"غادة دهني" : الورود هبة سماوية لأرقى أنواع الجمال

تناغمات الرؤية بين تركيبة اللون والدفء الحسي

  علاء الجمّال:

"غادة دهني" فنانة تشكيلية سورية، أمضت الجزء الأكبر من حياتها في استلهام الطبيعة والزهور والأقاحي.. والبحث عن الجمال في التركيبة اللونية، والشعور المكني في خبايا النفس العالمة بمكنونات الصدق والعفوية، وتجليات الشكل البصري عبر حس العين المـتأملة في مقام اللوحة.

للتعرف إلى السكينة التأملية في أجواء الفنانة "دهني"   زارها في /12/11/2008  بمرسمها في منطقة "أبو رمانة بدمشق" وأجرى معها هذا الحوار:

ــ وصفت أعمالك بأنها مقام للطبيعة المنغمسة باللون الربيعي الدافئ وقوة الأداء العفوي، من جانبك ماذا تقولين حول العلاقة التي تجمعك معها؟

علاقتي مع الطبيعة علاقة حميمية، ولا أدري كيف أشعر بالانسجام مع كل لوحاتها وتشكيلاتها في أزاهيرها و أشجارها و كل عناصرها.. فهي تسكنني من الداخل وتدعوني بإلحاح لتصوير الحالة الشعورية التي تنعكس من نفسي وتترجم مع اللوحة حين تنفيذها بصور و أشكال تعبيرية مختلفة، فتارة تأخذ شكل الحديث الهامس، وتارة تأخذ شكل حوار نابض، وتارة تصبح على شكل ثورة متمردة.. وأنا أترك لهذه التجربة الشعورية أن تعبر عن نفسها بكل تلقائية وعفوية على صفحة اللوحة، ولا أخطط مسبقاً لأي مفردة أو تفصيل من حيث استخدام الخط أو اللون أو توزيع المساحات، لذلك تأتي لوحتي صدىً صادقاً للصورة الداخلية التي أكون فيها، ويأتي اللون كعنصر فعال ليترجم تلك الحالة سواء كانت فرح أم غضب أم حيرة أم رضا..

ــ الجوري والزنابق والأقحوان، مفردات لوحتك المعاصرة، هل لك أن تصفي الحالة الهيامية التي تجمعك معها؟

أشكال الورود و الأزهار التي نراها في الطبيعة هي أجمل هبة سماوية لأرقى أنواع الجمال وبما أن إحساسي بالجمال لا حدود له فإنني أعيش قصصاً وحكايات مع هذه المفردات الجمالية.. ولا أبالغ إذا قلت أنني أصل إلى حالة من النشوة الصوفية فأرتفع إلى قمم و أجواء وعوالم علوية لا أقدر على توصيفها فهناك حالة عشق روحي ونوع الحديث الهامس مع زهرة "عباد الشمس" و لآلئ "الزنبق" وعقيق "الجوري"، وأحاول أن أنقل هذه الحالة إلى اللوحة التي أرسمها بكل صدق و أمانة.

ــ "البورتريه" في أعمالك حالة حسية متسمة بالصفاء والانفعال المكني في داخلك، وهذا يجعله محاوراً لنا ومتفقاً مع الحالة الشعورية التي نعيشها سواء حزن أو سعادة.. ما السر خلف هذا التحول  في معالم البورتريه لديك؟

حينما أدخل إلى ملكوت الجمال الذي تجذبني إليه الطبيعة أشعر بحاجة إلى تصوير مشهد حقيقي يحكي لحظة ً حياتية فيها فيض ُ من المشاعر و الأحاسيس الإنسانية.. وهذا يستدعيني إلى أن ألجأ و أتكئ على وجه المرآة الذي أعتبره التوأم الحقيقي لأصناف الورد والزهر من حيث قدرته على الإيحاء بتلك المشاعر الدافقة النابضة بمعاني الحب والجمال والحنين والشوق والانتظار والعتب.. "فالبورتريه" تجده في لوحتي ليس هو المقصود بذاته، وإنما هو حامل أساسي لتلك المعاني التي يتناغم فيها وجه المرأة مع ما يحيط بها من أزاهير وورود ومناخ جمالي.  

