"مصطفى علي":الأسطورة تخلق الفكرة وقراءة اللامتوقع

"مصطفى علي":الأسطورة تخلق الفكرة وقراءة اللامتوقع

 علاء الجمّال :

"مصطفى علي" نحات سوري، ولد في "اللاذقية" عام  1956، وتخرج في كلية الفنون الجميلة "بدمشق" عام 1974، ومن أكاديمية الفنون الجميلة"كرارا ـ إيطاليا" عام 1996، وهو العضو في نقابة الفنون الجميلة واتحاد التشكيليين العرب في "سورية"، وله 12 معرضاً فردياً ومشاركات في معارض دولية ومحلية، كما أنه حاصل على جوائز مختلفة.

يعرف عن النحات "علي" تنوعه الإبداعي و بحثه المستمر في الخامات والتقنيات الفنية، ومقدرته في تحريض ذاكرة المتأمل على استكشاف أعماله النحتية وقراءة دلالاتها ومعانيها الفلسفية والمعرفية،  والعمل على تنمية الثقافة البصرية في تذوق الشكل والإرث التاريخي.

للدخول في عوالم النحات الفكرية زارته المفكرة الثقافي في مقرّه جمعية "المكان" في "دمشق القديمة"ـ حارة "اليهود" في 23/8/2008، وأجرت معه هذا الحوار:

ــ أوجز لنا ملخصاً عن مدارس النحت في العالم، والمذهب الذي تعمل عليه؟

اختلفت اتجاهات النحت في الأزمنة الأخيرة، وأصبح جزئها الأكبر شخصياً يتجه به النحات حسب إبداعه، ومنها مدارس عديدة "الانطباعية والتكعيبية والتعبيرية والواقعية والتجريدية"، أما الاتجاه الشخصي فهو الأكثر خصوصية، والعمل النحتي لدي ينتمي إلى "الواقعية التعبيرية"، التي بدأت تنحو إلى "الرمزية" عبر الإشارة والشكل، وهذا سنراه في أعمالي الجديدة المعتمدة على علاقة الأرض بالسماء، والإنسان بالوجود.

ــ ما هي الخامات التي عملت بها في النحت؟

عملت بخامات متنوعة "الرخام والحجر والحديد والصاج والبازلت والغرانيت و والرخام والسيراميك والفخار"، جميعها مواد مفتوحة لتحقيق أفكاري،  والفكرة تبحث عن المادة المناسبة لتحقيقها.

ــ لك محاولة مع حجر البازلت؟

 لي تجربة مع مادة أقرب إلى "البازلت" وهي الحجر الأسود العفريني، رائحته مثل رائحة البارود قاسية جداً، وفي "إسبانيا"  عملت مع حجر أسود اسمه "مارك وينو"، أما "البازلت" فقد أذبته وشكلت منه أعمال فنية.

ــ أشار أحد النقاد العالميين إلى أن خامة "الخشب"، أكثر قدرة على التوحد مع نفس الفنان؟ ماذا يوحي إليك ذلك؟

الخشب" خامة تشبه الجسد، فيها روح ودفء وحنان، وهي قابلة للتغير و الدمار، كما الإنسان.

ـــ ما الذي يغذي عناصر الإبداع لديك؟

الواقع والخيال والإرث المعرفي واللاشعور.

أسطورة وامتداد روحي

ــ تعدّ أعمالك النحتية تطوراً فلسفياً،  يأخذنا إلى الأسطورة والميثولوجيات القديمة، كيف تقرأ هذا الجانب؟

تركزت تجربتي على تراثنا التاريخي القديم، المحمّل بالأسطورة والمعنى الذي يخلق الفكرة أو قراءة الشيء اللامتوقع، والحقيقة أن التراث أساس لانطلاق تجربتي، المتمثلة بمسألة الخلود والتواصل مع الامتداد الروحي، وعلاقة الأرض بالسماء..هذا انعكاس طوّر أعمالي، لاسيما عندما دخلت خامات ثانية مثل "النحت البرونزي"، وأحدثت منعطفاً بالنحت نتيجة التأثر بحضارة "تدمر" وغيرها من الحضارات "السورية" بحيث تطورت بعض الأعمال النحتية إلى محور شاقولي يمتد نحو  الأعلى، كما الأعمدة الأثرية، وكوني نحاتاً يهمني من ذلك  الشكل الفني وتأثير المعنى عليه، بحيث تأخذ صورة الشكل مواضيع جديدة الطرح، ممكن أن تضيف منعطفاً آخر في تاريخ الفنون.

