخبارهم به من إجابات..!

هو الفنان التشكيلي  السوري "سعد يكن" الذي لايتوقف عن إثارة الجدل حول تجربته الفنية  ومواضيعه التي يطرحها في أي معرض جديد يعنونه حسب دراسته العميقة لهذا العنوان كل مرة.

موقع "المفكرة الثقافية" التقى مع الأستاذ "سعد يكن" وكان الحوار التالي:

*من المعروف أنك تتعامل مع حركة لوحتك وكأنها حدث لقصة حقيقية، أو مقروءة، كيف تلخص هذه التجربة فيما تعمل به الآن؟

** في أعمالي أتناول الموضوعات الحياتية أو الفكرية وأحولها إلى أشكال فهناك مجموعة من الموضوعات الذهنية وموضوعات واقعية من خلال حركة الإنسان الشكلية أو النفسية، فهما محوران يعكس كل منهما قضية وشكلاً خاصاً به. أنا أتناول موضوعات في كل مشروع فني وخصوصا في الفترات الأخيرة من حياتي الفنية، وأتناول موضوعاً واحداً وأحيط به ككل من أجل تقديم مشروع بصري كامل حول إختياري للموضوعات الإنسانية أو النفسية أو الشكلية، ورغم هذا التناول فأنا أحاول إعادة صياغة الأشكال لتقديمها بمقولة ذاتية تمزج بين اللاشعور والثقافة والوعي والتجربة والحياة

 

 

*الملاحظ اهتمامك الشديد بالانسان لدرجة نستطيع فيها رؤية تعابيره، مايعطي زخماً للتجربة الانسانية التي رأيتها فيه، كيف تقرر العمل بهذه الطريقة، وهل هناك قضايا معينة تختارها لتصنع معرضك؟

**إن اهتمامي الشديد بالإنسان هو نتيجة تجربتي الشخصية أولاً، واستعدادي الدرامي الداخلي ثانياً، فأنا مأخوذ بالتغيرات السيكولوجية للأفراد من خلال انفعالاتهم المقروءة وغير المقروءة، فأنا على الغالب لم أقرر منذ البدايات أن أسير وراء الخط الدرامي الإنساني، وإنما كان حالة من الإسقاط لعبء التجربة والثقافة والحياة، فكل المواضيع التي تتعلق بالإنسان يمكن التعبير عنها بشكل أو بآخر ومن هنا يمكننا أن نذهب إلى الأدب والموسيقى والثقافة .

*هل تعتمد التنوع في تقنيات الرسم اللونية مع كل تجربة جديدة أومعرض جديد؟

**على الغالب.. كما أغير في رؤيتي للعالم والأشياء حولي، فأنا أغير المواضيع والتكنيك حسب متطلبات التجربة، فأنا حر في اختياري للتقنيات لخدمة الأشكال والألوان في اللوحة وبحرية تامة. إن الموضوعات عندي هي التي تختار أسلوبيتها وليس التفكير المسبق بالتقنية أو بالأسلوب، فأنا فنان حر في لوحتي ولست مكبلا بالسمعة الفنية أو بالأسلوبية أو بالقرار، لذلك يأتي كل معرض من معارضي بأسلوبية معينة سواء كان بالألوان، أو بالأسود والأبيض، أو بقلم رصاص، أو بأي مادة أخرى .

 


* معارضك حول "ملحمة جلجامش" في صالة "الجابري"، وفي صالة "القواف" بحلب، ثم في صالة "الأتاسي" بدمشق، وبعدها في صالة "الفصول الأربعة" في لوس انجلس، عكست اهتمامك الشديد بهذه الملحمة لدرجة جعلتنا نتصور أنك من وضع رسوماتها، كيف تفسر لنا ذلك؟

**في معرض "جلجامش" أنا لم أسجل الحدث الأسطوري بأعمال فنية وإنما أعدت صياغة وقراءة الحدث الملحمي برؤية جديدة معاصرة، لذلك لايمكن أن تتطابق اللوحات مع سير الملحمة تفصيليا وإنما تعطي رؤية تشكيلية مختلفة عما هي عليه في الواقع، لذلك لاأعتقد أن لوحات معرض جلجامش تصلح لتوثيق المرحلة مباشرة وإنما هي مشاركة حقيقية في صياغة "جلجامش" جديد و "إنكيدو" آخر، فمثلا في الملحمة هناك مجموعة لوحات عن حادثة موت "انكيدو"، وهناك مجموعة أعمال تخص الملك جلجامش ولم أتناول في المعرض ككل سير الحدث التفصيلي السردي بلوحات وإلا تحولت الأعمال إلى وسيلة إيضاح لنص كبير اسمه ملحمة جلجامش فأنا أشارك الملحمة بصياغات جديدة بعيدة كل البعد عن المباشرة أو السرد البصري الممل .