 

الدفء الحسّي في اللون

ـــ تزخر أعمالك بتنوع التركيب اللوني المدروس، واشتداد السطوع والضوء في معالمها، كيف أحسنت التوافق والتناغم بينهما؟

مضى على تجربتي التشكيلية ما ينوف عن ثلاثة عقود، اكتسبت خلالها خبرات و إضافات و تقنيات ساهمت في تطوير أعمالي.. كما أن متابعتي لتطور الفن التشكيلي العالمي، أكسبتني مهارات إضافية في تكوين اللوحة من حيث خطوطها وألوانها ومراعاة التناغم بين الظلال المرسومة عليها. 

ــ يحمل اللون في أعمالك لمسات من الجمال الروحي، وموضوعاتها تنم عن ثقافة بصرية واسعة، كيف بلغت هذا المزج؟

اللون هو العنصر الأول الذي يعطي الانطباع عن فكرة اللوحة ومضمونها، فحينما أسكبه على لوحتي أسكب معه كل الاختلاجات التي تعتمل في داخلي، وأحياناً أخرج عن المألوف في استخدام اللون، فلي بعض الأعمال لجأت أثناء تجسيد موضوعها إلى اللون الأحمر الحار لزهرة ليس هو لونها، لكنه تجاوب مع حالة الفورة والاصطدام الداخلي لذلك تجد أن علاقتي باللون ليست علاقة نقليه بل هي انتقاء عفوي لا إرادي.  

ــ اللون لغة بصرية فاتنة التركيب، وتعملين في إظهاره على بعد الدفء الحسي الذي يحيط العين  فور رؤيته ويشعرها بالصفوة والمتعة الروحية، ما وصفك لهذا البعد؟ 

إن اللوحة في مرحلتها الأخيرة محصلة للحالة الشعورية التي كنت أعيشها، وما يخرج من القلب يدخل إليها بكل صدق، وهذا ما يزيد الدفء الحسي في اللون وتحاط به عين المتأمل، فلوحتي هي الأنا الفنية بكل ما تحمل من أبعاد جمالية وإشراقات روحية وإرهاصات مستقبلية، وأتمنى أن يكون القارئ لها شريكاً حقيقياًً حينما يدخل في مقاربة فهمها و الإمساك بمفاهيمها. 

 

الصدى والتأثر في قراءة العمل

ــ يبدو أن عالمك الإيحائي في التشكيل يحمل قيماً كلاسيكية، ما منظورك إلى هذا الجانب؟

أشعر بشيء من الظلم حينما تندرج أعمالي ضمن المدرسة الكلاسيكية مع تقديري الكبير وإعجابي الشديد بهذه المدرسة فصحيح أنني تأثرت بأعمال نجومها تأثراً لا يمكن نكرانه، ولكن الصحيح أيضاً أنني كنت أستخدم أساليب وأدوات و مفردات المدارس الفنية الأخرى كالانطباعية والرمزية والتعبيرية، وهذا يتم بعفوية الأسلوب والقالب الذي تنبثق منه.  

ــ ما رؤيتك للانطباعية الواقعة على نفس المتأمل عند رؤية أعمالك والشعور بتلك اللمسات؟ 

الذي لاحظته من انطباعات القارئ للوحتي أنها تعجب معظم شرائح الناس.. لكنها تحظى بنوع من التقدير والإعجاب بشكل خاص لدى شريحة المثقفين العارفين والمطلعين على مدارس ومذاهب الفن التشكيلي.

ــ متى يأخذ العمل التشكيلي قيمته الفنية والتاريخية برأيك؟

يأخذ العمل الفني قيمته التاريخية والفنية عندما يحدث مع المتأمل الصدى والقبول والتأثر والإعجاب.. ويشعره أنه كلما عاد إلى قراءة العمل من جديد رأى فيه معان إضافية ومفاهيم جديدة

اختراق الشكل في اللوحة

ــ ماذا عن مقومات الثقافة البصرية في تصورك؟ وهل بمقدور أي إنسان أن يتمتع بها؟

نعم الثقافة البصرية نعمة يقدرها من تعرف عليها وعاش في رحاب جنانها، وهي غير مقتصرة على الموهوبين والمبدعين.. وإنما هي حالة اكتساب لكل الناس إذا ما أحسن تثقيفهم فنياً ونمّيت فيهم حاسة التذوق للون والمفردة البصرية، والمقدرة على اختراق الشكل في اللوحة وقراءة مضمونها، وهنا أشير إلى أن لوزارة التربية ووزارة الثقافة دور هام لا يمكن إغفاله حول تنمية هذه الثقافة.  

