"ماهر رجا".. إبحار في صورة الوطن ومغامرة القصيدة

ساره الخالد- صهيب غازي

يميل إلى الشتاء وتشكيلاته الرمادية، بما فيه من الوحشة والمآسي الصغيرة.. ليصف الوطن بأروع القصائد في المبنى والمعنى.

فالشاعرالفلسطيني"ماهر رجا" المولود في سورية، اتجه إلى الجانب الوجداني في تمثيل الواقع، إلى تفاصيل الأشياء في سفر العمر والرؤيا، ونسج من هذه  العناصر شعرا وطنيا عبّر عن هموم من عرفهم حوله من الفلسطينيين، وما عرفه من وجع الروح الفلسطينية التائقة إلى العودة والوطن المحاصر بالغياب، كما رسم صورا جميلة من الحاضر لتنعكس على المستقبل.

eSyriaالتقى الشاعر والصحفي "ماهر رجا" بتاريخ "5/10/2011" وأجرى معه الحوار التالي:

*وُصفت في إحدى المقالات الأدبية بأنك شاعر "شتائي بامتياز" وخاصة في ديوانك "الغريب وأنا"، فما الذي يحمله لك الشتاء من معان؟

يُجمع الناس على رؤية جو الشتاء شاعرياً، ولكنه يعبّر عن أكثر من ذلك بالنسبة لي، فارتباط ذكريات طفولتي بشقاء الشتاء وبهجته من جهة، وتمثيل الشتاء بلونه الرمادي للوحشة عندي من جهة أُخرى، ربما أوجدا هذه العلاقة لدي.. الشاعر والمبدع عموماً، ميال إلى الحزن والوحدة والهدوء أكثر من ميله للضجيج والحركة، بالإضافة إلى ميله للفضاءات المفردة والأعداد المفردة أكثر من المزدوجة؛ الشتاء مؤلف من مجموعة متكاملة من العناصر السحرية التي ترسم لك تشكيلات لامثيل لها، كالغيم الرمادي وقصر النهار والورد الذي لايكاد يتفتح حتى يموت بهدوء على مهله، ودون إحداث ضجيج، فالشتاء يحمل مآسي صغيرة وكثيرة في حقيبته لعلها أكثر تعبيرا عن الوحشة من باقي فصول السنة.

* "الوجدانيات، والحنين إلى الوطن" حالة تلقي ظلالها بقوة على شعرك.. حدثنا عنها؟

الأدب الفلسطيني على صلة وثيقة بالوجدان المتعلق بالأرض الغائبة، فغالباً ما يتجه الشاعر إلى نسج وطن افتراضي، وطن لاتعيش فيه، ولكنه يعيش فيك، وهذا الأمر هو أشبه بتراجيديا الفلسطيني ومفارقاتها، لكن الشاعر الفلسطيني جعل منها حالة لا يناسبها البكاء ، وإن كانت الدموع تعبيراً لا يمكن استثناؤه، إلا أنه أخذ  يرصدها ويرسمها ويتخيل الصور أو يبني صورة لما لا يراه، وفي الحقيقة إنها مكابدة ثقيلة أن تحمل وطنا في داخلك لا أن يحملك الوطن والبيت وينتظرانك.

أعتقد باستحالة وجود الشعر دون قيمة وجدانية، بغض النظر عمّن تكون وما هو اسمك الشخصي، وإلى أي وطن تنتسب وما هي قضيتك. وبعيدا عن مشاعرنا جميعا ، الفكرة الأساسية هي أن الشعر هو حالة مشاعر، لكن في القصيدة لن يكون ذلك كافياً، إذ ينبغي أن يتسامى ويتعمق بذكاء العاطفة أو ذكاء القلب، وهذه الأشياء تصبح في طريق اكتشاف القصيدة حين تترجم إلى مجازات وظلال للعبارات والقول الشعري عموماً..  وبكلمة أخرى الشاعر لا يكتفي بطرح مشاعره على الورق، بل حتما هو بحاجة إلى تجربة أسلوبية كي يبني ذلك كله في قصر جميل من اللغة وممتع للناظرين حتى يكون المبنى والمعنى متناسبين.

 

*هل يكفي عامل الوجدان لخلق حالة شعرية، وكيف تختار الأوزان التي تكتب بها؟

 القصيدة أساساً مغامرة اكتشاف وجدانية ولغوية وفكرية إنسانية، وعندما نتحدّث عن الحالة الشعرية بمعين الوجدان؛ ينبغي أولا أن تكون في سياق لغوي يناسبها بحسب طبيعتها من حيث القافية والتفعيلة وسوى ذلك، فشعورك، أو ذاتك الساعية إلى عالم النص تختار في لحظة إبداعية حدثاً أو ذكرى أو موقفاً، وفي مرحلة لاحقة يبدأ السفر وهنا لا يمكنك أن تجزئ الرحلة.. أنت لا تختار مثلاً  حين تكتب الوزن المناسب ، وما يحدث هو أن إيقاع القصيدة هو من يختار نفسه. حين تكون روحك حزينة وتريد الروح أن تعبر عن نفسها، في تلك اللحظة يأتي الإيقاع خببا رتيبا ينسجم مع إيقاع الروح، أما لحظة الفرح فربما هنا تناسبها غنائية البحر الكامل. وقد تكون غاضبا أو بمعنى آخر قد تكون أرض الرحلة والقصيدة مغلفة بالعواصف، وعندها سيكون هناك إيقاع مختلف يتناسب مع اللحظة الوجدانية..إذا إيقاع القصيدة وروحها ووجدانها أيضا هي عناصر مجتمعة ومتفرقة تقدم نفسها في المضمون والشكل والرؤيا والقول الشعري بشكل عام.

