"حافظ الجمالي "... الترجمة وهموم الإنسان

"حافظ الجمالي "... الترجمة وهموم الإنسان

سمر الوعر

مفكراً عاش حياته مهموماً بقضايا الإنسان العربي ومستقبله، عرفته أوساط  التربية والتعليم معلماً وموجهاً، وإدارياً مخلصاً، وعرفته الجامعة في رحاب كلية التربية  في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي أكاديمياً مرموقاً، كما عرفه عالم الفكر والبحث والتأليف كاتباً ومترجماً دؤوباً  قدم للمكتبة العربية الكثير من المؤلفات .

ولد "حافظ الجمالي "عام 1916بمدينة حمص  في حي الفاخورة،  نشأ في أسرة حمصية معروفة ، والده الشيخ "عبد الفتاح الجمالي"خطيب وإمام جامع البازرباشي في حمص، والمدرس العام فيه.

كان "حافظ" واحداً من ستة أخوة ذكور أربعة توزعوا بين العمل في التجارة ومتابعة التحصيل العلمي، وكان نصيبه بعيداً عن التجارة، وفي العام 1923 دخل مدرسة منبع العرفان الإبتدائية بحمص ونال شهادتها عام 1928، ثم انتقل  إلى تجهيز حمص فبقي فيها ست سنوات، وعام 1934تخرج فيها ناجحا في البكالوريا القسم الأول، وانتقل بذات العام إلى دمشق ومعه أسرته ليدرس في تجهيز دمشق ويحصل على القسم الثاني "فرع الفلسفة" من البكالوريا .

وفي مطلع 1935 بدأ حياته العملية بالتدريس بمدرسة خاصة بدمشق، وفي الوقت ذاته واظب على الدوام في دارالمعلمين العليا، ثم صدر قرارفي 3/10/1936بتعيينه معلماً في مدرسة "منبع العرفان" بحمص، وفي 31/10/1936صدرت نتائج مسابقة كان تقدم إليها للإيفاد إلى فرنسا والحصول على إجازة في الفلسفة، وكان مقبولاً فيها فقطع عمله في التعليم، وسافر لباريس، وهناك لم يقتصر نشاطه على الدراسة  بل انخرط في أجواء العمل السياسي الوطني ، وقد عرف عن الجمالي مساعيه  في باريس لإحياء رابطة الطلاب السوريين التي عملت في تلك المرحلة على الدفع عبر الرأي العام والبرلمان الفرنسي نحو التصديق على المعاهدة السورية الفرنسية.

وفي تموز1939قبل اندلاع الحرب العالمية بشهر عاد "حافظ الجمالي" إلى سورية يحمل شهادة في الفلسفة ، وفي مطلع العام الدراسي عين أستاذاً  للفلسفة في ثانوية "المأمون" بحلب إلى جانب أساتذة كبار" مثل "زكي الأرسوزي"، "حميد الأنطاكي"، "عمر يحيى " وآخرين ، وفي 23/11/1943 عين أستاذاً في تجهيز البنين بدمشق وبعد عامين عين مفتشاً للتعليم الابتدائي  ، وفي عام 1948 نقل الأستاذ "الجمالي " إلى الإدارة المركزية في وزارة المعارف كرئيس للدائرة وعضواً في لجنة التربية والتعليم.

وبعد أقل من عام على عمله في الوزارة نقل لجامعة دمشق وعين أستاذاً في المعهد العالي للمعلمين " كلية التربية حالياً، وبعد أيام من تعيينه هذا قررت الوزارة إيفاده مع الأساتذة "سامي الدروبي، نعيم الرفاعي" لمتابعة دراسة الدكتوراه في اختصاصات تربوية، وفي 15/10/1949 يعود مرة ثانية لباريس ليلحق بجامعة السوربون كي يحّضردكتوراه في التربية ، بإشراف أستاذه " ميرلوبونتي" بعنوان " الآثار النفسية والإجتماعية والتربوية للفصل بين الجنسين في سورية".

أثناء وجوده في باريس تعرف بفتاة حمصية أحبها ثم تزوجها 1953 وهي السيدة "سعاد عزنك" التي أنجبت له طفلة أسمياها "سها"، وربما أثر زواجه على سرعة إنجازه في الدكتوراه لكنه لم يمنعه من المتابعة فترافق ذلك بانتقال أستاذه المشرف لجامعة أخرى فأصبح الإتصال به صعباً، ولم يكن ممكناً إيجاد أستاذ مشرف بديل لأن ذلك كان يعني العودة إلى نقطة البداية، وبعد تقييم الموقف استدعته وزارة المعارف فعاد لسورية دون أن يحصل على الدكتوراه ، والتحق هو بكلية التربية أستاذاً بلا كرسي، وزوجته مدرسة للغة الفرنسية في مدرسة تجهيز البنات.

