صحافة ناقدة – مجلة الجندي- صلاح الدهني

إعداد الدكتور مهيار الملوحي

صدرت مجلة (الجندي) في دمشق في 1/8/1946، وكانت تصدر عن الشعبة الثالثة في الأركان العامة، وهي مجلة ثقافية أسبوعية تصدر صباح يوم الخميس من كل أسبوع، وجاء أن مديرها المسؤول: رئيس الشعبة الثالثة في الأركان العامة، وأن هيئة التحرير: المجلس الثقافي العسكري، وهي مجلة من الحجم الكبير وذات غلاف أبيض مصقول وملون، وضمن (54) صفحة مع الغلاف الأول والأخير، وكانت متنوعة الأبواب والمقالات الثقافية إضافة إلى الثقافة العسكرية واستقطبت الكثير من الأقلام في نختلف الاختصاصات.

ولم تغفل المجلة النقد السينمائي، وكان الأستاذ صلاح الدهني ينشر المقالات العديدة حول الفن السابع في الدوريات السورية والعربية، وصلاح الدهني ولد في درعا عام 1925، وتلقى علومه الأولية في مدارس دمشق، ودرس السينما في معهد الدراسات العالية في باريس، وحصل على دبلوم الإخراج والإنتاج عام 1950، وفي السنتين الأخيرتين من إقامته في باريس تابع دراسات (الفيلمولوجي) في السور بون، وبدأ في عام 1952 يقدم أحاديث أسبوعية في الإذاعة السورية في النقد السينمائي تحت عنوان (السينما في أسبوع) واستمر هذا البرنامج لمدة طويلة واستبدل اسمه بعنوان (عالم السينما) وعمل مخرجا سينمائيا ومحررا ورئيسا لدائرة السينما في وزارة الثقافة، ومديرا لإدارة الشؤون الفنية، ورئيسا لاتحاد النقاد السينمائيين في سورية، وشغل منصب مدير المركز الثقافي في دمشق، وله العديد من المؤلفات مثل قصة السينما، وقصة السينما في سورية، وقضايا السينما والتلفزيون في العالم العربي، وله معجم المصطلحات السينمائية، عربي ، فرنسي، انكليزي، وله عدة قصص وروايات، كما ترجم بعض الأعمال الأدبية عن اللغة الفرنسية، وأخرج عام 1977 شريطا روائيا طويلا عنوانه الأبطال ولدوا مرتين، وأخرج عددا من الأشرطة الوثائقية القصيرة.

وفي العدد (211) من مجلة الجندي، السنة الثامنة والصادر في 23 حزيران عام 1955 كتب صلاح الدهني نقدا سينمائيا تحت عنوان (جنكيز خان لا يحب النايلون) بقلم صلاح الدهني المعلق السينمائي في الإذاعة السورية، وتحت عنوان أولي (الفن السابع) جاء ما يلي:

(جمهور السينما يعرض عن دخول صالات العرض في الصيف بسبب شدة الحر، وتفضيله جو المقهى على جو الصالات المخنوق، هذا أمر ثابت إلى حد بعيد، إلا أن الجمهور لا يفوت رؤية فيلم قوي، سواء كان عرضه في الصيف أم في الشتاء، وتشكو الصالات من إدبار الجمهور، ولكنها في جل الأحيان، لا تفكر أبدا بشكوى الجمهور منها هي تقدم للجمهور ما تشاء وعليه هو أن يذعن ويخفض الرأس وأن يمد يده إلى جيبه بدون ما كثير كلام وثرثرة.

وقد جاءتنا الصالات بأفلام ايطالية في عامي 1951و1952 أعجبت الجمهور فأقبل عليها إقبالا جنونيا، أعجبته لسببين:

1-    لأنها غيرت عليه جو أفلام هوليود التي مل ما فيها من تكرار وإعادة وقلة تجديد.

2-    لأنها كانت لصيقة بالحياة، تقرب الإنسان مشكلات يومه على نحو فني ذكي، وتقترح لها- ضمنيا وبمجرد تصويرها- حلولا إنسانية شريفة،

غير أن الصالات عادت تنتقي من الأفلام الإيطالية أسوأها خلال السنوات الثلاثة التالية، فهبطت إلى الجنسيات والتافه من البطولات والفارغ من المغامرات التي تعلق أنفاس المشاهد خلال مدة العرض، ثم تترك بعده غصة في حلقه وطعم مرارة، هكذا عادت الصالات تقدم أفلاما على طريقة هوليود تماما، ولكنها ناطقة بلغة مطاطة وناعمة، كالمعكرونة، أكلة أهلها المفضلة.

