نقد ما بعد الحداثة والبنيوية.. المناهج النقدية وممارسة القراءة النقدية

كمال شاهين - اللاذقية

من اللحظة الأولى التي فارق فيها الإنسان حاجاته اليومية ومثلث الأمان الأبدي (الطعام، الاستقرار، السكن) بدأت مفارقته الإبداعية بالظهور متجسدة في رسوم الكهوف الأولى، لتصعد تدريجياً سلّم التجريد وصولاً إلى أقصى العبارات تكثيفاً ورصاً، وفي ارتقائه المعجز هذا، بقي وفياً لخلجات ذهنه وهي تفيض بالأفكار والرؤى.

وعبر هذه المسيرة التاريخية ظهرت نظريات كثيرة تقولب طرق المناهج في قراءة تلك الذاكرة الإنسانية في تجلياتها الإبداعية، ولكل واحدة منها عناصرها الأساس في مقاربة العالم، فقد تركز تلك النظرية على عامل الشكل، أو على عامل الزمان والمكان والبيئة والطبقة والحالات النفسية. الخ، ولكل من هذه العوامل أثره على الكاتب أو على المتلقي، في بعض هذه النظريات يغفل تماماً دور المتلقي، في بعضها يكون الكاتب مرآة عمله أو شاهداً عليه دون أن يكون له أيّ تأثير في القراءات النقدية للنص نفسه.

يذهب البعض إلى أن النص الأدبي أياً كان تصنيفه شعراً أم قصة أو رواية أم غير ذلك، هو في تكوينه العام "صورة" عن العالم المقابل له.

تتأثر هذه الصورة بالواقع وتستفيد من إمكاناته ولغته وأناسه، وتصاغ هذه المكونات في قالب واحد يحتاج نقدياً إلى تفكيك هذه الروابط داخلاً وخارجاً في علاقتها وعلاقاتها مع العالم والمؤلف والمتلقي، ثالوث الإبداع.

من هنا مثلاً ظهرت التفكيكية والشكلانية والبنيوية وما بعد البنيوية في النقد الأدبي، وكل منها يستخدم في قراءته للنص أساليب خاصة.

يرى مثلاً الراحل "حسين مروة" العمل الأدبي "صورة الواقع خارج الذات"، ويرى "موريس بلانشو" العمل الأدبي حقيقي في العالم لأنه "يتحقق في العالم"(1).

الشكلانية تفتتح عالم النقد الغربي

وجد النقد في العالم العربي تاريخياً غير أنه لم يرق لتشكيل نظريات أدبية، فبقيت "مثلاً" نظرية "النظم" لدى "الجرجاني" وابن قدامة" في مكانهما ولم تشكلا تياراً أدبياً، مع أنهما أخرجا وصُنعا في بيئة تحتضن الشعر، ومع اختلاف الأسماء التصنيفية للنقد وأنواعه وعناصره، إلا أن النقد العربي القديم له حضوره الكبير نسبياً في تكوين صورة الأدب العربي الكلية خلال القرون العشرة الأخيرة من تاريخ العالم العربي، فعلى سبيل المثال فإن البنيوية التي قسمت العلاقة مع المتلقي لثلاث عناصر هي الحامل والمحمول والأدوات الحاملة، لا تختلف أبداً عن نظرية العوامل الثلاثة في النظم لدى الجرجاني نفسه، إلا أن مشكلتنا الأبدية هي في التأسيس معرفياً للتغريب في قراءتنا النقدية دوماً (2).

في الغرب، بقي النقد الأدبي يعتمد على الأساس اليوناني من "أفلاطون" و"هوراس" و"بوالو" مركزين على القيمة الجمالية للأثر الفني في المتلقي، ورغم كثير من القراءات النقدية عبر عصر النهضة من "ديدرو" في الاتكاء على الفلسفة، وصولاً إلى نقد "هيجل" الاجتماعي ومن تلاه، إلا أن الفكر الرئيسية بقيت في الإنتاج الأدبي وتسويقه دون الدخول في جدل إنتاج النص نفسه حتى بداية ظهور تيار نقدي "أدبي" هو الشكلية والشكلانية.