ــ تضع منحوتاتك في قالب خشبي شبيه بالتابوت الفرعوني أو الناووس الفينيقي، ما دلالة ذلك ؟

إن موضوعي الخلود وثبات الإنسان في لحظة ثابتة ضمن فضاء مهيكل على شكل ناووس يدل على حالة سكونية، تجعل حضور الشكل موحياً بالغياب، وعندما أخذ اللحظة الثابتة في التكوين، وهي شبه لحظة الموت أو الخروج عن الموت إلى الاستمرارية، فإنه يمس الخلود والثبات.   

"الفراعنة المصريين" عندما بحثوا عن الخلود، جرّدوا الإنسان من الأشياء المادية القابلة للزوال وعملوا على ثباته وخلوده،  وأنا عملت على ذات الفكرة وأضفت عليها أثر الإنسان الذي يتركه ويستمر.

ــ تبدو الطبيعة في تجربتك النحتية محتجبة بالصمت والصوفية، وكأنها تترقب ميعادها الأخير،ما وصفك لهذا الإيحاء؟

الصمت سمة الفراغ، والإنسان عندما يجد نفسه محاطاً بالصمت يصبح الفراغ حوله أشبه برحم الكون، وهي حالة تواصله مع محيطه، وفي أكثر الأحيان يلجأ إلى الفراغ ليحمي نفسه ويتواصل مع الهدوء والفضاء غير المنتهي، وأحياناً  يصعب عليه ذلك فتخرج عن إرادته حالتين متناقضتين، الأولى الرغبة في الانطواء والانكفاء، والثانية الانعتاق التأملي والتخلص من الضغوط الفكرية الدخيلة من الواقع، ونلاحظ أن هذه الحالة تحثه للوصول إلى أمرين الانهيار أو الصعود..هذا ما يخلق التجارب في العمل النحتي التي تدخل إلى العمق الصوفي من خلال الشكل والحالة والموضوع, من هنا أعمالي قابلة للتخاطب والتحاور وقادرة على خلق حالة تواصل وتأمل بينك وبينها.

الحزن النبيل

ــ تختزن الحزن النبيل في ملامحك الأمر الذي انعكس على أعمالك بصورة واضحة، ما حقيقة هذا التوحد؟

أي شيء تراه عينيك يثير الحزن أكثر مما يثير الفرح، لأن الفرح لحظة عابرة والحزن عميق ومتجذر في النفس، وعالمه الأسود يغلب على الأبيض، لكنه قادر على اختراق سواد الواقع بطريقة مثلى، فتاريخي معه طويل.

ــ ما رأيك في المشهد النحتي السوري؟

 بدأ المشهد السوري بعد انقطاع طويل، وبات له حضوره  بدءاً من المجموعات الخاصة وصولاً إلى الأماكن العامة،  مما يدل ويؤكد على أن هناك مجموعة لا بأس بها من النحاتين أثبتوا حضورهم في الساحة الفنية من خلال تكريس تجربتهم للبحث والتميز سواءً بالأسلوب أو بالمواد المطروحة.

ــ زرت بعض دول العالم، ما هي الظاهرة التي صادفتها وأحدثت تأثيرا عميقا في ذاكرتك؟

زرت "الولايات المتحدة ولندن وباريس" ورأيت تجارب النحاتين المعاصرة، وشعرت بالخواء الفكري والفراغ الذي تعاني منه الحضارة العربية، والزمن الحاضر، فالاهتمام هناك كبير من رعاية للفن وجذب للحضور، إن المشروع الفني يلامس الحرية الإنسانية، ويجعلك تعيش في تفاصيلها، و يساعدك على التحرر والشعور بهول ما سيحدث في حاضرك لو أنك صرت إليه، فهو حالة وموقف يخلقان نوع من التساؤل، ماذا يحدث؟ أو ماذا سوف يحدث؟ هل هو مؤشر للخطر أو النبوغ المرتبط بالحدس. 

مشروع باريس

ــ دعنا نلقي الضوء على مشروع "باريس"، الذي أقمته مؤخراً والنجاح الذي حققه؟

مشروع "باريس" نجاح على الصعيد الشخصي والوطني يعكس صورة "سورية"  الحضارية وزمنها الراهن. جسّد العمل الوجود الإنساني والرمز العائد إلى الإرث التاريخي في "سورية"محور العطاء والمحبة، إنه بمثابة رسالة  انطلقت من "الشام" لتعمّ العالم أجمع.

