‍ "فوزات زهر الدين" .. شاعر المناسبات

 ‍ "فوزات زهر الدين" .. شاعر المناسبات

ضياء الصحناوي

بعد رحلة طويلة مع الشعر العمودي تقارب النص قرن، أخذ الشاعر "فوزات زهر الدين" نفساً عميقاً قبل أن يقدم على إنجاز مولوده الأول الذي أطلق عليه "عشق الحروف"، وهو في فورة  الفرح الغامر تتسلل كلمات النقاد لتجد صداها بين السطور، فمنهم من انتقد الشكل، ومنهم من انتقد الطريقة، ولكن الشجاعة في الاعتراف بشاعريته بقيت كما هي.

 الكاتب والناقد المعروف "محمد طربيه"  في لقاء خاص للمفكرة الثقافية بتاريخ 18/2/2014 تحدث عن ميزات وهنّات الشكل التقليدي للقصيدة   عند "زهر الدين"، فقال: «لا يعدو الشاعر "فوزات زهر الدين" إلا في مضمار أوزان "الفراهيدي"، ولا يسبح إلا في بحوره وقوافيه، وتحمل قصائده ميّزات ذلك الشكل وجمالياته، مثلما تحمل أيضاً عيوبه وهنّاته، ولعل من المتفق عليه أن جماليات ذلك الشكل وميّزاته تتمثل في جزالة الألفاظ والتراكيب وقو الطالع وجودة السبك وحلاوة الجرس وسحر القافية، كما أن العيوب والهنات تتمثل في تكرار المعاني والصور، والمباشرة والخطابية والوضوح، وأخيراً في عيبي الترهل والنظم. ومن هنا نحن واجدون لكل تلك المزايا والعيوب شواهد واضحة الدلالة بيّنة الإشارة في شعره، على أنه يمكن للقصيدة الواحدة أن تكون مثالاً على أكثر من مزية أو عيب أو أن تكون في أبياتها شواهد على ذلك العيب وتلك المزية كما في قصيدة العلم على سبيل المثال:

أهوى جوى سبك الكلام المحكم       يهدى إلى عقل الحصيف الأكرم

فاصفح إذا ما جاء شعري ساذجاً          أو حائراً كالنجم بين الأنجم

فالمرء يكبر بالمحبة والتقى              والمرء يدفن نفسه إذ يحجم

ويتابع "طربيه" عرضه في تشريح قصائد "زهر الدين" التي حملها ديوانه الأول: وفي قصيدة تحمل عنوان هدية، فيقول:

وجه ابن آدم آية الرحمن               سر الوجود .... وحيرة الأذهان

أعطاه رب الكون كل فضيلة          أمن الفضائل يشتكي ويعاني؟!

إن السرائر في الوجوه سطورها     والنطق وزن المرء في الميزان

فهاتان القصيدتان يمكن عد كل منهما شاهداً على متانة السبك وجزالة الألفاظ وحلاوة الجرس الموسيقي وسحر القافية التي تتلاءم في مدّها وانفتاحها مع ما يريد الشاعر التعبير عنه من سحبات التأمل والتبصر في الخلق والكون والطباع والألوهة والخير والشر... وقبل كل ذلك فكل منهما شاهد واضح الدلالة على الوحدة المعنوية للقصيدة على الرغم من استقلال كل بيت بمعناه، وبالتالي على قدرة الشاعر في تذويب الأفكار الفلسفية العميقة والخواطر والمشاعر الخاصة في نسيج فني متماسك. وإذا كانت هاتين القصيدتين تمثلان قمتين باذختين في مجموعة شاعرنا فإنه في قصائد أخرى تفاوت واضح في السوية الفنية التي لم يحقق الشاعر فيها عناصر الإمتاع والإقناع كما في قصيدة المقاومة:

آت أنا والشوق ملء كياني                 لأصوغ من وحي الجلاء بياني

طرطوس من بردى الخلود خلودها      وأرى السويدا في ذرا الجولان

في حمص في حلب المكارم خافق         للضاد من يمن إلى تطوان

ردد معي قول الرجال رجالها             يا يوسف الأنوار والنيران

سلطان يا شيخ الجهاد جلالة             صرح البطولة أنت للوجدان...

