طقوس الموت في سورية القديمة

سومر حنيش - دمشق

الموت همٌّ فردي؛ وتجمُّع الهموم الفردية أدَّى إلى نشوء هموم للتجمعات الإنسانية القديمة، ولكن مع تقدُّم عمل الدماغ وتطوره، ونشوء المجتمعات الأولى، من بعدُ، لم يكن ثمة همٌّ مجتمعي من الموت، لأن المجتمعات تبقى، بينما الأفراد يزولون، وبذلك صار المقياس الأوحد في دراسة المجتمعات وظواهرها هو مدى انعكاس حياة الفرد في الجماعة، ومدى انتمائه لها، وبذلك يستمر المجتمع ويزول الأفراد، ولا يبقى منهم إلا ما قدَّموه للمجتمع من تطوير وإبداع، ولعل قمة الإبداع تكمن في التضحية من أجل المجتمع، وبهذا يصير الموت، على المستوى الاجتماعي، ليس نقيضًا للحياة، بل جزءٌ منها.

ولعلَّ الانشغال بظاهرة الموت اقتضى مرورَ ملايين السنين من الوجود البشري على الأرض، حتى غدا دماغ الإنسان قادرًا على وعي هذه الظاهرة، واستنباط الحلول التعويضية (لاشعوريًّا) تجاهها.

فترة النياندرتال 150-100 ألف سنة ق.م :

أدى تطور البنية الدماغية لدى إنسان النياندرتال إلى وعي لظاهرة الموت؛ لا بل أضحى مشهد موت إنسان يُدهِشُهم، عبر انتقاله المفاجئ من كائن مدرك وواعٍ، دافئ وممتلئ بالحيوية، إلى جثة ساكنة وباردة وشاحبة وقابلة للتعفن، مما أصابهم بالصدمة الأولى؛ وهذا ما دفعهم إلى مواراة الجثة في التراب، وإجراء الدفن المتعمد والإرادي، لأول مرة في تاريخ الوجود البشري. وقد بدا أن التطور الروحي الذي بلغه إنسان النياندرتال تَجاوَزَ ما بلغه في الحياة الاقتصادية.

وقد أدت التنقيبات الأثرية إلى العثور على مواقع نياندرتالية عدة في المشرق العربي، لعل أهمها:

أ‌.موقع مغارة الديدرية قرب حلب: يؤرَّخ هذا الموقع بحدود 100,000 سنة، حيث عُثِرَ فيه على حوالى 70 قطعة عظمية بشرية تعود لهياكل نياندرتالية مختلفة. وفي مطلع التسعينيات، تمَّ العثور على هيكل عظمي لطفل عمره سنتان وطوله 82 سم، حيث دُفِنَ في حفرة مستلقيًا على ظهره، أما يداه فممدودتان وقدماه مثنيتان؛ وعُثِرَ تحت رأسه على بلاطة حجرة، كما وعلى صدره فوق قلبه؛ ويعود تأريخه إلى حوالى 100000 سنة. وفي عام 1997 عُثِرَ على هيكل عظمي لطفل ثانٍ في العمر نفسه. وقد دلَّتْ طرق الدفن على أسلوب منظَّم ومدروس، يرقى إلى حوالى 80000 سنة. وهذا الكشف المهم يمثل، حتى الآن، أقدم عملية دفن للموتى في التاريخ البشري.

الإنسان العاقل 40 ألف سنة ق.م:

شعائر الموت لدى الإنسان العاقل استمرت على ما كانت عليه عند سابقه، مع ميل إلى العناية بشكل واضح بالموتى؛ دلَّ على ذلك أن المرفقات الجنائزية ازدادت، وطرق الدفن أصبحت أكثر تعقيدًا: فقد بقي يدفن موتاه داخل الكهوف، في وضعية القرفصاء؛ ويبدو أنه اتجه لدفن الأموات قرب المواقد، كما كان يفعل سلفُه النياندرتالي (ربما لأن برودة الجثة دفعته لتدفئتها، عسى أن تعود إليها الحياة). كما أن طريقة الدفن على وضعية الجنين ذكَّرتْ بعض الباحثين بأن لدى الإنسان العاقل ميلاً روحيًّا، لاعتبار أن الدفن الجنيني هذا ربما يعيد الميت إلى الحياة، كون الأرض رحمًا، لكننا نستبعد مثل هذا الاعتقاد لدى الإنسان العاقل، ونميل إلى الأخذ باعتبار أن مساحة الكهف هي التي حدَّدتْ وضعية الدفن الجنيني؛ أو ربما اتخذت جثة الميت هذه الوضعية بشكل طبيعي، نتيجة موت طبيعي، وما إلى ذلك.

