"منمنمات تاريخية" .. تأصيل التاريخ كفرجة مسرحية

  كمال شاهين

كتب الراحل "سعد الله ونوس" قبل عدة أعوام على رحيله عدداً من المسرحيات مثلت الذروة الفنية والإبداعية في مسيرته المسرحية التي بقي وفياً لها حتى رحيله في 15 أيار 1997.

هذه المسرحيات هي على التوالي "منمنمات تاريخية" أوائل 1994 و"طقوس الإشارات والتحولات" بنفس العام، ثم "يوم من زماننا" و"أحلام شقية" العام 1995، وآخرها كان "ملحمة السراب" و"الأيام المخمورة" العام 1996، ليكتب آخر كتاب له ويصدر في عام رحيله بعنوان "عن الذاكرة والموت" عن دار "الأهالي" في دمشق.

كل هذه الأعمال تخطت مختلف أنواع وأشكال السرد المسرحي لدى "ونوس" عاشق المسرح ومدمنه حتى الثمالة، وتفوقت في متنها وقصتها وكثافتها الفكرية والمسرحية على مجمل ما قدمه الراحل، فهذا الرجل الذي تفاعل مع الظروف وواكب الأحداث التي حلت بالعالم العربي وقتها، استطاع استخلاص مقولات فكرية تجاوزت ضيق الحدث السياسي إلى رحابة التساؤل الوجودي عبر  المسرح الذي بقي مؤمناً به "كظاهرة حضارية مركبة، إن افتقدها العالم سيصبح أكثر وحشة وقبحاً وفقراً" كما قال في كلمته في يوم المسرح العالمي.([1]).

في أعماله الأخيرة هذه بدّل الراحل أدواته الفنية وتوجهاته التي دأب مطولاً على طرحها في تأسيسيه لمفاهيم المسرح العربي، وبالأدق إعادة تأسيسها على منطلقات تجمع بين الفرجة والجمهور والنص المسرحي ذي الحكاية أبداً، وهي الحكاية التي اشتقها من قراءاته للتاريخ العربي قديمه وحديثه، دون أن يقع في فخ التأريخية واستلابها الزمني أو المكاني، بل لتكون دوماً حكاية مشوقة ثقيلة بالمضامين المنتمية إلى الراهن في لعبة عكسية مع الزمن نفسه.

تتضح هذه الصورة جليةً في عمله "منمنمات تاريخية"، ففيها يعود ـ أو نعود نحن ـ إلى زمن حصار التتار لدمشق والحوادث الرهيبة التي حصلت وقتها (عام 803 هجرية)، مركزاً على تشريح الصورة الكلية لمدينة قد تكون أي مدينة محاصرة وليست "دمشق" كإطار تاريخي تختلف عن تلك المدينة ـ الرؤيا التي أطلقتها "سعاد ابن التاذلي" في لحظات حياتها الأخيرة وهي تتحدث عن اجتياح مدينة عربية أخرى حديثاً. فهي قد تكون أي مدينة يحاصرها غزاة، قديمة أو حديثة، وفي اختياره المكان هذا وامتداده في جدل الخارج والداخل يبني سعد الله شرحاً جديداً لثيمة مسرحية عمل عليها طوال اشتغاله في المسرح، وهي الهم العام، الهم الذي طالما أرق الرجل وأدى به إلى السرطان والغيبوبة مرات عدة في حياته.

يقسم الراحل عمله المسرحي إلى عدة أجزاء يسمي كل منها "منمنمة"، وهذه المنمنمة هي شكل من أشكال الزخارف الإسلامية، الأول أسماه على اسم بطله "الشيخ برهان الدين التاذلي أو  الهزيمة"، والثانية "ولي الدين عبد الرحمن ابن خلدون أو محنة العلم"، ويختمها مع "آذدار أمير القلعة أو المجزرة"، ويشي عنوان كل منمنمة بما تحمل من صراعات تمتد زمنياً بمجملها على ما يقرب من شهرين.

يبدأ "ونوس" منمنمته الأولى "الهزيمة" بصوت مؤرخ قديم، يحب تفصيل الأحداث اليومية في أدقها حضوراَ، فيسجل العام الذي حكم فيه "المتوكل على الله" والسلطان "برقوق" من المماليك، وفي هذا العام "بدأ تيمورلنك زحفه على حلب ودمشق، و"كثرت الضفادع في نهر بردى"، ويتضح أن هذه التفاصيل التي تبدو غير مترابطة، تمهد الجو المسرحي لما سيقدم لاحقاً من بشاعات واجتياحات لكيان الأمة ومدنها وأناسها المنقسمين على أنفسهم في مسألة الدفاع عن دمشق أم تسليمها إلى الغازي التتري.

يستخدم "ونوس" تقنية المؤرخ عموماً أو الراوي كما في القص القديم كثيراً، وهي من تقنياته التي تتيح له تقديم عدة وجوه للشخصية الواحدة، مرة بصورتها الذاتية وأخرى بصورة ما كتبه التاريخ عنها، وثالثة بصورة مختلفة ترتكز على المؤلف نفسه في تحريكه لوجوه التاريخ كي يقدم رأيه هو الآخر بصفته فاعلاً في سياق الحدث المسرحي نفسه، ولعل هذه التقنية المشتقة من إيمان سعد الله بتقنيات المسرح العربي القديم مثل خيال الظل والراوي في مسرح "القباني" أفادت السياق المسرحي في تقديم صورة مكثفة جداً للحدث الجلل بكافة تقاطعاته التي لا يمكن لنص واحد أن يستوعبها في العرض الواقعي، فلنص سعد اللـه سطوته الكاملة على الخشبة.