أما المشاركة فقد أتت عن طريق إعلان قدمه المعهد العالم العربي "بباريس" إلى سفراء العرب لدعوة الفنانين إلى مسابقة عالمية يقيمها وأتتني الدعوة عن طريق مديرية الفنون الجميلة "بدمشق" وبعض الأصدقاء من الخارج، فشاركت وحصل عملي على المركز الأول.

وتدور فكرة العمل حول ورقة طويتها 36 طوية شكلت 36 قطعة متساوية الأحجام، فردتها ورسمت عليها إشارات ورموز تاريخية بطريقة "مصطفى علي" ثم عالجت الفكرة وحولت الورق إلى مادة قاسية صلبة وهي "الفونت" الحديد السائل المذوب بالنار، شكلته بقوالب مقاومة للحرارة العالية مما كان  سبباً في إنجاحه من حيث الفكرة والمادة، يبلغ طوله 6متر وعرضه 6 متر، وزنه 4 طون، وإنجازه استغرق 6 أشهر، والمميز أنه  أخذ موقعه النهائي على سطح معهد العالم العربي "بباريس".  

ــ عملت نصباً تذكارياً في العالم وهنا في "دمشق"، ماذا عنها؟

أقمت نصباً تذكارياً في "فلانسيا بإسبانيا"، أسميته بوابة "أوغاريت"، ويتألف من بوابة معدنية وحيوان ميثولوجي  يقف على رأسها، كنوع من التواصل الحضاري مع العالم، وأجدادنا "الفينيقيون" عندهم هذه الرسالة، وأنجزت نصباً آخر اسمه "برج الذاكرة" مشغول بالحديد المصبوب، يعطي فكرة عن ذاكرة الناس الذين أثروا في حياتنا ويعرض الآن في معرض "دمشق" الدولي، ولدي أعمال أحتفظ بها  مثل تمثال "الغوطة" يبلغ طوله المترين، وهو رمز لتأثير الإنسان على البيئة ومنعكس البيئة عليه كإنسان، إنها حالة  الدمار التي أوجدها في الطبيعة،  وهناك العديد من النصب الأخرى في دول مختلفة مثل "دبي ومسقط وبرلين".

إرث ميثولوجي

حول أعمال النحات السوري، قال الدكتور "أسعد عرابي" فنان تشكيلي وباحث في علم الجمال:«غالباً ما يضع "مصطفى علي" منحوتاته في علبة لغزية متطاولة أقرب إلى عمارة "التابوت الفرعوني" أو "الناووس الفينيقي"، يتناسخ الشكل الذي يحدده ربما من ذاكرة القواعد الأبدية قي الهياكل المدفنية كما هو في "تدمر" أو إيحاءً من الخيال».

وأضاف:يمنح "علي" أعماله علاقة شائكة تحمل صيغة تعبيرية مأزومة، فتعلقه بمفردة التابوت في نسبها المتطاولة، يدفع أحياناً لنحت الهياكل الآدمية بوضعية أفقية  أو يضعها  داخل قفص زجاجي في طريقة عرض المومياء في واجهات المتحف، كما هو مرقد الملك الفرعوني "توت عنخ آمون".

وقال "عرابي" حول التنويع الإبداعي لدى "علي" :«تمتلك أزاميله القدرة على السفر الإبداعي والتجوال الحر بين الشرق والغرب، تقطف من أزاهير محترفاته ما شاءت لها ذائقته، ثم تعود إليه محملةً بالأفكار والإيحاءات ليعمل على استحواذها وتشكيلها من جديد  لتصبح عملاً نحتياً أكثر تأثيراً بأبعاده الحسية و الجمالية».

أما الفنان التشكيلي "طلال معلاّ" باحث في الجماليات العربية المعاصرة، قال:« يؤكد "مصطفى علي" خصوصية تماثيله بإعلاء شأن ذاتها الفكرية والفلسفية والتقنية وهو يسعى إلى ذخيرة حضارية "رافدية ومتوسطية"  تعيد صياغة أفكاره الرئيسية على هيئة المصقول من الإرث الميثولوجي، الذي ما زال يعبق في التوازنات الروحية والنفسية لشعوب هذه الجغرافيا، التي يعيد الضوء حيويتها واستمراره».

وأضاف: لم تزل صفة التجريب والبحث ملائمة لرؤيته كنحّات خصوصاً طريقة معالجته للفكرة وجعلها في مقامها الأخير.