وقد لوحظ أيضًا أن الجثث بدأت تُطلى بالمغرة الحمراء. وبدا أن هذا يدخل في مجال التعويض عن الشحوب الذي يعتري الجثة. وهذا ما أثبتتْه الأبحاث العلمية على قبائل بدائية تعيش في أفريقيا حتى الآن، حيث ظهر أنهم مازالوا يصبغون الجثث بهذه المغرة لاعتقادهم بأنها علامة الحياة.

ولوحظ أيضًا أنه لدى الإنسان العاقل بدأ يتشكل إحساسُ الرهبة من الموت. وقد دلَّ على ذلك أنهم كانوا يضعون أحجارًا ضخمة على أيدي الميت وأقدامه وصدره، ربما كي لا يستطيع القيام والعودة إلى الحياة، وبالتالي إيذاء الأحياء. وهذا ما أكَّدتْه الأبحاث الأنثروبولوجية التي أجريت على قبائل بابوا في غينيا الجديدة، حيث لوحظ أنهم يضعون الحجارة الكبيرة على رأس الميت وصدره وقدميه.

ومن مواقع الإنسان العاقل في المشرق العربي هناك كهف الواد، قفزة، عرق الحمر، الكبارا، مصطبة الخيام، كهف الأميرة، كسار عقيل، أنطلياس، يبرود، الكوم، تدمر.

أما فيما يتعلق بطرق وشعائر الدفن فقد بُنِيَتْ المقابر الكبيرة، ومورست عملية الدفن الفردي والجماعي. ويبدو أن المقابر انفصلت عن المساكن وبقيت إلى جوارها؛ كما طُلِيَتْ الجثث بالمغرة الحمراء. وهذا لا يعني أن الدفن لم يكن يجري في المساكن؛ فقد عُثِرَ على عمليات دفن تحت أرضيات البيوت، وهنا يبدو أنه قد حصل انعطاف في البنية الذهنية للإنسان، حيث بدأت بواكير فصل الجمجمة عن الجسد ودفنها منفردة، بما يوحي ببوادر نشوء اعتقاد "عبادة الأجداد"، الذي سوف يتضح أكثر في العصور اللاحقة، ومن مواقع هذه الفترة: عين الملاحة، المريبط، الجرف الأحمر، أبو هريرة، نهر الحمر، الطيبة، جيرود، شقبة.

ومع ابتكار الزراعة، انتقل الإنسان، بوصفه جزءًا من الطبيعة، إلى الانفصال عنها والسيطرة عليها. وهذا سوف يؤثر في بنيته الذهنية وفي تفاعله مع الطبيعة ونواميسها، الذي يتركز في ظاهرة الموت – الموت الدوري للنبات، ومن بعدُ انبعاثه في مواجهة الموت الخطي قبل الانفصال عن الطبيعة، ولاسيما في نشوء ظواهر الاعتقادات الدفنية الخصبية التي تجلَّت في ميلٍ اعتباري إلى الثور (الظاهرة الأقدم)، وعبادة الأم الكبرى، وصولاً إلى الأرواحية أو عبادة الأجداد، التي يُعبَّر عنها بعبادة الجماجم عبر فصلها عن الأجساد.

ففي حوالى منتصف الألفية الثامنة ق .م سوف تغدو الجماجم موضع اهتمام كبير؛ وهذا ما توضَّح في مواقع هذه الفترة، ففي المريبط عُثِرَ على هياكل دُفِنَتْ بلا رؤوس تحت أرضيات بيوت السكن. أما الجماجم، فبعد فصلها عن الأجساد، كانت توضع على امتداد جدران المنازل لاعتبارات اعتقادية. كذلك عُثِرَ على هذه الظاهرة عينها في أريحا في فلسطين. ولم تكن الجماجم لتُترَك، بل إنهم كانوا يعالجونها كنوع من التعويض على المستوى النفسي الجمعي، ويحاولون إعادة تشكيلها من الجصِّ، وصبغها بما يماثل لون البشرة، ثم تُنزَّل العيون بالصَّدَف أو القواقع، وتُرسَم على الجمجمة خيوط بنية كدلالة عل شعر الرأس.

