شيخ مطربي حلب.. صبري مدلل (1918-2006 )

من حلب المعروفة بحُبها للطرب الأصيل، وشغفها بالموسيقا العريقة، يتقدم صوت الفنان صبري مدلل، كواحد من أجمل الأصوات في تاريخ هذه المدينة، وتاريخ سورية عموماً. . 

وإضافةً إلى ذلك.. سيكون بمقدور هذا الصوت الرخيم أن يحمل التُراث العربي الأصيل، المُتمثل بالموشحات والأدوار والمقامات والقدود الحلبية والأذكار والمدائح النبوية، إلى الأمم والحضارات الأخرى.

كان "صبري مدلل" على موعد مع العالمية، منذ اللحظة التي التقى بها مع الباحث الموسيقي الفرنسي "كريستيان بوخيه" الذي أذهله صوت الفنان الحلبي، فعمد إلى تسجيل أسطوانة لفرقة صبري مدلل، بعنوان (مؤذنو حلب)، ثم دعاه إلى إحياء حفلة في باريس، استطاع فيها الشيخ المُنشد أن يذهل الجمهور الفرنسي من مُحبي الغناء والموسيقا. وتكررت التحربة مرة أخرى، في أواخر الثمانينيات، حين دُعي صبري مدلل وفرقته، للمشاركة في مهرجان التراث العربي بباريس، فلفت انتباه الصحافة الفرنسية التي وصفت ذلك الصوت، بأنه "صوت حمل أشجار النخيل والخيام وحداء القوافل إلى باريس". ونتيجة للنجاح الكبير الذي حققته الفرفة الحلبية سُجلت ملايين الأسطوانات التي لاقت رواجاً منقطع النظير. وبعد باريس سيجول الفنان صبري مدلل وفرقته على أهم مسارح العالم.

يقول الباحث محمد قدري دلال في كتابه شيخ المطربين... صبري مدلل  بأنه ولد في الدار العربية التي تقطنها عائلة المدلل في حي الجلوم من مدينة حلب عام 1918، وأورثه أبوه كثيراً من أخلاقه مع الأمانة والاستقامة والتواضع وحب العلم، واكتشف الوالد أحمد جمال صوت ابنه باكراً من خلال قراءة القرآن لدي شيخ الكتاّب، ثم من خلال إنشاده بعض التواشيح في حلقة الذكر التي كان يصحبه إليها، وهو لم يتجاوز السادسة، وفي الثانية عشرة دفعه أبوه إلي المعلم عمر البطش الذي رعاه وقاده إلي الطريق التي تابع فيها حتي أصبح نجماً وعلماً يشار إليه بالبيان.

وفي رواية أخري أن والده أخذه في عام 1930 إلي الشيخ أحمد المصري لتعليمه القرآن والتجويد، واكتشف المصري موهبة الفتي وجمال صوته، فدفع به إلي المعلم عمر البطش ليتعلم الغناء والتلحين علي يديه، وقد علمه البطش حقـــاً فن الموشــحات وعلوم المقامات والأوزان والضــروب، بعد ذلك تعلم العزف علي العود، وأتقن آلات شتي موسيقية، وبرع في الدف كأستاذه البطش.

يقال أن البطش كان يأخذ منه نصف ليرة علي الدرس الواحد، لكنه بعد أن لمع نجمه في عالم الغناء، وأصبح يحيّ الحـــفلات الديـــنية والعامة مقابل خمــس ليرات، ظلّ يعطي ليرتان لأستاذه.
ونحن الآن نستطيع الحديث عن أهم حاضنتين لموهبة صبري مدلل الغنائية، الأولي كانت المدرسة القرآنية التي ضبطت قواعد التجويد ومخارج الحروف وأحكام المدّ وأصول النطق لديه، وقد دفعه الشيخ أحمد المصري كمكافأة له ليؤذن في الناس للصلاة، فكان الناس يجتمعون لآذانه العذب، وهو أصغر المؤذنين سناً. و يقول البعض أنه بدأ مؤذناً في جامع الكلتاوية وآخرون يحددون جامع العبارة قبل أن ينتقل إلي الجامع الأموي الكبير في وسط مدينة حلب.

الحاضنة الثانية لموهبته كانت المدرسة الحلبية التي حفلت بأهم الأساتذة في فن الغناء والتلحين منذ بدايات القرن المنصرم، حتي أن اسمها ارتبط بفن القدود الحلبية، كما ارتبطت الموشحات بالأندلس مكاناً وعصراً، ولا تزال حتي الآن تعرف حلب بمدينة الطرب. وهذا أتاح لصبري أن يتتلمذ علي يد أسماء كبيرة كعمر البطش والشيخ علي الدرويش وبكري الكردي، وسواهم. وقد عمل في إذاعة حلب مع سواه من المطربين حين افتتاحها علم 1949، وكانوا يؤدون وصلاتهم علي الهواء مباشرة، وأول ما غني للملحن بكري الكردي أغنيتين هما ابعتلي جواب وطمّني و"بيجي يوم وترجع تاني وهما للشاعر حسام الخطيب. لكن والده استاء من العمل في الإذاعة بعدما ذاع صيته، فترك الإذاعة عام 1954، وشكل فرقة خاصة باسمه للإنشاد والعناء الديني، وقد برع في ذلك أيما براعة، خاصة وأنه كما يقول قدري دلال لقد استلهم ما خزنته ذاكرته من أعمال سيد درويش والقصبجي وعبد الوهاب وذكريا أحمد وداوود حسني، فأعطي لوناً جميلاً في أثواب لم يعرفها الإنشاد الديني قبلاً ولم يعهد مثلها في قوالبه .
وقد استمع إليه الموسيقار البلجيكي كريستيان بوخه وأعجب بأداء الفرقة وصوت صبري مدلل الشجي، فسجل له اسطوانة بعنوان مؤذنو حلب ، وضعتهم هذه الأسطوانة علي خارطة الغناء العالمي، حيث نظمت لهم عام 1975 حفلة في قصر الثقافة في باريس، ودُعيت الفرقة بعدها إلي العديد من العواصم العربية والأوروبية،وكانت أهم مشاركاتها في مهرجان الموسيقا العربية لامونديال 1986

مع هذه النقلة التي حدثت عام 1975 أدخل صبري مدلل الآلات الموسيقية إلي الفرقة، وبدأ يطور في أدائها، ويشارك مع رقصات محلية كرقص السماح، مما جعلها تتألق في العديد من المناسبات، كما تطورت الإنشاد الديني. وعاد صبري مدلل إلي الغناء منذ ذلك التاريخ، بل يمكن القول أنه شكل هوية جديدة للأغنية السورية المتطورة، خاصة وأن صبري يعتمد علي الارتجال والتطريب في أدائه، وأذكر له في إحدي الحفلات وكان يغني جالساً، حين انتصب فجأة وقد تملكه توق صوفي، وأخذ يؤذن في الجمهور الذي ازداد إعجاباً وإكباراً بفنه العظيم، حيث لم يفصل الغناء عن النشيد الديني أو الآذان.

على الرغم من المسيرة الحافلة، والنجاح الباهر الذي حققه صبري مدلل، إلا أنه لم يترك مهنة العطارة، فبعد كل جولة من جولاته كان يعود إلى دكانه الصغير في الحي الشعبي، فهذا المُنشد الذي كان يدوّخ مستمعيه ويدخِلهم في الفضاءات الصوفية والروحانية، ربما كان بحاجة إلى من يُطربه ويأخذه إلى فضاءات خاصة، ولعل رائحة التوابل والبهارات كانت تفعل ذلك!