قصص قصيرة – مجلة الجندي– نادية خوست

إعداد الدكتور مهيار الملوحي

مجلة (الجندي) مجلة عسكرية ثقافية نصف شهرية، تصدر في الأول والسادس عشر من كل شهر، وصدر عددها الأول في 1/8/1946 وكانت تصدر عن الشعبة الثالثة في الأركان العامة.

وقد نشرت قصة قصيرة بعنوان (صور من الحياة) في العدد(144) السنة السابعة، الصادر في دمشق في 16/8/1953، وكتب تحت العنوان: بقلم الآنسة نادية خوست، وهي قاصة وأدبية وروائية، وهي من موليد دمشق1935، وحصلت على إجازة في الفلسفة من جامعة دمشق، وعلى دكتوراه في الأدب الروسي من جامعة موسكو، وهي عضوة في اتحاد الكتاب العرب.

- صور من الحياة-

(ضمتني مع أصحاب المنزل الذي كنا ننزل فيه في لبنان جلسة هادئة، وكان الوقت أصيلا ومياه البحر عكست آخر أنفاس الشمس والغيوم في السماء تسير الهوينا تحدوها الرياح، ومن حول المنزل على الربوة تناثرت أشجار الصنوبر فكان لذلك سحر خفض من أبصارنا وفتح عيوننا.

ومر أمام الشرفة حيث كنا نجلس رجل كهل اتجه في غير تردد كمن يسير في طريق سار فيه عشرات المرات من قبل نحو شجرة هرمة أسند ظهره إليها وألقى نظره نحو البحر وراح في شبه غيبوبة فما تحرك ولا التفت، ولو لم أكن قد رأيته قبل ذلك يسير لخلته تمثالا، ورابني أمره والتفت إلى صاحبة البيت أود أن أسألها شيئا فإذا هي تقول والكل يصغي إليها:

أعان الله هذا الرجل منذ سنة وأنا أراه أصيل كل يوم جمعة يعتلي هذه الربوة ويقف وقفته هذه وظهره إلى تلك الشجرة الهرمة ووجهه إلى البحر حتى يهبط الليل فيعود متسترا بسدله، وقد قصت علي جارة تربطها به صلة قرابة كيف عاش ليشهد موت أعز شخصين إليه في فتوته، ومصرع أحب إنسان إليه في شبابه، ، فلم يطلع على عامه الثامن عشر حتى كان يعيش مع قريبته هذه ولا أب له ولا أم، ومضى يشق طريقه في الحياة بعزم وقوة وغدا مرموقا أينما حل، ابتسمت له الشفاه وفتحت له الصدور وانحنت له القامات.

 وفي يوم شمسه ساطعة وسماؤه صافية وأطياره مغردة رأى من كانت له أخلص من رفيقه وأكثر حنانا من أم، كانت منتصبة القامة معتدلتها، عيناها واسعتان صافيتان كمياه البركة العميقة وقد انسدل على كتفيها شعر ذهبي بديع التموجات وصوتها كتغريد الشحرور رقيق حلو وكانت وديعة كالحمام، بريئة كالأطفال حلوة كالزهرة التي جمعت طيب الأريج وجمال الشكل، ومع هذه الحمامة ذاق السعادة وظن أنه ملك الدنيا...

ثم جاء الخريف وصار من الأوراق الميتة للأرض بساط (شاحب) وبرد الهواء، وامتلأت السماء بالغيوم، وشعرت الطبيعة بالكآبة وفي أمسية من الأمسيات بينما كانت الشمس تغرب ولغروب الشمس في الخريف منظر جميل آثرت الفتاة أن ترقبه من زورق في وسط البحر وآثر هو أن يرقبها من فوق هذه الربوة، واضطرب البحر الجائع الذي لا يشبع وهاج من قبل مرات ومرات، وغاب الزورق وغابت الفتاة في الأعماق خطفهما الموج كما خطف من قبلهما مئات وألوف فاستقرا على الرمال الناعمة مع من سبقهما بانتظار من سيتبعهما وكان هو يرقب كل ذلك موزعا بين الجزع والرجاء وما كان ليغني جزعه ولا رجاءه عنه شيئا فقد حم القضاء، ونزلت إرادة الله، وعاد أدراجه يجر نفسه جرا والليل حالك والموج يصطخب، والبحر يهدر والريح تزأر بين أشجار الصنوبر.

