"عبد الكريم اليافي".. بحث عن الكمال وحثّ على الوضوح والإبداع

  "عبد الكريم اليافي".. بحث عن الكمال وحثّ على الوضوح والإبداع

علاء الجمّال:

الرجال العظام لا ينحصرون في مجال واحد من مجالات الحياة، بل هم كما يقول "فولتير": "من وفروا السعادة للبشر، وهدوا الناس سبل الحرية، ودعوا إلى ما يحقق المثل الإنسانية العليا"..هذا بعض مما ما دعا إليه المفكر السوري الراحل "عبد الكريم اليافي" عبر بحوثه ودراساته، في الأدب العربي والقرآن والفلسفة العامة وعلم الأخلاق والجمال والنفس؟

للمضي في عوالم المفكر السوري حاورت الدكتور "عادل الفريجات" في 11/10/2008 بمنزله الكائن في منطقة "الخبراء الروس". وهو باحث في التراث وناقد أدبي، ومدرس في "جامعة دمشق"، وله 400 بحث علمي ودراسة، ورافق العلامة "اليافي" في العديد من سني عمره وإنجازه، وكان الحوار التالي:

"عبد الكريم اليافي" في منظور الأدب والفكر الحديث؟

الدكتور "عبد الكريم اليافي" علامة عربي سوري، معرفته ذات صبغة موسوعية، وتكوينه عبر أفقها المعرفية يشبه تكوين علماء وأدباء العرب القدماء مثل "الجاحظ وأبو حيان التوحيدي، وأبو الفرج الأصفهاني" وغيرهم..

عرف عن "اليافي" براعته في علوم اللغة العربية والفقه، ما تصورك لذلك؟

ولد الراحل في "حمص" عام 1919، وتعلم هناك على يد شيوخها وأساتذتها فحذق منهم علوم اللغة والقرآن  والنحو والصرف وكثيراً من مبادئ المعرفة العامة وغير ذلك، فهو من أسرة تحب العلم وتفتح بيتها لرجاله، وكان اسمه دوماً في لوحة الشرف خلال المراحل الدراسية التي أمضاها في "سورية". لقد تمتع بذاكرة قوية جداً وذكاء لماح، متواضعاً، يصغي لمن هم أكبر منه سناً ويتعلم منهم ما يرى فيه غنىً لمعرفته. 

ماذا عن سفره إلى "فرنسا"؟

أوفد "عبد الكريم اليافي" ببعثة إلى "فرنسا" لدراسة العلوم الطبيعية في جامعة "السوربون"، بعد قرابة سنتين قضاهما هنا في دراسة الطب، لكنه تخلى عن ذلك إثرَ قدوم البعثة إليه قبل الحرب العالمية الثانية، وفي إحدى محاوراته وصف قسوة الحياة والعيش في "باريس" أثناء الحرب، ومن جانب آخر كان مترجماً، فقد تتلمذ على يد الغربيين ومعرفته واسعة باللغات الأجنبية. 

وبعد عودته إلى "سورية"؟

 حاز "اليافي" في "فرنسا" على إجازة في الرياضيات عام 1940، ثم إجازة في الآداب عام 1941، وصار دكتوراً في الفلسفة منذ العام 1945، وبعد عودته إلى "سورية" مارس التدريس في "حمص" وفي قسم الفلسفة في جامعة "دمشق" وصار خبيراً في علم السكان، وانتخب عضواً في مجمع اللغة العربية "بدمشق" وفي هيئات دولية مختلفة، وتسلم رئاسة تحرير مجلة "التراث العربي" الصادرة عن الاتحاد الكتاب العرب منذ العام 1981، واستمر رئيساً للتحرير لأكثر من 50عدد فيها، وأجرى دراسات علمية في أكثر الأعداد التي أًصدرها، وبعض دراساته جمعها في كتاب ونشره "بدمشق"، وقد تعدّت مؤلفاته 15 كتاباً أذكر منها: "الفيزياء الحديثة والفلسفة" عام 1951، "المجتمع العربي ومقاييس السكان" عام 1963، "تمهيد في علم الاجتماع" عام 1964، "تقدم العلم" عام 1965، "فصول في المجتمع والنفس" عام 1974، "معالم فكرية في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية" عام 1982، "جدلية أبي تمام" عام 1983، و"معجم مصطلحات التنمية الاجتماعية في العلوم المتصلة بها، و معجم هام صدر في "القاهرة" بعنوان "المعجم الديمغرافي المتعدد اللغات".

له مؤلفات في "الأدب العربي"؟

كان للعلامة "اليافي" كتابات هامة في ميدان الأدب العربي، وهي "دراسات فنية في الأدب العربي" أجراها عام 1963، و"الشموع والقناديل في الشعر العربي" عام 1964، والقلة ربما من الناس تعلم أنه كان شاعراً أًيضاًُ ومن يتتبع مقالاته في مجلة "التراث العربي" يقع على قصائد كثيرة له كان يختمها بها. أما معرفته بأسرار اللغة العربية فتشهد عليها موضوعاته، التي نشرها في مجلة "مجمع اللغة العربية بدمشق"، وهنا يحسن بنا القول: أن كل ما كتبه الراحل يعدّ مهمة علمية جديرة بالرعاية والاهتمام.

