"نواعير حماة"...إلهام الأدباء والشعراء

اسماعيل النجم

لم تذكر حماة إلا وذكر اسمها بالعاصي ونواعيره، حيث لا يوجد تاريخ محدد لظهورها بدقة، فمنهم من يرى أنها تعود إلى العهد الآرامي، ومنهم من يرى أنها ظهرت في العصر الهلنستي، وآخرون يرون أنها رومانية، ولعل أقدم مصدر لتاريخ النواعير هو صورة من الفسيفساء عثر عليها المنقبون بين أطلال أفاميا تمثل ناعورة ترقى إلى العصر الروماني، ويرى بعضهم أنها تعود إلى الألف الأول قبل الميلاد.

قال "محمد كرد علي" مؤسس مجمع اللغة العربية "لأحمد شوقي" خلال زيارتهما "حماة" عام 1938م "إن نصف حماة شعراء"، وبعد أن جاس الاثنان خلالها قال له "شوقي" :"العجيب ألا يكون النصف الآخر من أهل حماة شعراء".

كما أن الآثار الفنية الرائعة والأوابد العمرانية المرموقة التي ما زالت ظاهرة للعيان أو التي أظهرتها التنقيبات الأثرية في مدينة حماة نفسها، أو في المناطق المحيطة بوادي العاصي والمعروضة في معظم المتاحف السورية والأجنبية هي دليل واضح على إبداع سكان هذه البقعة وعلى نمو وعلو حسهم الفني، ولا مراء في أن جمال الطبيعة كان له دور كبير في شحذ عبقريات وكفاءات الفنانين الذين أنتجوا هذه الآثار الرائعة على مر الزمن.

لم يمر "بحماة" رحالة أو زائر أو سائح إلا وذكر عاصيها وتغنى بنواعيرها وامتدح حسن مناظرها وطيب هوائها وعذوبة مائها، فها هو أبو الفداء ملك "حماة" يقول عنها: "ليس بالممالك الشامية بعد دمشق لها نظير"، وشبهها "ابن سعيد الأندلسي" بالمدن الأندلسية فقال عنها ك"لم أر ما يشبه رونقا في مياهها وأشجارها، إلا مدينة فاس بالمغرب الأقصى ومدينة دمشق بالشام وفي "حماة" مسحة أندلسية".

وقال عنها الرحالة الأندلسي "ابن جبير":"حماة مدينة شهيرة في البلدان، قديمة الصحبة للزمان، لا يهش البصر إليها، عند الإطلال عليها، كأنها تكن بجبهتها وتخفيها، فتجد حسنها كامناً فيها، حتى إذا جست خلالها ونقرت ظلالها، أبصرت بشرقيها نهراً كبيرا تتسع في تدفقه أساليبه وتتناظر بشطيه دواليبه، قد انتظمت في طريقه بساتين تنهدل أغصانها عليه، وتلوح خضرتها عذرا بصفيحته، ينسرب في ظلالها، وينساب على سمت اعتدالها". أما "ابن بطوطة" فقال:"حماة هي إحدى أمهات الشام الرفيعة ومدائنها البديعة، ذات الحسن الرائق والجمال الفائق، تحفها البساتين والجنات، عليها النواعير كالأفلاك الدائرات، يشقها النهر العظيم المسمى بالعاصي".

وكتب الشاعر "شفيق جبري" عنها نثرا كأنه الشعر فقال:" إن حماة مدنية الموسيقى والأحلام، فمن مسافة إلى مسافة، تشاهد دواليب ضخمة تحمل ماءها لتسقي به الجنان، فكأنما نغمات موسيقية تخرج من هذه الدواليب الهادرة، الشعر يفيض من كل ناحية من نواحي حماة، من أنين مائها وحفيف صفصافها وثغاء مواشيها ما ارغد المعيشة في مدن الشعر".

أكثر الشعراء الحمويون وغيرهم ممن زار حماة منهم، من ذكر الناعورة في قصائدهم، وأفاضوا في وصفها والإعجاب بحركاتها وبدورانها وبجمال صوتها وبالخدمات الجلى التي تقدمها للمدينة، لكنهم نسوا العاصي الذي هو أساس وجودها، والذي يؤويها ويسيرها، والذي لولاه لما كان لها وجود، أو أن هؤلاء الشعراء تطرقوا إلى ذكر  العاصي في قصائدهم، لكن في معرض حديثهم عن النواعير أو عن حماة وروضاتها وبساتينها التي تروي النواعير، وكلما جاس خلال حماة شاعر استحوذت هذه النواعير على إعجابه وجذبت أنظاره، إليها وملكت لبه ووجدانه، فتتوجه إليها محاسن أوصافه ويهمل عاصيها.

كان نهر العاصي يسمى "أورونتس" قبل دخول العرب غلى بلاد الشام، أي النهر الشرقي، ولا تزال تسميته عند الغربيين "أورونت". قال "البحتري":

وكم قطعت نهر الأوروند إليهم... كتائب تزجى فيلقا بعد فيلق

وقال "عبد الرزاق الجندي" "   

وروض أريض قد ألفنا عشية... تجمع فيه الأنس من كل جانب

جرى تحته النهر الأرنط كأنه... يقول لباغي البسط هيا لجاني

تعتبر النواعير عنوان الطابع الزمني المديد لمدينة حماة، إنّها منذ فجر التاريخ تدور، ومازالت تدور حتى يومنا الحاضر، فهي ترسم لوحات طبيعية نادرة، لامثيل لها في العالم كله، وفي مقدمتها لوحة النواعير.

