"حيدر يازجي".. تعلية جمال الواقع

"حيدر يازجي".. تعلية جمال الواقع

كمال شاهين

الأربعاء 22 تشرين الأول 2014

لواء اسكندورن

لا شك أن أحداً ممن شاهدوا لوحة "بانوراما حرب تشرين التحريرية" إلا وتساءل عن قدرة الفنان العالية على رسم كل هذه الانطباعات، وهذه المشاهد البصرية في جدارية واحدة تعد اليوم من علامات ذاكرة تلك المعركة.

صاحبُ هذه الجدارية المميزة هو الفنان السوري الراحل "حيدر سليمان يازجي" (1946-2014) ابن مدينة "أنطاكية" في" لواء اسكندرون" السليب، وقد اشتغلها بعد حرب تشرين التحريرية لتكون ذاكرة بصرية عالية الدقة لمشاهد من تلك الحرب التي سطرت فيها أروع ملاحم البطولات السورية.

ومع دراسته لأحدث أساليب الفن العالمية إلا أنه بقي محافظاً على وفائه للرسم الواقعي، فكان من فنانيه المبرزين، عدا عشقه الأبدي للتصوير الزيتي الذي أبدع فيه إيما إبداع، الفنان الراحل من خريجي الدفعة الأولى لمعهد الفنون التشكيلية في "حلب"، درّس في مدارس "حلب" ليكمل دراسته في جامعة "دمشق" عام 1969، ويفوز بجائزتين عن أعماله: الأولى لطلاب الجامعة السورية "جامعة دمشق"، والثانية جائزة معرض طلاب وخريجي مراكز الفنون التشكيلية بـ"حمص".

في حديث مع مدونة طن “eSyria” بتاريخ 19 تشرين الأول 2014، تحدث الفنان "جورج ميرو" رئيس فرع اتحاد الفنانين التشكيليين في "الحسكة"، ويقول: «امتاز الدكتور "يازجي" بطيبة أخلاقه وأناقته في التعامل الشفاف مع الجميع، كان قريباً من كل الفنانين بكل مزاجياتهم، يحضر كل المعارض على اختلاف مستوياتها الفنية، دعمَ الفنانين في كل المناطق السورية خاصة الشرقية بسبب بعدها عن المركز، فكثيراً ما عمل على مشاركة أهل الفن في المنطقة الشرقية في معارض العاصمة، وما لا ينسى له مساهمته القيمة في بناء اتحاد التشكيليين في محافظة "الحسكة"».

ويضيف: «في لوحاته خاصة لوحة "بانوراما عن حرب تشرين التحريرية"، روح "سورية" دافقة دوماً برؤية الواقع وتعلية جمالياته، فنياته قريبة من الفن الروسي لكونه خريج "روسيا"، ملحمته تلك  لا تنسى أبداً».

يقول الفنان الراحل في حوار له مع "ميرو" قبل رحيله: «بعد تخرجي في كلية "الفنون الجميلة" تم ترشيحي لبعثة إلى "روسيا"، كانت لدي الفرصة لدراسة أكثر من اختصاص وكنت أعمل ما بين 15 إلى 17 ساعة يومياً، وحصلت على ماجستير في "إخراج الديكور السينمائي والتلفزيوني"، وبنفس الوقت ماجستير في "التصوير الزيتي"، وكنت من محبي كلية "الرسوم المتحركة" لذلك كانت أطروحة الدكتوراه حول "وضع أول قوانين حركة لأفلام الكرتون"، ووضعت سلسلة كيف يمكن أن تحرك الأجسام؟ وقد اعتمدت هذه الأطروحة ككتاب يدرّس في معهد السينما على اعتباره أول كتاب يشمل جميع قوانين الحركة للرسوم المتحركة».

أثناء إقامته في "روسيا"، درس في المعهد العالي للفنون السينمائية في "موسكو"، وحاز شهادة دكتوراه فلسفة في العلوم الفنية باختصاص أفلام رسوم متحركة عام 1981، وقدم الراحل أثناءها اثني عشر معرضاً برز فيها تأثره بالفنانين العالميين حيث قضى وقتاً في دراسة أعمالهم، إلا أنها لم تخلُ من بصمته الخاصة، وقد أعاد الراحل عرضها بعد عودته إلى الوطن في معرض ضم أكثر من 600 عمل.