بتاريخ 16/1/1960 رفع الأستاذ" الجمالي" إلى أستاذ كرسي في كلية التربية لمادة علم نفس الطفل، وكان ذلك تكريماً له على جهوده من قبل عميد الكلية الدكتور " جميل صليبا"، الذي لم تجد الكلية بعد تقاعده خيراً من الأستاذ " الجمالي" لتختاره عميداً لها في 1/7/1964».

لم تتوقف حياة " الجمالي" على العمل التربوي بل بعد مضي خمسة أشهر من تسلمه عمادة الكلية اختاره رفاقه القدامى الذين أصبحوا في السلطة  سفيراً في السودان، ثم بروما، وبعد ثمانية سنوات من العمل الدبلوماسي عين وزيراً للتربية في حكومة " محمود الأيوبي"1972، لكن المقام لم يطل في هذا المقعد فبعد تسعة أشهر تم تعديل وزاري، وبعدها أحيل للتقاعد مبكراً قبل الستين، حيث تفرغ للكتابة والترجمة وحلقة الأصدقاء، وكان منهم " بديع الكسم، حكمت هاشم، سامي الدروبي، شوقي بغدادي ".

في تموز1975 اختير الأستاذ " الجمالي" رئيساً لإتحاد الكتاب العرب وبقي لمدة  عامين.

عام 1981 اختير عضواً في لجنة تحكيم أفضل كتاب في الإتحاد ، وبقي لسنوات عضواً في هيئة تحريرعدد من المجلات والصحف الفكرية والأدبية التي كانت تصدرها وزارة الثقافة واتحاد الكتاب العرب ».

كان " حافظ الجمالي" المفكر والتربوي قد عاش في المساحة الطولى من عمره حياة المعلم الباحث والمفكر أكثر بكثير مما عاش حياة السفارة والوزارة، وكأنه لم يخلق إلا للبحث والكتابة والتأمل، فقد الف وترجم ستة وخمسين كتاباً ، وكتب مئات المقالات نشرها بدءاً من الثلاثينيات من القرن الماضي في بيروت بصحيفتي " النداء والمكشوف"، وفي صحف ومجلات سورية كثيرة"المعرفة، الفكر العربي، شؤون عربية "، وقد جمع بعضاً من مقالاته في ثلاثة كتب هي" حول المستقبل العربي، بين التخلف والحضارة، عربي يفكر"، كما ألف تسعة عشر كتاباً معظمها كتب مدرسية وجامعية"ماوراء الطبيعة، الوسيط في المنطق، الأخلاق، بين التربية وعلم النفس " وغيرها حول شخصيته الفكرية والتربوية قال الدكتور " فخر الدين القلا" تلميذه وزميله : «كان الأستاذ " الجمالي" متأثراً بسخرية سقراط، وأفكار " جان بياجيه"، ويعتبر نفسه تلميذاً له في علم نفس الطفل».

وكتب" شوقي بغدادي"في ذكرى رحيله : «كان الأستاذ " الجمالي" وديعاً لطيفاً يحسن الإصغاء والصمت بقدرما يحسن الكلام، كان يصغي للآخرين كأنه لايعرف شيئاً، وحين  يأتي دوره في الكلام إذا به أعرف منا جميعاً ».

عاش" حافظ الجمالي" حياة متواضعة، شريفاً نزيهاً، لم يحن رأسه يوماً، ولم يطغه المنصب، ولم يغوه المال، حتى تقاعده الذي حصل عليه من اتحاد الكتاب العرب تبرع به لأيتام  حمص، وفضل أن يعيش سنواته الأخيرة في عزلة إختيارية وهدوء.

هاجمه المرض فجأة شيخا في السابعة والثمانين، فأسعف إلى المشفى حيث اكتشفْ وجود ورم خبيث، مالبث بعد أيام قليلة أن أغمض عينيه ، ورحل  بهدوء بعيداً عن ضوضاء هذا الزمن في 9/11/2003م، لتختتم رحلة حياته الطويلة المفعمة بالعطاء والنضال، ونقل بناء على وصيته ليدفن في حمص التي أحبها  حباً مختلفاً حيث لم تفارق صورتها مخيلته يوماً .

 

المراجع:

-أعلام ومبدعون " عبد الغني العطري "

-موسوعة أعلام سورية في القرن العشرين ج1

-صحيفة تشرين السورية تشرين الثاني 2003

-فهارس مكتبة الأسد الوطنية