 

*مالذي أردت إيصاله "تقنياً ونوعياً " في معرض "نحو ايقونة حلبية حديثة"، وكيف كانت ردود الأفعال اتجاه الايقونة "اليكنية" التي أبدعتها؟

**عادة في اختياراتي للموضوعات أتحول لمعايشة الموضوع بشغف والتصاق هذا ماحدث معي في معرض "نحو أيقونة حلبية حديثة"، فمن خلال قراءتي للكتاب المقدس تحولت إلى شخص متدينٍ قريبٍ جداً من قلب السيد المسيح، لذلك قدمت رؤية وأحداث تتعلق بالأيقونة غير مسبقة، فقد اخترت موضوعات جديدة لصياغة أيقونات معاصرة، ويجب أن نتذكر أن هناك مدرسة حلبية في رسم الأيقونات في القرن السابع عشر على يد "يوسف المصور وأولاده" فأنا لم أنهج أي أسلوبية مسبقة لتقديم هذه الرؤية وإنما حاولت أن أعيد صياغة الفكر الديني لأيقونة خاصة تحمل رغم كل تحويرها جانباً روحياً أولاً ، وحدثاً مسيحياً جديداً غير مسبوق في الأيقونات المزروعة في الكنائس والمتاحف ثانياً ، ورغم عدم تقبل أيقوناتي حين عرضتها في حلب، إلا أنها سرعان ماتوزعت في دول الجوار، ومع الزمن صار الطلب ملحاً هنا على بعض الأيقونات رغم أنها سوقت..!  أنا اليوم لم أعد في نفس الدائرة التجريبية للحالة الروحية لرسم الأيقونة .

 

 

*عملت لمدة خمس سنوات مع الأطفال المعوقين في دار المبرة بحلب, ماذا قدمت لك هذه التجربة،  وماذا قدم لك الأطفال؟

**عملت في المبّرة الخيرية الإسلامية في مدينة حلب مع الأطفال المعوقين جسدياً والمعوقين ذهنيا ، إنها تجربة تحمل أولاً المحبة لتحمل المآسي، وثانياً الصبر للمتابعة بعيداً عن الإعلام والإبتسامات أمام الكاميرا واحتضان المعوقين بخمس أو عشرة دقائق. إن صعوبة العمل مع المعوقين ينطلق من حاجتهم للتواجد الدائم معهم وكانت هذه هي المشكلة الكبرى، فالإلفة غير الواعية تفرض شروطها بالتواجد،  وخلال خمسة أعوام أقمنا والأطفال خمسة معارض في حلب ( المتحف الوطني ) – صالة أمية الزعيم ، وبدعوة من السيد السفير الفرنسي تم إقامة معرض في بداية التسعينات في المركز الثقافي الفرنسي في دمشق، وكان تسويق الأعمال لصالح الأطفال المعوقين، وطبعاً كانت الأعمال مقدمة بأفضل طريقة وإخراج ممكن لأي لوحة فنان محترف، ولكن مع الوقت ومع صعوبة فقدان الأطفال نتيجة إعاقتهم صار الوضع صعباً واكتفيت بتسليم هذه المهمة الى بعض المساعدين ليصار إلى متابعة هذه التجربة المستمرة بشكل متقطع حتى الآن .

*هل تخاف أحياناً أن لاتُقرأ الدلالات والرموز في أعمالك كما تريد لها أن تصل؟

**من التأكيد أنني حريص أن أبلغ مقولة أو رسالة بصرية إلى المشاهد، وحريص أيضاً على تقديم صورة بصرية تحمل كل المواقف والتجربة والموهبة معلقة على الجدار بصمت صاخب يسمع بالعين. المشكلة الدائمة ليست في القراءة الخاطئة لموضوعاتي أو لشخوصي في اللوحات، المشكلة دائماً تكمن بالمشاهد فعين المشاهد عامة ( أُميَّة ) لأننا شعب كلمة قبل أن نكون شعبا بصريا، من هنا ونتيجة التنطح الثقافي الدائم نجد أن المشاهد يفهم في كل شيء ويقرر رؤيته على الفنان رغم تخلفها. إنها مشكلة ومعضلة لأننا على الغالب مازلنا في حيّز المنظر الطبيعي، وحين يمتدح مشاهدٌ لوحة ما يقول إنها ناطقة، أي أنها صورة طبق الأصل عن الإنسان أو الطبيعة. هذه الرؤيا المتخلفة تؤثر سلبا على تذوق العمل الفني لذلك ليس الخوف من القراءة المغلوطة وإنما الخوف من الحكم المغلوط نتيجة قلة الثقافة والخبرة والتجربة المتعلقة بالفن البصري خاصة .