"الشكلية"، هي اسم لتيار أدبي ضم عدة أنواع من النقد الأدبي يغلب عليها كلها الاهتمام بالشكل، Form، وفيها يتم تلمس جميع المعلومات المطلوبة لإضاءة النص في النص نفسه، دون الحاجة إلى أية مؤثرات خارجية من قبيل حياة المؤلف وعصره السياسي ولا تهتم بتأثير المنتج الأدبي على المتلقي، كذلك لا تهتم ما إذا كان منتج النص ينتمي إلى تيارات فكرية معينة (النسوية مثلاً)، وهي أيضاً لا تنظر إلى النص عبر الأسطورة ولا مرايا علم النفس (3).

تبنى النقاد الأميركيون التيار الجديد في النقد، وأسسوا عليه النظرية "الصورية" وأسموا تبنيهم هذا "النقد الجديد"، حدث هذا مع مطالع الثلاثينيات من القرن الماضي، والشكلانية اليوم تتنوع مدارسها بين الروسية والفرنسية والبريطانية والأميركية، وكل منها له طريقته في القراءة إلا أنها جميعها تصلح كثيراً لقراءة النصوص الشعرية والقصص القصيرة، ومن أبرز فوائدها إجبار الناقد على قراءة النص بمعزل عن العوامل الخارجية وتسمح بتقييم العمل بذاته لا عبر كاتبه واسم كاتبه الذي قد يمارس مصادرةً نقدية لسبب أو لآخر (أغلب قراءات النقاد العرب لأدونيس وقعت في هذا المطب، كما يؤكد ذلك د. عبد العزيز حمودة في كتابيه المرايا المقعرة والمرايا المحدبة) (2)، ومن المهم التأكيد على أن الشكلية تركز كثيراً على العناصر التالية في أي نص أدبي (الشكل، النظام، البنية، اختيار الكلمة واللغة وتعدد المعاني).

ما زالت الشكلية مستمرة نقدياً بصورة أو بأخرى، إلا أن تطويراً طرأ عليها مطلع الأربعينيات، فقد أضيف إلى عناصرها قراءة الرمز والمعنى والتركيز على الصورة في النص الأدبي، ففي كتابه "البئر المطوية" الذي اعتبر تأسيساً ثانياً للشكلانية أكد الناقد الأميركي "كلينز بروكس" على دراسة عناصر مضافة تشكل قيمة مهمة في ميزان النقد الأدبي هي "التهكم، المفارقة، الاستعارات، السمات والشخصيات، الرموز ووجهات النظر"، ومن أهم عرّابي هذه العناصر "ياكوبسن وباختين"، ولعل كل هذه العناصر في الأدب العربي متوفرة في عالمه النقدي وفي مقاربات ما كتبه صاحب "أسرار البلاغة" الذي يضع هذه العناصر سمة أساسية في صناعة نظم (شعر) له وزنه وقيمته.

النقد الماركسي يؤسس للبطل الواقعي

بقيت الشكلانية خاصة الروسية ومدرسة براغ مؤثرتين في حياة النقد الأدبي العالمي، واشتقت منها وضدها مدارس لم يقيض لها الانتشار نظراً لارتكازها على جهة واحدة في المشهد النقدي، كنظريات الاستجابة لدى القارئ ونظرية الاستقبال، ومن ثم النقد المعتمد على السيرة، إلا أن ما بعد الحرب العالمية الثانية شهد تفوقاً في العودة إلى الربط بين النص الأدبي وإنتاجه والمجتمع وظروفه، وظهرت الجدانوفية الروسية والنقد الماركسي والنقد النسوي لتركز على كل هذه العناصر المجتمعية من طبقات وبيئات اجتماعية تشكل كلها ميزاناً نقدياً للنص، وقد أثر النقد الماركسي جداً في تطور الرواية الأميركية ورواية أميركا اللاتينية والعربية ممثلة في تيارات واقعية اشتراكية، رموزها السورية هي من أكبر رموز الرواية العربية (حنا مينة، سعيد حورانية، هاني الراهب، سحر خليفة، نجيب محفوظ، الطاهر وطار لاحقاً، وأسماء أخرى).

من أهم مصطلحات النقد الماركسي (والنسوي كجزء مواز له إلى حد ما) ما هو الوجود الذي يعكسه الأدب، وما هي طبيعة هذا الانعكاس، وهل هناك تصعيد إيجابي (يسجله البطل المفرد دوماً الإيجابي كما في رواية "الأم لمكسيم غوركي"، أو المنكسر كما في روايات "عبد الرحمن منيف" ومنها شرق المتوسط)، البنية الفوقية والتحتية والصراع الطبقي (رواية الوباء لهاني الراهب نموذجاً)، والعلاقات التي تشكل بجملها صورة العالم في النص الأدبي (2).