ــ معارضك الشخصية قليلة في ساحة العرض في الوسط التشكيلي السوري، ما تفسيرك لذلك؟

لم أكن بعيدة عن كل ما يجري في الوسط الفني، فمشاركتي بالمعارض الفردية والجماعية لا بأس بها، وهنا أركز على نقطة هامة هي أنني حينما أفكر بإقامة معرض جديد فلا بدّ من أن يكون معبراً عن مرحلة جديدة في مسيرة التطور الفني، ويعبر عن كل الإحداثيات الأسلوبية والمنعطفات التي حدثت معي.

ــ خضعت تجربتك في التشكيل إلى عدّة مذاهب تشكيلية، هل لك ان توجزيها لنا؟

خضعت تجربتي في التشكيل إلى مراحل أسلوبية مختلفة.. فمع البدايات كنت أميل إلى المدرسة الواقعية الكلاسيكية ذات التأثير المباشر، ومع مرور الوقت وإغناء تجربتي الفنية من خلال اطلاعي على الحراك الفني العالمي، أدخلت إلى لوحتي أساليب ومفاهيم جديدة أثرت في توجهاتي الإبداعية، فأنا لا ألتزم بمدرسة فنية محددة بل أطلق العنان لتجربتي الشعورية لتختار هي الأشكال التصويرية والقوالب الموائمة لإخراجها على مسطح اللوحة، فتأخذ بعفوية الإلهام بعض الأدوات من المدرسة الانطباعية والرمزية.

 

البحث عن مكانة رفيعة

حول أعمال الفنانة، قال "عمار حسن" ناقد سوري في الفن التشكيلي: «"غادة دهني" فنانة تمتلك أدواتها وتتحرك بفضاء اللوحة بحرية واتزان، ممسكة بأبعاد التصميم عليها من حيث التكوين والبناء والحركة وحرية اللون.. إضافة للبعدين الثقافي والجمالي حيث تترك حلية الشكل في مقامه الأخير شرقية بنقوشها الزخرفية، دافئة دفء الشرق في ارتباط متناغم مع المستوحى والمتخيل كفكر تكويني في العمل».

الفنان التشكيلي الفلسطيني "علي الكفري"، قال: «"غادة دهني" فنانة تبحث عن مكانة رفيعة في الوسط التشكيلي، ليس في "سورية" وحسب بل على الصعيد العالمي أيضاً، وما أعنيه أن طموحها منفتح، وما يمدّه بدفق الإبداع أنها تتعامل مع اللوحة بصدق وإحساس مرهف نبيل، إنها تسيطر على المساحة البيضاء بكل جدّية وثقة.. ألوانها متسمة بالفرح وخاصة عندما ترسم الطبيعة والزهور.. وما دامت على هذا النشاط والبحث والاستمرار بالعمل الفني، لا بدّ لها أن تحقق طموحها وتطلعاتها».

 

ببلوغرافيا الفنانة

ولدت الفنانة "غادة دهني" في "حلب"، وبدأت الصعود مع الفن التشكيلي منذ الطفولة، وفي الشباب كان لها متابعة شخصية من الفنان التشكيلي السوري "طالب يازجي" والراحل "لؤي كيالي" الذي كان له الأثر الأكبر في حياتها كفنانة،عملت بعد تخرجها من معهد إعداد المدرسين بتدريس مادة الرسم لمدة /18/ عاما بدأتها في  ثانويات "حلب" من ثم "المغرب" و "السعودية"، معرضها الشخصي الأول أقيم عام /2001/، في صالة "نصير شورى" "بدمشق"،  ومعرضها الثاني كان في "باريس" عام /2005/، ولها العديد من المعارض المشتركة داخل وخارج "سورية".