قد عُثِرَ على هذه الجماجم المقبولة في مواقع عدة: في أريحا وبيسامون ووادي حمار وفي تل الرماد

الفترة بين 6000 – 5000 ق. م :

استمر تطور المجتمعات الزراعية مع تعايشها مع مجتمعات الصيد والرعي. وقد بقيت طقوس الدفن تتم تحت أرضيات المساكن أو بالقرب منها. وقد شملت المرفقات الجنائزية أواني فخارية وحجرية ودمى نسائية وحيوانية، مع ملاحظة أنه لم يُعثَر في مواقع تلك الفترة على دلائل تشير إلى استمرار عقيدة عبادة الأجداد، كما لم يُعثَر (حتى الآن) على جماجم مُقَوْلَبَة، مع اعتقادنا أنها استمرت لأنها ستظهر في العصور اللاحقة.

أهم مواقعها: رأس شمرا، والعمق، والكوم، وبقرص (سورية)؛ ووادي اليرموك، والحولة، وأريحا، ووادي رباح (فلسطين)؛ أما في لبنان فأرض قليلة، وجبيل؛ وفي العراق أم الدباغية، وتل حسونة، وسامراء.

الفترة بين 5000 – 3500 ق م :

تطورت التقنية في مجال الزراعة إلى الريِّ الصناعي والأقنية، وأصبحت الزراعة أكثر إنتاجية. ومن المدافن يُستنتَج أن ثمة تمايزًا اجتماعيًّا يبدأ بالظهور بين الكهنة ورجال الدين والسلطة والتجار، من جهة، وبين بقية الناس، من جهة أخرى. فقد حفلت قبور الأغنياء بالمعادن الثمينة، ولاسيما الذهب والفضة.

مجتمعات هذه الفترة مارست الدفن؛ ويبدو أنهم دفنوا الجماجم بمعزل عن الأجساد، ما يشي بعبادة الأجداد، التي سوف تستمر حتى العصور التاريخية، حيث عُثِرَ على عبادة الأجداد في إيبلا، عبر اكتشاف المقبرة الأمورية هناك التي تعود للألفية الثانية ق م.

والجدير ذكرُه هنا هو ظهور ظاهرة دفنية جديدة، تجلَّتْ في حرق الجثث ووضع رمادها في جرار. وكان هذا يتم للكبار فقط؛ أما الصغار فكانوا يُدفَنون بشكل اعتيادي. وأكثر الدفن داخل البيوت كان يتم للمواليد الجُدُد المتوفين؛ أما الكبار فكانوا يُدفَنون خارج البيوت. وقد عُثِرَ في بعض القبور على مرفقات جنائزية، مثل التماثيل والأواني، مع وجود سُفُن من طين. وهذه دلالة على نشوء مفاهيم جديدة في هذه الفترة لعالم ماوراء الموت، سوف يتضح في العصور الكتابية، حيث ثمة، في العالم الآخر، نهر يعبره الإنسان بسفينة كي يصل إلى العالم السفلي.

استنتاجات تخص الفترة التي امتدت من حوالى 100000 سنة وحتى 3500 ق م

إن أقدم دليل أثري على وجود بشري في سورية يرقى إلى حوالى مليون سنة؛ وبعضهم يعيد ذلك إلى مليون ونصف مليون سنة. إن إنسان النياندرتال في المشرق العربي القديم هو أول من وعى مسألة الموت، تزامُنًا مع تطور بنية الدماغ لديه، ولاسيما القشرة الدماغية والقسم الحوفي من الدماغ. وإن عبادة الأجداد (= الأرواحية) تجلَّتْ، منذ بواكيرها، في حوالى الألفية العاشرة ق م. وهذا يشكِّل انعكاسًا لحالة النظام الاجتماعي القبلي نصف المستقر الذي مارس الصيد والتقاط البذور. وهنا بدأت بواكير فصل الجمجمة عن الجسد تتكرَّس وتتبلور مع الثورة الزراعية التي شهدها العالم آنذاك، انطلاقًا من سورية، وذلك في حوالى منتصف الألفية التاسعة ق م. وكان الدفن يتم تحت أرضيات الكهوف والمساكن. كما شهدت المنطقة بناء مقابر منتظمة ومعزولة عن المساكن في مواقع عديدة.

