مشافهة التاريخ والذاكرة الجمعية .. تأريخٌ لما أغفله التاريخ

الحسكة – كسار مرعي

على الرغم مما شهدته محافظة "الحسكة" من الحضارات المتعاقبة والموغلة في القدم، والتي تصل بحسب خبراء آثاريين إلى آلاف السنين قبل الميلاد، بقيت هذه المحافظة بعديةً عن التأريخ والتدوين، مع العلم أنها لم تتعرض لحرق مكتباتها ولم يبتلع نهر "دجلة" مخطوطاتها التاريخية"؛ لأنها وببساطة شديدة ليست على أحد ضفافه، ولم ينلها ما نال مكتبة "بغداد" من همجية "هولاكو".

لكن الحقيقة أن أبناء المحافظة أهملوا تأريخ منطقتهم لأسباب عديدة، أهمها عدم الاكتراث للتاريخ وأهميته المستقبلية؛ ولأن أهلها غلب عليهم الطابع الفلاحي البسيط، فتركت الأحداث التي تعاقبت على المنطقة رهينة الذاكرة الجمعية لكبار السن، أو مجرد قصص تناقلها المتسامرون في ليالي السهر أو جلسات الأنس، ويمكن أن هذه الجلسات كانت المصدر الوحيد لنقل تاريخ كاملٍ لمحافظةٍ، تشهد لها الأوابد الأثرية بتاريخ حافل بالمتغيرات، وحضارةٍ ضربت أطنابها في عمق التاريخ.

فالمشافهة التاريخية "أي نقل التاريخ كابراً عن كابر أو عن طريق العنعنة؛ تبقى أفضل من إغفال التاريخ بأكمله، حيث تمكن بعض الباحثين من تدوين النزر اليسير من الأحداث التاريخية، وتأليف كتبٍ أصبحت بمثابة المراجع، بعد أن تمت مقاطعة الروايات من مصادر مختلفة للوصول إلى صيغةٍ؛ هي الأدق لما حدث في سالف الزمان.

"التاريخ الشفهي والذاكرة الجمعية" هو أحد أهم الكتب التي تحدثت عن التاريخ الجزري والموروث الشعبي للباحث "محمد السمُّوري"، حاول الكاتب من خلاله توثيق أهم الأحداث التي شهدتها منطقة الجزيرة العليا؛ من خلال شهادات حية لأصحاب الذاكرة الجمعية، حيث يرى الكاتب أن المؤرخون انكفأوا لتدوين ما هو رسمي وتركوا تدوين أنفسهم، فاهتموا بالملوك والسلاطين والأمراء، وتركوا تاريخ منطقتهم للمشافهة والنقل بطريقة بدائية، فانتقل الباحث إلى تأريخ ما أغفله التاريخ، منذ عام 2005 مع علمه المسبق بصعوبة هذه المهمة.

وقد جاء الكتاب في أربعة فصول خُصص الفصل الأول للحديث عن فلسفة المفهوم؛ وهو الحديث عن أهمية التاريخ الشفهي ومصادره، كالذاكرة الفردية والجمعية، ثم انتقل الكتاب لتوضيح مفهوم التراث الحيوي والشعر والخطابة والحكايات والسير الذاتية؛ حتى الأسطورة أخذت نصيبها من البحث والتدقيق وتجلياتها في اللاوعي الجمعي وعلاقتها بالتاريخ الشفهي، فيما تحدث الفصل الثاني من الكتاب عن الجانب التاريخي، شمل بواكير التاريخ الشفهي عند العرب، وتجارب بعض الشعوب في هذا المجال، في حين ذهب الفصل الثالث من الكتاب ليتناول المواقيت السنوية، التي تعتبر كمحددات زمنية للأحداث، فذكر الباحث جملة منها إذ أنها تعكس عند العرب المعارف الفلكية وطرائق حساب السنين.

أما الفصل الرابع فقد آثر الباحث أن يفرده للتعريف بمنطقة الجزيرة تاريخياً وجغرافياً وبشرياً، فتعمَّد ألا يلجأ إلى الدراسة النظرية الصرفة، لذا فقد أورد كماً وفيراً من الأحداث والطرائق التي يؤرخ بها أهل الجزيرة السورية، بحيث جاءت الدراسة وفق نظامٍ معقد اتُبع من خلاله شديد الحذر في رصد ونقل التناقضات، كما تم صرف النظر عن صراعات القبائل وحروبها؛ على الرغم من أن بعض العامة من الناس ما زالوا يؤرخون بها، أو يربطون سنين وقوع الأحداث بسنوات الحروب، وذلك لأن النمط القبلي في الحياة الجزرية ما زال متبعاً إلى يومنا هذا.

 وعمد الباحث "السموري" خلال بحثه إلى ربط الزمان بالمكان كأحد أدوات الذاكرة الجمعية، فكان للمياه نصيبٌ من البحث لما لهذه المادة من قصصٍ مع الخيال الجمعي، ولارتباط وجود الإنسان بوجود المياه، وأيضاً بسبب فناءه وموته وتشريده وخراب منازله بسبب الفيضانات، مما هيئ للمياه أن تدخل في موضوع التأريخ الشفهي، حيث تُربط الأحداث بسني الفيضانات أو تفجّر الينابيع أو شُحها، أو بحوادث ارتبطت بالغرق أو المنازعات على التحاصص.

ويؤكد الباحث أن المشافهة لم تكن يوماً كالتدوين أو التأريخ المكتوب، فهي تركن إلى الحالة النفسية وطبيعة الموضوع، مورداً بيتاً من الشعر "لابن سهل الأندلسي" في هذا الخصوص يقول:"أخافُ عَليكَ أنْ أشكوكَ بَثّي .. مُشافَهَةً فَيُخْجِلَكَ السَمَاعُ".

 إلا أنه يعود ليؤكد أن التاريخ الشفهي هو أصل التأريخ، فهو المصدر الرئيسي لنقل المعلومة المتعلقة بالفئات التي لا يلتفت إليها التاريخ، وفي الوقت عينه هو تدوينٌ للرواية أو بالأصح لما علق في ذهن الراوي من أصل الرواية، لهذا يجب أن يكون التاريخ مكتوباً وإلا فيجب توخي أقصى درجات الحذر، في حال طالت المسافة الزمنية بين الحادثة وتدوينها، وأن يتم الاعتماد في التدوين على الذاكرة الجمعية أكثر من الذاكرة الفردية، لأن الأولى تمكن الباحث من القيام بمقاطعة المعلومات، التي لا توفرها الذاكرة الفردية؛ التي تعتبر المصدر الوحيد للحدث.