رجل يحترم الحقيقة وتراث أمته

من تلك القصائد ماذا تذكر؟

أذكر قصيدة عارض فيها "إبن سينا" في بعض مقالاته، وهي متعلقة في النفس الإنسانية. قال فيها

مهما بلوت النفس بالتحليل       لم تحصل على حل أكيد مقنع

سرٌّ من الأسرار أعيا فهمه         من شئت من طبًّ ومن متنطع

قل للرئيس مقالة من واثق         بجوابه من علمه المتنوع

النفس تبذل وسعها في سعيها        نحو الكمال الشاسع المتمنع

والحق أن هذا البيت يرسم توجهات "عبد الكريم اليافي" في حياته وعلمه، فقد كان يسعى دوماً إلى الكمال الممتنع، وذلك يدلنا على نزعته القوية للإحاطة بالعلوم متباينة ومتباعدة، فهو يغرف من بحر العلوم الأساسية ويطوف في عوالم العلوم الإنسانية، إنه بحق عالم الأدباء وأديب العلماء.

تحلى الراحل بآداب وسمات خلقية حسنة فضلاً عن ذلك كان عالماً متديناً، ما أسمى آدابه برأيك؟

كان متديناً وأصدر عدداً خاصاً "بالتراث العربي" وفي الشريعة بوقت لم تكن فيه "سورية" مؤهلة لهذا الشيء، إنه رجل يحترم الحقيقة ويتراجع عند وقوعه في الخطأ، هو ابن لحضارة أمته وتراثها. في إحدى المرات كتب في دراسة أجراها أن "حنين ابن إسحاق" تتلمذ على  يد "الخليل ابن أحمد الفراهيدي"، ولأنني أعلم تاريخ وفاة هذين العالمين نبهته أن "حنين" لم يلتقي "بالخليل الفراهيدي" وبالتالي لم يتتلمذ على يديه وهذا الكلام كان بيني وبينه فقط، لكن نتيجة حبه للعلم والحقيقة دفعه ذلك لأن يكتب اعتذاراً بحجم صفحة كاملة من أحد أعداد مجلة "التراث العربي" مشيراً إلى أن أحد محبين التراث قد نبهه إلى خطأ القول، وهذا دليلاً على تواضعه وحبه للحقيقة واحترامه للدقة والموضوعية.

تواضعه لم يمنعه من الاعتداد بنفسه

وكان للمفكرة الثقافية لقاء مع الفيلسوف "أحمد برقاوي" دكتور ومحاضر في  كلية الآداب "بدمشق"، استوضحت منه بعضاً من سمات الراحل في حياته العلمية، حيث قال: «كان "اليافي" متميزاً عن أقرانه بسعة العلم من جهة والتواضع الجم من جهة ثانية، تواضع لم يمنعه من الاعتداد بنفسه وشعوره أنه علم من أعلام الحياة الآكادمية في الوطن العربي، وحتى تخرجنا كنا ننشيء علاقة حميمة بمقرراته ومعه نفسه».

وأضاف: «"اليافي" آكادمياً كان حجّة بعلم الاجتماع وتاريخ، وكتابه الذي قرر للتدريس بعنوان "تمهيد علم الاجتماع" كان سفراً يرصد تاريخ علم الاجتماع والفكر الاجمتاعي منذ أهل "اليونان" وحتى آخر مدرسة معاصرة من هذا العلم أن ذاك، فلغته العربية سليمة وأسلوبه العربي مبين بحيث لم نكن نجد صعوبة في قراءة هذا السفر بل كنا نستمتع ونحن نقرأه، ومن حسن حظنا أننا تتلمذنا على يديه في علم السكان، وكان كتابه في "علم السكان" هذا الآخر حجّة في هذا العلم، والأهم أن كتابه "تقدم العلم"، والذي هو تاريخ العلوم ومنطقها ومشكلاتها ما زال فريداً في مكتبتنا العربية.

 وقال "برقاوي" حول أسلوب الراحل في التعليم: «حبب "اليافي" إلينا العلم في كل جوانبه المعقده، ولا ننسى محاضراته العميقة التي ألقاها علينا في علم الجمال، وبخاصة كتابه الذي قرأناه بنهم شديد "دراسات فنية في الأدب العربي"، حيث كنا نتشوق لمعرفة المذهب الإبداعي والاتباعي لنتعرف على فن الباروك والقيم الجمالية الحديثة التي اقترحه في الحلاوة والروعة والجمال والحسن.. وكأنه أراد أن يعطي هذه المفاهيم دلالاتها الكلية العامة، انطلاقاً من التاريخ العربي ذاته».

وأضاف: «كان "اليافي" مشدوداً إلى إرثه الأدبي والفلسفة العربية وبخاصة إلى التصوف، ولهذا استحق وبجدارة لقب الأستاذ العلامة ولأنه لا  يهجس إلا بالعلم والمعرفة فقد أمضى نصف قرن من الجامعة دون أن يستلم أي منصب إداري إذ أنه  رفض أن يشاركه العلم عمل آخر، الراحل سيبقى في أنفسنا رمزاً للنزاهة  العلمية والشخصية».

في سطور

شغل "اليافي" منصب خبير أول لدى "الأمم المتحدة"، وهو عضو المجلس الأعلى للآثار في وزارة الثقافة "بدمشق"، وعضو جمعية البحوث والدراسات العلمية، حصلعلى عدة شهادات في الدراسات الفلسفية العليا: "علم النفس العام، وفلسفة الجمال، وعلم الفن، والمنطق والفلسفة العامة، وتاريخ العلوم وفلسفتها، وعلم الاجتماع والأخلاق".