وخلال شهر رمضان الأخير لم تعرض في صالات دمشق سوى أفلام الشركات الكبرى، فجاءتنا منها عشرات تقدم ثم ترفع ما يسيء إلى العرب أو يحمل دعاية لليهود أو يصور فعال الاستعمار في بعض البلدان بأنها فعال ملائكة وأصحاب رسالة تمدينية... وهذا المنع الذي طالعتنا الصحف بالشيء الكثير منه عملية محمودة وإن كانت غير منتجة، وأقول ذلك مع علمي التام بأننا نستطيع، في حدود إمكانياتنا، القيام ببعض التدابير الزجرية بحق الشركات التي تنتج مثل هذه الأفلام، وأول هذه التدابير منع كل أفلام الشركة المنتجة من دخول البلاد العربية كافة، ومثل هذا الموضوع يتطلب دراسة وافية في الدوائر الثقافية التابعة للجامعة العربية، وقد سبق لهذه الشركات أن أرسلت أفلامها المسيئة للعرب أو الممجدة لليهود بكل صفاته، لتعرض في البلاد العربية، فمنذ أمد عرضت صالة الأهرام فيلم (بساط الريح) ثم رفعته بعد يومين لأنه وجد فيه إساءة للعرب، وتقدمت إحدى الشركات بطلب الترخيص لها بعرض فيلم (شمشون ودليلة) الذي يمجد شخصية يهودية فلم يرخص لها بذلك، وكذلك منح فيلم آخر لا يحضرني الآن اسمه لأن فيه دفاعا عن اليهود.

وأبشع ذكرى عن الأفلام التي (تمكنت من المرور) هي تلك التي ظلت عالقة في أذهان من أتيحت لهم رؤية فيلم (أميرة سمرقند وجنكيز خان) فبل أن يمنع عرضه ويرفع من الإعلان، في هذا الفيلم تتحدث هوليود عن أميرة سمرقند الشرقية مئة بالمئة على الصورة التالية: آن بلايت الممثلة هي سمرقند، رغم أن المرأة على الصورة في الإسلام، تظهر خلال تصريفها شؤون الدولة، وقد اندلق ثدياها وانكشف صدرها حتى السرة لا تخفيه سوى غلالة شفافة (من النايلون ولا شك)، وحولها نفر من وصيفاتها كالعاريات أبدا، في الليل والنهار وفي أشد ساعات المحنة.

وجنكيز خان مؤسس أول إمبراطورية تترية في التاريخ، وقد يكون أشهر قائد في تاريخ الإنسانية، تظهره هوليود على أنه طأطأ الرأس بجيوشه الجرارة أمام بعض المؤامرات الهزلية التي حاكها رجل هو مبعوث فيما يدعي من قبل ملوك الغرب لإنذار جنكيز خان بالويل والثبور فيما إذا خطر بباله يوما أن يوجه جيوشه إلى الغرب! قصة الفيلم كلها تدور حول بطولة عشرة من الغربيين اندفعوا بخيولهم حتى بلغوا أواسط آسيا وأقاموا من أنفسهم حماة لأميرة  سمرقند الجميلة، هكذا لوجه الله والعدالة، وعلى طريقة اللص الظريف لوبين، لقد كانوا بكل معنى الكلمة عشرة من (اليانكي) في بلاط هارون الرشيد تماما إذا أردنا التشبيه، جعلت هوليود من هؤلاء العشرة جنودا من الإنكليز، أي من الإنكليز سكسون على أي حال، ولو أن أمريكا كانت قد اكتشفت في ذلك العهد، أي مطلع القرن الثالث عشرة من اليانكي في ثياب الصليبيين.

إن هذا الفيلم (أميرة سمرقند) صورة ناطقة للتميز الديني: عشرة من الغربيين يحمون دولة إسلامية برمتها، ويدعون أنفسهم بالمتمدنين، حماة المدينة، وهذا غير صحيح هذه المرة، لأن أوربا كانت تعيش في تلك الآونة أبشع مرحلة من تاريخها، يتناصر فيها الملوك والأمراء وتمزقها الانقسامات الدينية، إن هذا الفيلم صورة كاريكاتورية مشوهة لجنكيز خان ولسمرقند وللتاريخ، ولكنه صورة حقيقية للعرقية وللافتراء الديني.

إن قضية منع مثل هذه الأفلام عملية محمودة كما أشرت، ولكن ما رأينا في التفاسير المثيرة التافهة التي تقدمها أفلام أخرى لحوادث التاريخ؟

ومن ناحية ثانية، لماذا هذا التفتت في إبراز نواحي الخفة والسطحية في حياة الناس العاديين والمشهورين، ولم هذا الازورار في حياة الجد، الحياة الحقيقية، في واقعها المؤلم ولكن الصحيح؟

إن السينما في الأفلام التي تفرض علينا رؤيتها، تخون نفسها وتخون رسالتها الأساسية، تلك التي يجب أن تكون الأولى إذا كانت تصر على هذا التضليل: فرسالتها هي أن تساعد الناس على فهم الحياة بأمانة وعمق.