وتعود بعد ذلك اليوم أن يسير بخطى وئيدة متثاقلة موليا شطر هذه الربوة ليشهد مأتم الشمس غير عابئ ببرد أو صقيع وكأنه يجد لذة في تعذيب نفسه وتذكر لحظة من أشقى لحظات حياته ويسترسل في تخيلاته ونجواه ويرى نفسه يمر عبر الماضي ويعود من جديد يرتع في أحضان السنين الخاليات وتمر أمامه صور لأوقات جميلة مضت وتركت له ذكرى يتألم ويسعد بها، ذكرى تهون عليه الحياة في لياليه الموحشات فالحياة كلها عنده ليل وسيان أشرقت الشمس أو لم تشرق.

وتجلس قريبته إلى جانبه تخفف عليه مصابه وتواسيه في ألمه فيقول كمن يحدث نفسه والتعب ظاهر على ملامحه وصوته مفعم بالأسى: كانت حياتي ربيعا لما عرفتها وصرت أحيا في خريف لما فقدتها، وقد أضاءت حياتي فترة قصيرة وليتها ما فعلت فقد كرهت الظلام بعدما عرفت النور... لم تكد تأتي حتى ذهبت فليتها ما أتت....ليتها ما أتت، كيف أنساها والربوة والشجرة الهرمة والموج والبحر والغيوم، كل شيء يذكرني بها، كيف أنساها تلك التي ليس أجمل منها روحا ولا أطيب نفسا ولا أسمى خلقا، إن صورتها ماثلة أمام عيني أبدا لن تزول ومهما كرت أعوام فلن تنال منها وسيظل حبها في قلبي يجري مع دمي كما كان ولولاه لمت منذ ماتت!

وتتركه قريبته وقد خط المشيب رأسه وأحنى الفراق هامته وذهب الحزن بلبه وأفقده صبره، وهي تتمتم بحسرة:

ارحمه يا رب، وعندما وصلت مضيفتنا إلى هذا الحد من قصتها كان الليل قد هبط  والتفتنا فرأينا رجلا متشحا بالظلام يسير متعثر الخطى مهدم الكيان لا يصغي إلا إلى هدير الموج ولا يرى إلا زورقا ويدين تستغيثان فرثينا له وتفرقنا وكل منا لا يفكر إلا بما سمع.

ومضت على جلستنا تلك سنتان لم نذهب خلالها إلى مضيفتنا ولا هي أتت إلينا ثم حدث أن مررنا بها فكانت جلسة هادئة وصار وقت الأصيل واشرأب عنقي خارج الشرفة لأنظر إلى ذلك الذي يعيش على أطلال سعادة ماضية وفي ذكريات أيام غابرة ولكنه لم يأت، وسألنا صاحبة الدار عنه فقالت وعلى شفتيها ابتسامة وفي عينيها نظرة غريبة: منذ أشهر لم يأت فقد نسيها ونسي قبرها ذاك ومثلها ينسى ومثل غيرها ينسى ولقد نالت الأيام من صورتها وغشيها ضباب كثيف كما غشي صورا كثيرة من قبل وكما سيغشى صورا أكثر من بعد، وإن حياته لم تعد شتاء ولم تعد ليلا بل أصبحت نهارا وربيعا مستمرا في ظل زوجة ليس أجمل منها روحا ولا أطيب منها نفسا ولا أسمى منها خلقا، قلت: ولكن هل نسيها تماما... أعني ألم يأت هنا مرة واحدة؟

فحدجتني بنظرات الشيوخ وقالت وهي تهز رأسها كمن زاد خبرة بالحياة فوق خبرته: نسي كل شيء عنها ولكنه تعلم درسا، فهو وامرأته لا يركبان البحر ثم صمتت وألقت بنظرها إلى الشجرة الهرمة والبحر حيث لا شبح ينتظر الآن ولا شبح ينذكر الآن ولا شبح يعود مهدم الكيان، مثقلا بالهموم والليل من حوله حالك السواد يشاركه مصابه.

ووالله ما تعجبت لهذه النهاية لأني ما اعتقدت يوما بأن الزمن لا يمحو الألم فكل جرح مهما كان عميقا يشفيه الزمن.