بعد السبعينيات ظهر نوع آخر مختلف كلية عن الأنواع السابقة يعتمد التحليل النفسي للعالم الأدبي، فظهر نقد يعتمد على نظريات "فرويد ويونغ ولاكان" ومن ثم النقد الانتقالي والمعرفي، وكل هذه الأنواع تعتمد مفردات التحليل النفسي مثل الأنا والهو والأنا الأعلى، وتدخل عوالم اللاشعور والشعور والعامل الجنسي للشخصيات الأدبية، وعند "يونغ" يضاف لها نظريات حب الحياة وكرهها والثنائيات المتضادة (حياة، موت) واللاشعور الجمعي، والذكورة والأنوثة في الشخصيات وعالم الحكاية الشعبية والأحلام الكبرى ورموزها مثل ظهور الأب والأم .الخ.

هذا النقد لاقى انتشاراً واسعاً في العالم العربي، ودخلت كثير من النصوص مصحات العلاج النفسي إلى درجة أنه عندما نقرأ نقداً ينتمي لهذا النوع خاصة الأكاديمي الجامعي، علينا أن نكون مسلحين جداً بعلوم علم النفس ومصطلحاته، ومن أفضل القراءات النموذجية التطبيقية لهذا النوع في سورية دراسة "النحل البري والعسل المر" للناقد "حنا عبود" و "عز الدين إسماعيل" في كتابه "التّفسير النّفسيّ للأدب".

فيما قبل آخر التطورات النقدية جاءت البنيوية التي شكلت صرعة نقدية كبرى في العقود الأخيرة من القرن العشرين، وتعرضت إلى نقد كثير لأسباب كثيرة، خاصة بكونها كنظرية نقدية جاءت كرد على التغريب الحداثوي في النص الأدبي نفسه، فغرق النقد في شبكات العلاقات الداخلية والخارجية لغوياً، والحامل والمحمول والبنية الكبرى والصغرى وغيرها، وهذا لا يعني أنها لم تترك أثراً قوياً في تاريخ النقد، فما قدمه "رولان بارت" الذي حاول استرداد اللغة من عزلتها النقدية قدم نظاماً متكاملاً للعلامة وتأثيرها المجتمعي من الثياب حتى إشارات المرور، وتابع "كلود ليفي شتراوس" في كتابه الشهير "الأنثروبولوجيا البنيوية" التأسيس للبنيوية في ماضي الشعوب وتاريخها ما قبل الكتابة وفقاً للعلامات ونظامها، ولا يمكن نسيان تأثر البنيوية الكبير باللسانيات وأفكارها عن الوحدة الصوتية الصغرى "الفونيم" والعلامات التي تشكلها مشتقة كلها من "ف. لوسيسير".(2).

اليوم لا يشكل النقد البنيوي تياراً قوياً في عالم النقد، إلا أن بعض مفرداته تسربت إلى ما سمي غربياً "ما بعد البنيوية"، وخاصة تلك التي أسس عليها "بارت"، فهو بحق رائد من روادها وإن كان تركها والتحق بما بعدها مؤسساً لنقد مضاف للبنيوية نفسها، ورغم أن البنيوية أوروبية إلا أن "نعوم تشوموسكي" الأميركي أثراها بشرحه للعلاقات البنيوية بين البنية السطحية للنص والبنية العميقة في اللغة نفسها.

نرتع اليوم في نقد ما بعد الحداثة والبنيوية، وهناك العديد من المناهج النقدية التي يمكن بها ممارسة القراءة النقدية، ولكن لا بد من التجربة مرة ومرات قبل الإقرار بأن العملية النهائية لتعرية أي نص قد وصلت إلى حدها المرتجى، خاصة في ظل تأثيرات فنية وأدبية كثيرة تجاوزت الحدود السياسية لتؤثر في صياغة الجملة نفسها فكرياً ونفسياً وتحليلياً، فحتى أقوى اللغات اليوم في العالم (الإنكليزية) تسربت لها مفردات كثيرة من لغات أقل شأناً.

 

المصادر:

1.     أدب العالم بين المركزية والتهميش، محمد سلامة، مجلة ألف عدد 34، 2014

2.     المرايا المحدبة، د. عبد العزيز حمودة، سلسلة عالم المعرفة الكويتية، العدد رقم232، نيسان 1988

3.     نظريات النقد الأدبي، د. عبد الرحمن بلو، جامعة زاخو، العراق

4.     I.A. Richards Practical Criticism(1929)