والشيخ "عبد الغني النابلسي" يقول في أول زيارة له لمدينة النواعير:

انزل حماة التي ما مثلها بلدٌ...لكلّ دانٍ من الأهلين أو قاصي

ترقَّ قلباً لأحوال الغريب بها...حتى نواعيرها تبكي على العاصي

وهذا أحد الشعراء العرب الذين مرُّوا بحماة يتحدث عن أصل الناعورة، فقد كانت شجرة تسقى ويتغنّى الناس بجمالها :

أيّها السائلُ عنّي...سلبوا العادةَ منّي

كنت أُسقى وأُغَنَّى...صرتُ أسقي وأغنّي

وقال "نور الدين أبو الحسن":

حمى الله من شطي حماة مناظراً...وقفت عليها السمع والفكر والطرفا

تغنى حمام أو تميل خمائل...وتزهى مبانٍ تمنع الواصف الوصفا

وأشدو لدى تلك النواعير شدوها...وأغلبها رقصاً وأشبهها غرفا

تئن وتذري دمعها ، فكأنها...تهيم بمرآها وتسألها العطفا

أما اسمها فهو مشتق من نعيرها وهو صوتها، وذاك مأخوذ من نعر الرجل/ صاح وصوّت، والنعير: الصياح،والصراخ في حرب أو شرّ، وامرأة نعّارة: صخّابة، وقيل للدولاب: ناعورة وناعور لنعيره، ويُجمع على نواعير وناعورات.

وللنواعير في حماة لوحات طبيعية خمسٌ خالدات نادرة الوجود في العالم كله وهي:

اللوحة الأولى: أربعة نواعير التي يقع مقصف حماة الكبير إلى جوارها، فالكبرى: هي البشرية، والوسطى:البشرية الصغرى، والصغيرتان هما: العثمانيتان.

اللوحة الثانية: تقع في وسط المدينة جانب ساحة أبي الفداء ساحة العاصي، وتحتوي على ناعورتين من أروع نواعير حماة الأولى: هي الجسرية، والثانية: هي المأمورية أهم نواعير حماة وأضخمها حجماً، وتزيد اللوحة جمالاً.

أما اللوحة الثالثة: فهي جسر بيت الشيخ، وهناك نقف أمام ثلاثة نواعير تدعو للانبهار والدهشة والفتنة معاً،اسم الأولى الجعبرية، وتدعى الثانية الطيارة، والثالثة البازالكيلانية. وتتميز هذه اللوحة عن غيرها بما يحيط بها من أوابد تاريخية، وآثار عريقة أبرزها متحف حماة (قصر آل العظم).

اللوحة الرابعة: تقع شمال قلعة حماة في محلة باب الجسر، وتضم ثلاثة نواعير هي: الدوالك - الخضر -الدهشة، ومن أهمها الدهشة التي تعطي مقداراً كبيراً منالمياه رغم صغرها، وهذا ناجم عن سرعتها في الدوران،وكون صناديقها مزدوجة، وقد اشتهرت تاريخياً لقربها منجامع أبي الفداء.

اللوحة الخامسة: وهي باب النهر، حيث يأخذ نهرالعاصي مداه في السير على هواه، فإذا به يخلّف جزراًهنا وشلالات هناك، وغدراناً في ناحية، وبركاً في زاوية،ويشرف على ذلك كله ناعورتان الأولى هي المحمدية،أكبر نواعير حماة من حيث القطر والارتفاع، والثانيةصغيرة واسمها القاق، حيث يبدو ذلك جميعه منظراً لاتمل العين من الاستغراق في جوانبه وجزئياته، ولاسيما أن الخضرة تحيط به من كل أطرافه فتجعله صورة للطبيعة في عرسها الحالم.

فهذا الشاعر "ابن نباتة المصري" يقول:

وناعورة قالت وقد ضاع قلبها...وأضلعها كادت تعدّ من السّقم

أدور على قلبي لأني فقدته...وأما دموعي فهي تجري على جسمي

ويقول الرحالة "مونمارشيه" صاحب الدليل الأزرق:"حماة لا يحتاج المتجول فيها إلى ركوب المركبة،فضياع الوقت لا يكاد يذكر، ناهيك أنّ الماشي يتملى أكثربمشاهدة الطرق والقصور والنواعير والمساجد والجسوروالحمّامات".

وقال مؤرخها أبو الفداء عنها: "حماة" منالإقليم الرابع من الشام بين حمص وقنسرين. بفتح الحاء المهملة والميم وألف وهاء في الآخر وحماة مدينة أولية، وهي من أنزه البلاد الشامية، والعاصي يستدير على عاليها من شرقيها وشماليها، ولها قلعة حسنة البناء مرتفعة وفي داخلها أريَحيَّةٌ على الماء وبها نواعير دون غيرها من بلاد الشام".

وفي ثلاثينيات القرن العشرين زارها "أحمد وصفيزكريا" واصفاً واقعها الأخير بقوله:

هذي حماةُ مدينةٌ سحريّةٌ...وأنا امرؤ بجمالها مسحورُ

يا ليت شعري ما أقول بوصفها...وحماة شعرٌ كلّها وشعورُ

 

المراجع:

- حماه تاريخ وحضارة - راشد الكيلاني

حماة مدينة أبي الفداء- أحمد عكيدي