يؤسس "ونوس" في المنمنمة الأولى قواعد الاجتياحات التي ستطال الشام ومصر وتعيث فيهما خراباً، فالصراع بين رجال الدين على أشده، وهم في ظل غياب الحياة والسلطان قادة مجتمع يتحكمون به على هدى مصالحهم وأطماعهم، يساندهم في ذلك ويساندون التجار الذين يتسببون جميعاً في إسقاط القلعة المنفصلة عن المدينة في رمزية مضافة للعلاقة بين السلطة والجمهور، وتوضح  هذه الرمزية أسباب فشل المقاومة الشعبية التي لم تستطع بانتمائها العضوي عبر قائدها (آزدار) إلى نسق متماه مع سلطة خربة ومنهزمة أن تؤسس لولادة نظام جديد يحلم به آخرون يشاركون فعل المقاومة، وخاصة شهاب الدين تلميذ ابن خلدون.

يتضح في هذه المنمنمة قدرة "ونوس" على البناء الدرامي الكثيف الدلالة، فهو يقدم صورة بانورامية شاملة لمدينة تتناهبها الصراعات الداخلية فيما العدو يدق أبوابها، وعبر اختيار  شخصيات تنتمي إلى مختلف الشرائح يبذر الكاتب بذور التراكم الذي سيفضي إلى النتائج التي ستأتي لاحقاً، من الواضح أن هذه الشخصيات المختارة هنا والتي تتشظى في علاقاتها الإنسانية وتبدو وهي تراقب ما يرد من "حلب" وبقية المناطق كمن ينتظر قدره مطمئناً إلى الخارج (المماليك المصريين) وإلى قدرة الخارج في تحقيق حماية له، في حين يقدم الكاتب صورة مضادة تتمثل في رغبة الجمهور في الدفاع عن "دمشق" وتشكيل جبهة مقاومة حقيقية لا ينقصها شيء كي تسحق الغازي.

في التضاد الداخلي تبدو للمتفرج طموحات الطمع الفظيعة لكل من تجار "دمشق" ورجال دينها الذين قبلوا بعد إلحاح التاذلي الانضمام إلى القلعة مقابل عدم مساس مصالحهم الدينية والمجتمعية، هذا الانتماء المصلحي الذي سيتكرر كثيراً في التاريخ العربي لاحقاً، سيبدو أنه الإسفين الذي سيشق سفينة المقاومة الدمشقية الباسلة.

إن ما يرويه "ونوس" قد حدث، وما يقوم به هو تقديم الأسباب للمتفرج الذي غفل أو لا يعرف أساساً أن كاتباً مثل "ابن خلدون" مؤسس لعلم العمران، هو مجرد شخص انتهازي. في المنمنمة الثانية "محنة العلم" تستمر الأحداث بالتدفق بنفس الرؤى السابقة مع تكثيف الحضور الرمزي للأشياء، الوقت شتاء، والمكان ـ دمشق المدينة ـ قد سقطت بيد التتار اللذين استباحوها وحرقوها حتى تكاد تترمد ولم يبق سوى القلعة بأربعين يومها صامدة فيما رجال الدين أنفسهم مع التجار يفككون أسوار القلعة، ويبدو الحوار بين "شهاب الدين" ومعلمه "ابن خلدون" حواراً حقيقياً عن دور المثقف في زمن الحرب، وهو سؤال لطالما طرحه "سعد الله" وأجاب عليه بطريقة مسرحية مميزة، لعلها الأبرع في تاريخ المسرح العربي، وبفضل هذه الحوارية "نكش" ونوس هالة "ابن خلدون" العظيمة وقدمها على حقيقتها، رغم تدخله في سياق الحوارية تلك ، كما  يشير إلى ضرورة تعرية القداسات التي اعتدنا عليها ووضعها أمام مجهر النقد ليس لغاية التدمير بقدر ماهي  منطلقا لبناء علاقات صحيحة تفتقدها المدينة الرمز  كما تفتقدها العلاقات بين أهلها.

في ثالث المنمنمات وفي أول ظهور له على الخشبة يباعد المشخص لدور المؤرخ بينه وبين دوره مفضياً إلى ثنائية خطاب تندمج في تعاطف المؤرخ الحالي مع ذاك الذي أرخ لتلك الحكاية الدمشقية المؤلمة، هذا الاندماج بين الخطابين يمثل مقولة من مقولات الراحل في التأكيد على دور الفنان وحقه في تقديم قراءة للتاريخ ولو مسرحياً ضمن قناعاته الإبداعية، وخاصة مع انتماء المؤرخ القديم في النص إلى تقديم وصف واقعي لما جرى وتبدأ الرموز بالتساقط، وتنتهي الدلالات إلى ثيمة مفجعة، هي يقين الكاتب بأن ما جرى كان يمكن تلافيه، وليس قضاءً وقدراً كما يختم بذلك الكاتب عمله المسرحي متمثلاً شخصية الشرائجي الرافض لفكرة القدرية واتفاق الجميع على قتله وصلبه([2]).

 تبقى الإشارة إلى أن المنمنمات قدمت على خشبة المسرح في عدد من الدول العربية والأجنبية منها دمشق وبيروت وبغداد ولندن وموسكو وغيرها وترجم العمل إلى كثير من لغات العالم.

 

المراجع:

[1]
من كلمته في يوم المسرح العالمي، جريدة تشرين، دمشق، 27 آذار 1996، عدد 6485.


[2]صدرت الأعمال الكاملة للراحل ونوس في طبعة أولى عن دار الأهالي بدمشق عام 1996، ثم صدرت طبعة ثانية عن دار الآداب، وتتوفر المسرحية للقراءة في عدد  من مراكز تحميل الكتاب.