فهو هنا يركب المعاني تركيباً عقلياً مصطنعاً، ويلحم الأبيات بعضها ببعض، ويحشدها بالأسماء والأماكن والمعارك، ولا يسير في ذلك وفق تدفق عاطفي أو تسلسل جمالي. وهو هنا نظم مصنوع يفقد القصيدة وحدتها المعنوية والفنية، ويجرح  لحمة النسيج الفني وتماسكه بحيث يمكن أن تتبدل مواقع الأبيات دون أن يخل ذلك القصيدة طالما أن المسألة حساب وإحصاء، وما هكذا الشعر».

وفي ما يتعلق بالترهل والهنات في المجموعة الشعرية، أضاف: «كانت المجموعة بمنجاة من الترهل والوقوع فيه، لأن القصائد بشكل عام لم تكن طويلة بل تمتعت بتكثيف مقبول. ولكن ما يلفت النظر هو تنوع الموضوعات وأغراضها إلى حد كبير من المدح إلى الرثاء والوصف والحكمة والتصوف والإخوانيات.. ولكن لضرورات النظم والخضوع للوزن والقافية يلجئ الشاعر في الكثير من الهنات والأخطاء في اللغة والنحو.  ولعل أهم المشاكل التي يعانيها الشاعر الذي يغزل على منوال الأقدمين هو وجود مثال في رأسه ينظم الشعر على شاكلته ويحاكيه فيقع في مطب التكرار. وفي النهاية يبدو لي أن شاعرنا يكون أكثر إجادة في الشعر الفلسفي والحكمة لأنه نابع من خصوصية التجربة».

تأخذ القصائد شكل صاحبها في المعنى والرسم والصورة، ولعل أشعار أستاذ الفلسفة المتمكن من اللغة "فوزات زهر الدين" تشبهه بل تتطابق مع شخصيته، ومن هنا كان للناقد الأديب "حسين ورور" رأيه فيما يبدع، فأكد: «يتميز بالضرب على وتر الشعر الكلاسيكي، والتمسك بالوزن والقافية، ويستمد موضوعاته من الفضاء الوطني والقومي والمحلي (البيئة). فأكثر من قصائد المدح والرثاء، وأجاد بهما إلى ارتياد موضوعات الطبيعة والجمال.. يغلب على شعره اقتحام عوالم الفلسفة الروحانية والمطلق، فجاءت قصائده بما فيها من معان أقرب إلى الصوفية، وبعضها أقرب إلى الرومانسية الرتيبة. لغته متينة السبك، ومفرداتها مألوفة بمجملها، وإيقاعاته ذات رنين محبب ليس فيها الإنزياحات الصادمة، ولا الصور الناشزة. أما الخيال لديه فيستمد فضاءاته من الواقع ومن المحيط ومن معارف وخبرات لا تبتعد كثيراً عن البيئة التي يعيش فيها، والتي تتحول في مشغله إلى الشعر الوجداني. وأستطيع أخيراً القول أنه الشاعر الوحيد في "جبل العرب" الذي تهزه المناسبات، ويفاجئ الجمهور دائماً بقصيدة الموقف، فيلقيها بكل جرأة بعد أن يكون قد حفظها عن ظهر قلب. وأعتقد أنه لو كنا نعيش في زمن الشعراء الجوالين لكان "فوزات زهر الدين" أحدهم، بل أبرزهم».

في ديواني الأول كنت أسبح بزورقي الصغير في بحار "الخليل بن أحمد الفراهيدي"، هكذا تحدث "زهر الدين" عن "عشق الحروف"، وتابع: «أعترف أنني لا أحسن فن العوم. القصيدة كائن حي، دمها الإيقاع والنفحات، وعظامها الحروف والكلمات، وروحها تلك المشاعر الغامرة التي تملأ نفس المتلقي إبان عملية التواصل، إنها تبني علاقات لها سحرها وجاذبيتها، وهي تعبير عن ذات الشاعر وثقافته وشخصيته ورؤاه، فبقدر ما يكون صادقاً محباً لها بقدر ما تخلص له وتحفظ غيبته، وتجدد ذكراه، والقصيدة الجديرة بحمل اسم صاحبها تلك التي يقفز منها الشاعر بروحه من بين كلماتها، فتكون هو بكل ما في الكلمة من معنى، وبهذه العلاقة ترسم القصيدة خارطة حياتها وخلودها في أذهان الناس».