 

*بماذا تفسر قلة وجود النقاد التشكيليين في سورية، ولماذا نسمع تذمراً دائماً من قبل الفنانين عن حاجتهم لنقاد جديين يتعاملون معهم بمهنية عالية؟

**لم تتمتع سورية بحشد نقدي في مجال الفن التشكيلي في يوم من الأيام، بل كان هناك دائماً مجموعة حول أصابع اليد الواحدة في مجال النقد في كل مرحلة، وكان ومازال على الغالب نقد يدخل في مجال الإنطباعية والأمزجة والعلاقات الشخصية، فالنقد الفني هو موقف ثقافي يمكن أن يقوم على أسس مختلفة تنتمي إلى المدارس الفنية النقدية في الأدب أو الشعر أو الموسيقى للإنطلاقة منها لقراءة العمل التشكيلي، وهذا موضوع بحاجة إلى تخصص جدي، فالناقد قضية مهمة جداً في الحركة التشكيلية عامة وفي كشف اسرار اللوحة للفنان، لأنه حين يكون النقد جاداً يكون هناك حركة تشكيلية أقرب مايكون إلى الموضوعية والأهمية بعيداً عن خلط الأوراق بين الحابل والنابل، كل هذا لايمنع من وجود بعض النقاد التشكيليين القلائل جداً في سورية الجادين ولكنهم كزهرات صغيرة في صحراء اللوحة التي ترفض قطرة ماء أو سماع صوتٍ يمكن أن يكون تحولاً في خط اللوحة نحو ماهو أفضل للفنان وللمشاهد .

*هل من الممكن أن تُورث جينات الفنان التشكيلي إلى أبنائه، وإلى أي حدّ حسب رأيك؟

**من الصعب الجزم بأن الفنان قد يورث أبناءه جينات الإبداع، ومن الصعب الجزم عكس ذلك، فالموهبة قضية تمنح لأفراد ( كطفرة ) دون سواهم فلا أجد في عائلتي أي توجه فني لامن طرف الأب ولامن طرف الأم رغم ذلك فهناك في العائلة رسام – ومطرب ( فهد يكن ) وشاعر ( رعد يكن ). إن تاريخ الثقافة يحمل في طياته تناقلا للموهبة بين الأب والإبن مثل بيكاسو – الكسندر دوماس – الأب والابن، ومجموعة كبيرة من الموسيقيين في العالم، إلا أنني أعتقد أنه ليس بالضرورة أن يحمل الأب جينات الموهبة لأبناءه في الجيل الثاني، وعلى كل الأحوال فلننتظر ونترك هامشاً للجيل الثالث الرابع الخامس ... العاشر  ...

 

* هل يمكن أن يتوقف الرسم عند الفنان التشكيلي، وهل تخاف من لحظة قادمة لاتجد فيها موضوعاً لترسمه؟

**الرسم بالنسبة لي هو الطريقة التي أمارس بها وجودي، فأنا أعيش الحياة منذ البدايات وحتى الآن واستقبل العالم كرسام، لذلك أنا لاأخاف من ذاتي بالتالي لاأخاف من الرسم لأنها الطريقة المثلى للتعبير عن المشكلة التي هي أنا، وقد فكرت مراراً إذا كنت أستطيع أن أتخلى عن موقفي كرسام وهذا شيء طبيعي يمكن لكل فنان ( إذا كان صادقاً ) أن يمر بلحظة عجز يشعر أنه لم يعد قادراً على العطاء فيقف عن الرسم ليوم ، لأسبوع ، لسنة .. لعمر ..، فأنا سيد العمل الفني لذلك ليس هناك مخاوف في ترك الرسم إذا كنت في حالة مكتملة مع انقطاعي أو تعبيري عن ذاتي عن طريق الرسم، وهذا السؤال يشبه سؤال المتعلق بالموسيقا، وأنا أتساءل أحياناً هذا السؤال: هل يمكن للموسيقى أن تنتهي في يوم من الأيام؟ كذلك هل يمكن للأديب أن يقف عن التعبير لعدم إلحاح موضوع للتعبير عنه؟  كذلك في الرسم :هل يمكن أن تنضب المواضيع والأشكال والطبيعة والإنسان والمشاعر في لحظة ما ... إنه الموت ..!

*كيف يعيش الفنان التشكيلي "سعد يكن" يومه بعيداً عن الرسم ؟

**أعيش يوميات في الفترة الأخيرة من حياتي باردة بعيدة نسبيا عن الإنفعالات نتيجة انحساري التدريجي عن الحركة الإجتماعية لأنها سببت لي ضرراً كبيراً من خلال الإنسان والمرأة ، أعيش بتنظيم مقبول مبتسما للمارة وحيداً مع صديقي الكرسي في المقهى، بعيداً عن الغضب، بعيداً عن الإنفعالات المباشرة، أسير بين سلوكٍ يوميٍ تافهْ وحركة داخلية عميقة تحمل في طياتها كل الموجودات وكل المشاعر وكل الإنفعالات بصمت لايرى وهدوءٍ بارد يصل إلى حد الغضب الممتد بين عيني والجدار. يومياتي تتراوح بين السلوك العادي والقهوة. العمل بعد الظهر حتى المساء، ومن ثم في هذه المرحلة إلى مطعم قريب يجمع بين المطعم والمقهى، كل ذلك بتنظيم لا إرادي مريح أضفى على يومياتي مسحة من البرودة ترى وتسمع وتلمس باليد الواحدة أو بكلتا اليدين .