أقام في العام 2005 معرضاً في صالة معارض المركز الثقافي الروسي مثل خلاصة لاتجاهاته الفنية التي بقي مصراً فيها على الرؤى الإنسانية في الرسم والتصوير الزيتي، ويقول "يازجي" عن ذلك: «عندما يرسم الرسام أي لوحة لا بد أن تحرضه مشاعر من الداخل تربطه بهذه اللوحة، فـ"البورتريه" ليس مجرد صورة فوتوغرافية، إنما تعكس قصة أو حدثاً غير جامد، وعلى الفنان الدخول إلى العالمالداخلي الذي يعكس هذه الأبعاد على الوجه أو الجسم أو حركة اليدين "للبورتريه"».

عمل "يازجي" بعد عودته أستاذاً محاضراً في كلية "الفنون الجميلة"، ثم مديراً لمهرجان "المحبة" الثاني، ومديراً لمهرجان "الأغنية السورية" الأول الذي حمل اسم "أورنينا"، لينتقل بعدها إلى التلفزيون السوري مديراً للعلاقات العامة، ثم في عام 2000 نقيباً للفنانين التشكيليين في "سورية" حتى وفاته في التاسع من هذا الشهر. ‏

قدم الفنان خلال رحلته عدداً مهماً من اللوحات التي تركت أثرها في عالم الفن السوري، فقد كانت واقعيته تنبض دوماً بالحضور الإنساني والأحاسيس المرهفة الناعمة، فدماثته وخلقه الطيب وحضوره الهادئ دوماً كانت جزءاً ليس من شخصيته فقط، بل من أعماله الفنية والضوئية، وكان واضحاً أيضاً تأثره بالانطباعية ولكن لتظهر في صيغة تأثيرات مغلفة بأسلوبه الواقعي الذي لم يتخل أبداً عنه.

يقول الإعلامي "سامر محمد إسماعيل" عنه: «تميزت ريشته كفنان بنمط خاص، فقد أبدع في رسم الأشخاص بمقاساتهم الحقيقية أو القريبة من الحقيقة فهو يجسد التفاصيل الصغيرة بعبقرية وعفوية وإحساس بأن الأشخاص المرسومين يتحركون، وأقام العديد من المعارض الفردية وشارك في العديد من المعارض الجماعية، وتنوعت أعماله بين "البورتريه" والطبيعة والتوثيق».

ويضيف: «اشتهرت أعماله بصبغة واقعية، فاللوحة لطالما كانت بحسب رأيه عرضةً للمرور في "مخاض إبداعي" قبل الوصول إلى مرحلة التنفيذ، ليأتي الفنان برؤى جديدة، كما فعل "يازجي" في لوحة "بانوراما حرب تشرين"، التي كان يعتبرها شيئاً أساسياً في حياته الفنية التي قدم عبرها عشرات الجداريات والمنمنمات، وحاز العديد من جوائز التقدير داخل "سورية" وخارجها».

أما الناقد الفني "معد استانبولي" فيقول: «فنان واقعي مميز بأسلوبه، وقارئ ممتاز لملامح الوجه، ومؤلف فاعل وهادف في تكوين اللوحة، وفنان تفصيلي دقيق يفصل مفردات اللوحة بدقة ومن ثم يرتبها وفقاً للفكرة ووفقاً للمزاج الشخصي، ويعرف كيف يبدأ وأين ينتهي، وكيف يمد خطوطه الانسيابية القوية، وكيف يتعامل مع حساسية اللون، وهذا الرأي تؤيده تجربة الفنان وخبرته ويؤيده أغلب النقاد».

رحل الفنان بعد وقت قضاه مبتعداً عن علاقاته وأصدقائه يصارع فيه المرض برفقة شريكة حياته الدكتورة "سلوى أنطون عبد الله"، مخلفاً ثلاث بنات هنّ: "لواء"، "ريم" و"ربا".