"نزار بدر" .. النحتُ بأصابع الآلهة الأوغاريتية

كمال شاهين - اللاذقية

يختصر الرسام والنحات العالمي "هنري ماتيس" (1869، 1954) علاقته مع النحت بعبارة موجزة جداً فيقول: "التطابق الدقيق ليس هو الحقيقة"، فالحقيقة ـ إذا كان هناك حقيقة ـ هي ما تراه العين ربما، وربما ما تنقله إلى الذاكرة من صور مختلفة للأشكال".

لا يعرف النحات "نزار بدر" الفنان "ماتيس"، ولا يعرف أنه أدخل في النحت نمطاً جديداً (ما بعد الانطباعية) وعمد إلى خلق إيقاع شرقي في نحته بالهرب من تعقيدات الكتلة والحجم إلى السهولة الخطية القريبة من الأرابيسك، وقبل "ماتيس" بمئات السنين سطّر النحات المشرقي السوري هذه "الحقيقة" في منحوتاته التي جسّدت كل ما يخطر بباله، حياةً وموتاً، طبيعةً وإنساناً، في نحت جداري وعمودي، محققاً شروط التوافق بين الفراغ والكتلة متجاوزاً شرط التطابق ذاك، إلى ما هو أسمى منه، إلى النحت بصيغته الروحية المكتملة.

ينحت "نزار بدر" منذ عقود تجاوزت الأربعة، ولأنه ليس لدينا من يعرّف العالم بخلفاء النحت المشرقي السوري إلا وفقَ أجندات معينة، ولا يلغي هذا عتباً على النحات نفسه، فقد بقي هذا النحات في ظله "مرتاحاً" كما يقول في حديث مع "المفكرة الثقافية"، إلا أنّ غصّةً تطارده كلما تتبع الانطباعات التي تتركها منحوتاته أمام المشاهد الغربي والإيطالي تحديداً.

يقول النحات: "تفاجأت جداً أن منحوتاتي تلقى كثير اهتمام في الوسط الفني الإيطالي، لعل ذلك سببه اختلاف منحوتاتي عن تلك التي تعود عليها الناس هناك، فالنحت في إيطاليا ناضجٌ وله عمقه التاريخي الذي لا ينازع، منحوتات "رودان" التي تزين الكنائس والساحات العامة هي مما اعتاد الناس على رؤيته ضمن منظور الكتلة والفراغ الثلاثي الأبعاد، منحوتاتي أصغر حجماً وأقل "احتلالاً" للمشاهد".

أغلب أعمال النحات "بدر" تنطلق من كتلة طبيعية جاهزة، فهو يستيقظ  باكراً ويذهب إلى البحر القريب من بيته لينتقي من الأحجار التي يرميها البحر إليه، وأسأله: أليس في هذا تخلٍ عن شرط النحت الأول: الكتلة المربعة أو المتطاولة؟ يجيب: "لم أتقيّد يوماً بشروط في النحت، ليس لأنني لستُ أكاديمياً، بل لأنني أجدُ هذه الكتلة تحقق شرط الموضوع النحتي لدي، الشرط الأوحد في النحت هو ما يجري في الرأس من صخب وأمواج، ثم يبدأ العمل بالتخطيط لأول خط سيتم جرح الكتلة به، وتتالى الخطوط والحفْر على جسم الكتلة حتى أقتنع في لحظة ما أن عليّ أن أتوقف، فأتوقف لأحدق بما أنجزت، هل تحققت الصورة التي في الرأس هنا، هل تركت المنحوتة فيّ أثرها، إذا تحققت هذه الشروط أضع المنحوتة في مكانها الذي يستحق".

يستخدم النحات الكتل الصلدة من الصوان والغرانيت القاسي وبعض الرخام (باعتباره الأغلى ثمناً)، وحجم الكتلة التي ينحتها يتراوح بين "البحصة الصغيرة" إلى الكتل المتوسطة الحجم، وأصعب النحت هو "الكتل الصغيرة، هذه لوحدها تحدٍ كبير، عليك أن تعمل بدقة متناهية لخلق الصورة على مساحة لا تتجاوز حجم الأصبع أحياناً، الناس تعودت أن الكتل الكبيرة هي المنحوتات الحقيقية، إلا أنني استعدتُ بهاء النحت لكل الكتل، ولأي موضوع نحتي، ليست القصة افتراق عن السياق النحتي المعروف، اجد نفسي في نحت هذه الكتل الصغيرة والمتوسطة، وعبر نحتها أحقق رؤيتي النحتية للعالم".

في موضوعاته النحتية، يسيطر القلق على اشتغالاته، فمن محاولاته الحثيثة إسقاط (السياسي الراهن) على المنحوتات باستخدام بعض الطلاء الأحمر، إلى الاتجاه إلى تقديم "أوغاريت" برؤية نحتية تستحضر الانسان المشرقي السوري برؤية واقفة متحديةٍ مشكولةٍ بعزّة "بعل" و"إيل"، في قلقه النحتي هذا تتداخل الخطوط النحيتة لديه بكثافة غريبة، منحنيات تلف المنحوتة أحياناً بشكل كامل، ينعدم الفراغ، يأخذ الوجه المنحوت كامل الأبعاد محتلاً المشهد وقائداً له في توجيه المتلقي إلى لعبة بصرية شديدة القساوة أحياناً، إلا أنها تبقى مع ذلك أليفةً تقترب من روح الأشياء والإنسان سوية.

بين الموضوع النحتي والتقنية المستخدمة وصولاً إلى المنجز النحتي النهائي تبرز في أعمال "بدر" وحدة طبيعية بين منظومات العلاقات الشكلية المقدمة في العمل، وفي تكوينه النحتي تتناغم هذه المنظومات مع علاقات بناء العمل هندسياً، مع المادة وطبيعتها وأسلوب تشكلها الأول، يغيب الفراغ في الوقت الذي يجب أن يغيب فيه فعلاً، ويظهر في الوقت المناسب، كذلك الكتلة، يبلغ الشكل عنده اكتماله النحتي بسياق سهل، وهذه ميزة تحسب لرجل لم يتعلم النحت في أي مدرسة.

بعد كل هذا الإبداع، لا تسويق، لا بيع..!

يعترف النحات "بدر" بأنه باع قليلاً مما اشتغل، وأهدى الكثير، بعد معرضه الأول في غاليري أوركسترا العام الماضي، ومشاركات في عديد المعارض الجماعية هنا، يصر على الاستمرار في نحته:"يرغب كل فنان أن يعيش من إبداعه، هذه رغبة الكثيرين، وهي كذلك بالنسبة لي، رغم هذا، لن أتوقف عن النحت لأنني لا أبيع، النحت ليست مجرد هواية لي، إنه جزء من يديّ، كل يوم أنحت، أقضي الساعات الطوال مراقباً الكتلة وباحثاً عن الصورة المختبئة فيه لأعريها وأظهرها إلى الحياة، تساعدني الطبيعة في إدراك أن النحت وسيلة مهمة للتعبير عن روحي وفني والصورة التي أريد تقديمها للآخرين".

يطمح النحات "بدر" في جديده لتقيم صورة نحتية مستمرة لأوغاريت الحضارية في سلسلة أعمال نحتية يستقي مادتها من الأسطورة والمخيال الأوغاريتي، ويختم لقاءنا بعبارة مستقاة من ملحمة "بعل" في حديثه "لعناة" فيقول: "أقيمي في الأرض وئاماً، وابذري في التراب محبة، واسكبي سلاماً في كبد الأرض، وعسلاً في كبد الحقول، ولتسرع نحوي قدماك".