"عبدالسلام العجيلي".. «وفي نفسي يطيب اللقاء»

2007/07/10
عبد الكريم عبد الرحيم 

"عبد السلام العجيلي".. «وفي نفسي يطيب اللقاء»
في الطريق من "دير الزور"إلى "الرقة" كنت أستعيد ذكريات جميلة في فناء دار مجلة "الثقافة" حيث يتحلق القوم حول الأستاذ
"مدحت عكاشة" وإلى يمينه ويساره كتاب وشعراء وصحفيون وباحثون ومؤرخون، ولا أكتم فرحي حين ناولني مجلة "الثقافة" وطلب إلي أن أكتب معارضة لقصيدة كتبها "العجيلي". ولم تمض أيام حتى التقينا به وكان عائداً من مؤتمر عالمي وامتد الحديث إلى كل ما يخطر ببال مثقف حول المؤتمر ومواضيعه ورجالاته... أمتعنا حديث الرجل واستمعنا بعده إلى قصائد وتعليقات وانفضّ الاجتماع وفي النفس التقدير والإعجاب بأديب كنا نقرؤه، واليوم يشاركنا الحديث والحوار.
كان ذلك قبل ما يزيد على عشر سنوات، ولقد خرجت من الجلسة سعيداً شاكراً الكاتب والصحفي "جان ألكسان" الذي قادني إلى هذا اللقاء وفي الوقت نفسه، غمرتني كلمات وتواضع هذا الرجل المقيم في الرقة، إنه الطبيب والأديب الذي عايش "نزار قباني" في جامعة "دمشق" كما روت الأديبة الدمشقية "كوليت خوري" التي هزت ياسمين "دمشق" وحواريها بكتابها "أيام معه".
أيقظتني هذه الذكريات ليس على اللقاءات التي تتالت مع ابن "الرقة" الرائع فحسب بل ذكر الجامعة في حديث الأديبة "كوليت خوري" ونحن اليوم ماضون لتقديم العزاء إلى أسرة أديبنا الكبير، لم يسعفنا الزمن لنكون شهوداً على تكريم أجيال للأب الذي يذكر الجميع أياديه البيضاء كأديب أو طبيب أو إنسان، وفي الأمس القريب كان يمتعنا بثقافته الواسعة، كما يمتعنا بقراءة أدبه فيغني أرواحنا وعقولنا وعلى مقربة مني يحلو حديث الكاتب والصحفي "حسن م يوسف"، عن ذكرياته مع الأديب الراحل، وعن رواياته وكتبه المتنوعة، وفي النفس غصة وألم، ولكن التسليم بإرادة الله ومشيئته، يخفف من فداحة المصاب.
ونعود ثانية إلى الحديث عن مقالة "كوليت خوري" في مجلة "الناقد" التي كانت تصدر في "لندن"، وفيها تعيد ذكريات نبيلة ل"نزار قباني وعبد السلام العجيلي" من العام /1945م/ وأولى قصائدهما في جامعة "دمشق".
تتوقف الحافلة، أمام دار الثقافة في "الرقة"، ويستقبلنا لفيف من الكتاب والصحفيين والفنانين والطلاب كانوا بانتظارنا، ويتوجه الموكب إلى بيت "عبد السلام العجيلي" وبين القهوة المرة، ومظاهر الحزن، يتبادل الناس نظرات تغني عن الأحاديث، مع وجود أبنائه وأخيه الذين كانوا في استقبالنا، ثم تروى قصص الأهل عن أيامه الأخيرة رحمه الله.
أحسست بالوفاء الكبير، أبناء بررة أمام أب مبدع عظيم، وظلت عيونهم تحكي الكثير مما لم تلفظه الألسن، وكانت أسرة الفقيد سعيدة بمبادرة الطلاب الذين رافقونا، مقدرة أهمية تواصل الأجيال، وما يحمله من قيم ودلالات، كما قال أخوه.
في الحقيقة لم يكن عبد السلام غائباً عن هذه الزيارة، روحه العظيم أحاط بالحضور، وطريقته بالكلام، والظَرفُ في كلماته وتصرفاته، نظرة عينيه المتأملتين تشعان بالمحبة، تجلياته المدهشة، ورهافة إحساسه، يحسُّ بالناس، لا نرجسية ولا تعالياً، ابن الحياة الطيبة القابض على موروث أمة، والحافظ لتاريخها والمقاتل على أرضها، تذكرتُ موطني في الجليل وكم تمنيت لو حضر الجليل كله معنا، ليقدم العزاء، ويشاركنا البكاء، فهذا واحد من العرب الذين قاتلوا فوق ترابه عام 1948، يرحل، بعد أن ترك في المكتبة العربية، نتاجاً خالداًً، يحمل سمات أدب الحياة والخلود.
وفي طريق العودة لم يكن لي رفيق إلا كلمات الشاعر الفلسطيني الكبير يوسف الخطيب، على غلاف كتاب فلسطينيات لأديبنا المرحوم عبد السلام العجيلي، الذي صدر عن دار فلسطين عام 1994، وتحضرني العناوين: بريد معاد، بنادق في لواء الجليل، أينما كان، كفن حمود، نبوءات الشيخ سلمان، الحاجان، وهي مجموعة قصص تتلوها مقالات وقصائد ومحاضرات ومحاورات العجيلي حول فلسطين، ومنه:
ودّعتُ أمي حين جزتُ المنحنى
إن قدّر اللهُ و لم أرجع هنا
أماه، لا تبكي عليّ فأنا
قد صنتُ أمي الأرضَ من كيد العدى (كانون الثاني 1948).
بدأ الفرات حديثه العظيم، ونحن في حضرة ابن الرقة، ولم يبق لي كلام سوى تأمل قصر الخليفة هارون الرشيد، وخلتُ نفسي أردد مع الشاعر العظيم عمر أبي ريشة: مَنْ منكما منح الأمان/ لأخيهِ أنتَ أم الزمان؟.
قال المحامي إدوار حشو في وداعه:
الأديب عبد السلام العجيلي، ظاهرة فريدة في الحياة السورية على الصعيد السياسي والثقافي في اتحاد لا يقبل التجزئة.
من الرقة جاء إلى دمشق نائباً عام 1947 فكان في المجلس النيابي خطيباً مفوهاًً ومناقشاً هادئاً وديمقراطياً بامتياز، يختلف مع الآخرين في الرأي ولكنه لا يخسرهم ولا يدعهم يخسرونه، ودائماً كان يعتبر تباين الآراء ظاهرة صحية ولم يعتبر ذلك خراباً للبصرة كما كان يفعل الكثيرون من النواب.
الإيمان بحرية الإنسان مثلت دائماً حركته الفكرية ولم يبادل على إيمانه بأي منصب أو مغنم.
صار وزيراً مراراً ولكن في دمشق ظل يلازم أصحابه في مقهى البرازيل وجلهم من المثقفين والأدباء والشعراء، وكأنه كان يعتبر الوزارة واجباً أما المقهى والأصحاب فهما فترة الراحة من عناء العمل الرسمي.
كانت آراؤه السياسية تتسم بالمنطق وتدق ناقوس الخطر في وقت مبكر...
كان عبد السلام عربياً صافياً وفي الثقافة كانت رواياته وقصصه ومقالاته كلها مستوحاة من حياة الشعب دون أن يكون مضطراً للاصطفاف الطبقي وبالتالي كان أدبه في خدمة الناس لا فوقهم ولا في تضليلهم.