*ما الذي يحوّل الكلام العادي الى شعر؟؟

الأمر أشبه بالحديث عن كوكب معقد العناصر...أنت هنا تتحدث عن عملية الإبداع التي تنقل الكلام من حالته العادية إلى مقامه السحري.. ثمة إبحار في الكهوف المائية للكلمة والمعنى، وما يعتبر معنىً وافياً في حالة المقالة مثلاً، لا يعتبر كذلك في القصيدة، القصيدة تبدو لي وكأنها اكتشاف لأشياء كثيرة من بينها كوامن اللغة والروح والفكرة والوجود...

بمعنى أبسط، الذكاء اللغوي وذكاء حس المغامرة الشعرية في حينها، هي من عوامل تحويل العادي من الكتابة إلى السحري، وطبعاً أدوات الكاتب وحصيلته المعرفية، أضف إليها التجربة .. فعندما تبدأ الكتابة لأول مرة قد لا يستطيع نصك التعبير عنك تماماً، وبالبراعة الوجدانية والفكرية التي تريد؛ فالتجربة تنضج لديك الأفكار وتعطيك الحكمة والرؤيا ثم تنضج لديك الأسلوب، وتفيد هنا القراءة والسفر، ويزيدها أن تعيش سنوات عمرك وأنت تراقب، وهنا أتذكر القول بأن: "المبدع له جسدان جسد يعيش به، وجسد يراقب به".. بمعنى أنت تعيش حياتك بمعناها وتعيش حياة أخرى كي تكتب عنها ولها.

*كيف يتمثّل الوطن في شعرك؟

يشكل الشعر الذي يلازم الأرض والتراب جزءاً كبيراً من الشعر لدى الفلسطينيين بشكل عام، وهو السمة الغالبة في أدبهم، وبالنسبة لي أنا فلسطيني ومواطن سوري في نفس الوقت فقد ولدت هنا وأصبت بسحر هذه البلاد وياسمينها وامتدادها في خاصرة التاريخ.. لكن موطني الذي رأيته أول مرة في عيني أمي المهجرة عن حيفا، موطني هو فلسطين، وهي بالتأكيد لا تغادر ما أكتب.. طيفها يبقى متجولاً في كلماتي حتى حين أترك الأوراق وأخلد إلى النوم...

من الصعب أن أقول لك الآن كيف يتمثل الوطن أو فلسطين في ما أكتب. وبالمناسبة كلمة وطن تبدو لي ضيقة أحياناً.. فلسطين بالنسبة لي ليست مجرد وطن، إلا إذا كان الوطن هو ذلك الفضاء الكوني الذي إن وصلت إليه الروح استقرت وتوقفت عن الأسئلة...

وأعود معك إلى الأدب الفلسطيني، نعم، بهذا المعنى، في رحلة محاولة العودة إلى فلسطين، تشكل هذا الذي سماه البعض ذات يوم إنشاداً فلسطينياً جماعياً.. وبالتالي ظهرت واضحة في أدب شعرائهم صور الفدائيين، صور الوطن الغائب، وصور توق العودة إليه... العودة التي من المفارقة أنها كلما تأخرت، اتسعت مساحة هذا البساط السحري الذي يحمل الأرواح على متون القصائد.

*ماذا تقول للجيل الجديد من الشعراء؟

لا أحب أن أقدم النصائح. لا أشعر أن هذه الأمور من أشغال الشاعر، لكن بكل الأحوال إن اضطررت إلى ذلك، فأنا أنصحهم بألا يخشوا من أن يتشبهوا بسواهم من الشعراء الكبار في تجاربهم الأولى، بالإضافة إلى أهمية القراءة والكتابة لتطوير الأسلوب وإدراك أهمية الكتابة كمشروع وعدم الاستخفاف به.

بعد ذلك يجب الإنفصال عن أسلوب "قدواتهم" وتكوين أسلوبهم الخاص، كالطفل الذي تعود الإتكاء في المراحل الأولى من محاولة المشي، وحان وقت اتكائه على عكازه الخاص، فأهم صفة في شخصية الكاتب عموماً، هي امتلاكه لشخصيته المستقلة وأسلوبه الخاص المنفصل عن باقي شعراء العالم، الفكرة الأهم هنا هي أنه يتوجب عليه أن يضيف جديداً إلى الأدب والشعر، وإلا سيكون عابراً في طريق لا يحفظ إلا أسماء من يضيفون ولو مثقال ريشة واحدة.

 

يذكر أن الشاعر "ماهر رجا"ولد في مدينة "درعا" عام \1961\ وهو من أصل فلسطيني من قرية "اجزم" في مدينة "حيفا"،وقد درس اللغة الانكليزية في جامعة دمشق، وهو إعلامي وينشر في عدد من المقالات في الصحف والمجلات العربية والفلسطينية.

كما قدم عددأ من البرامج السياسية والثقافية الإذاعية، وله برنامج أدبي  "محطات على الورق" الذي يعنى بالأقلام المبكرة والواعدة في الأجناس الأدبية عموماً.

نشر الشاعر ثلاثة دواوين "الغريب وأنا"، "العربات" و"هواجس الفتى الغافي"، فضلاً عن كتاب نصوص نثرية بعنوان "أبجديات"، وله ديوان قيد النشر سيصدر قريباً.. ومن أعماله أيضاً مسرحية الطوق و"صمت ابن آوى" التي حازت جائزة الإبداع العربي في الشارقة عام \1997\، بجانب فوزه بجائزة عربية عن ديوانه الأول بداية التسعينيات.