ظاهرة الموت ومعتقداته في العصور التاريخية (3200 ق م) :

نحن هنا مع استمرار لتقاليد وشعائر الدفن التي كانت سائدة سابقًا، مع ازدياد في التطور لجهة مناحي الحياة الدفنية، ولاسيما مع بدايات نشوء المدن، ومع فجر الكتابة الذي انطلق من المشرق العربي القديم. وهنا ينبغي الإشارة إلى عدة مرتكزات:

أولها: أن العصور التاريخية في المشرق العربي تُعَدُّ نقطة اتصال أو حلقة بين العصور ما قبل التاريخية والعصر الحديث لجهة شعائر الموت ومعتقداته؛ بمعنى أن ثمة استمرارية حضارية متواصلة – مع الأخذ بعين الاعتبار ما قدَّمته الثورة المدينية (= العمرانية)، من جهة، وما قدَّمه اختراع الكتابة من معايير وقيم جديدة على حياة المجتمع آنذاك، والشعائر التي مارسها في مجال الموت، من جهة أخرى. هذا بالإضافة إلى بدء اعتماد الباحثين على ما خطَّه أجدادُنا على الرُّقُم الطينية، بما أدى إلى توسيع دائرة الرؤية، لجهة معرفة شعائرهم ومعتقداتهم بشكل يبتعد عن الظنِّ إلى الجزم. وسوف نجد أن ثمة شعائر ومعتقدات وحياة رمزية مازالت موجودة إلى الآن في حياتنا، وتستمد جذورها من العصور القديمة.

ثانيها: في مجال العصور ما قبل التاريخية يعتمد على اللُّقى وبقايا المباني والمقابر والمرفقات الجنائزية لتفسير موقف المجتمع من الموت. أما مع اختراع الكتابة فنحن الآن مع مسار يأخذ منحيين: الأول، إرجاعي، بما يفسر الرموز والبُنى ما قبل التاريخية عبر الوثائق الكتابية المكتشفة؛ والثاني، واقعي، بما تقدِّمه الوثائق – وتدعم ذلك البُنى الأثرية واللُّقى في حيِّز العصور التاريخية. بهذا شكَّلت الوثائق الكتابية حالة توثيق لمناحي المجتمع كلِّها، ومنها مسألة الموت.

وأيضًا، فيما يخص مسألة الموت في الأسطورة المشرقية، صحيح أنه كان يعبِّر عن موقف المجتمع من الموت، لكنه يتضمن، في الوقت نفسه، خلفية للثقافة الزراعية، وصراعًا للرموز فيما بينها، على قاعدة ثنائية الموت–الانبعاث. ومجالنا نحن هو ليس في التصور والتخييلات بقدر ما هو رصد الممارسات ومجمل السلوك الإنساني المجتمعي الواقعي الذي وثَّقتْه كتابات ونصوص المشرق العربي، بعيدًا عن التصورات والانفعالات

ومع عصر فجر التاريخ (حوالى 3500 ق م)، نلاحظ أن شعائر الدفن في المشرق العربي القديم بقيت على حالها، واستمر الدفن تحت أرضيات المساكن (الظاهرة الأقدم)، مع ملاحظة هنا أننا أصبحنا أمام ظاهرة دفن تتم في الجرار الفخارية، للأطفال أولاً، ثم تشمل الكبار أيضًا. وفي تلك الفترة، وباطِّراد مع الزمن، لم يُعثَر على ظاهرة فصل الجماجم عن الأجساد؛ ما يعني أن عبادة الأجداد، أو حتى ظاهرة الجماجم المقلوبة، لم تُظهِرها المواقع الأثرية حتى الآن. وربما الذي حصل، نتيجة للاتجاه الاجتماعي–الاقتصادي، ومع بداية تأسيس المدن ونشوء الزعامة بشكل نظام سياسي، أن تحولت عبادة الأجداد (القبلية) إلى عبادة للملوك وتأليههم بعد الموت، تبعًا للتطور الاجتماعي–الاقتصادي الحاصل في المجتمعات – دون أن ننسى دور الكهنة في عامل الربط بين السماء والأرض. ومن ناحية المرفقات الجنائزية (وهذه التسمية نعتقد أنها أفضل من "الأثاث" الجنائزي)، نلاحظ استمرارية لما كان سائدًا من قبل.

المراجع :

-        كوفان، جاك، ديانات العصر الحجري الحديث، بترجمة سلطان محيسن، دار دمشق، 1989.

-        محيسن، د. سلطان ، المزارعون الأوائل، دار الأبجدية، دمشق، 1994.

-        مونتاغيو، آشلي، البدائية، بترجمة جابر عصفور، "عالم المعرفة" 53، الكويت، 1982.