"ميشيل الله ويردي".."فلسفة الموسيقا الشرقية"

"ميشيل الله ويردي".."فلسفة الموسيقا الشرقية"

أحمدالعلي

 ظهر حبه وولعه بالموسيقا منذ صغره، ولم يصل إلى سن الخامسة عشرة من عمره حتى أتقن النوتة والعزف على العود بعد أن تعلم الموسيقا على أيدي "يوسف عمران" و"سيد رحمون"، وقام وهو في تلك السن بتدوين الكثير من الموشحات لحفظها من الضياع، كما تعلم الترتيل في الكنيسة المريمية بدمشق، مما أضاف إلى معارفه الموسيقية الشيء الكثير،وقد ترك بصمة واضحة المعالم في علم الموسيقا، حيث يعتبر من الموسيقيين القلائل الذين دافعوا عن السلم الموسيقي الطبيعي ومن الذين خاضوا في فلسفة الموسيقا وخصها بكتاب قيم.

هو الأستاذ "ميشيل بن المرحوم خليل الله ويردي" من أبناء حي القيمرية بدمشق عام 1904، هذه الأسرة التي تنحدر من أصل تركي واستوطنت دمشق منذ اربعمائة سنة، حيث نشأ "ميشيل الله ويردي" في اسرة جمعت بين العلم والأدب والوجاهة والثراء، وكان والده "خليل ميخائيل الله ويردي" ضليعاً باللغة العربية والرياضيات وعلوم الدين، ويجيد التركية واليونانية ويلم بالروسية، فأشرف على تثقيف ابنه وتربيته، درس "ميشيل الله" الابتدائية والثانوية في المدرسة "الآسية" بدمشق التي كان والده مديراً لها، إضافة إلى تلقيه العلوم على أيدي أساتذة مختصين، ثم درس في معهد الحقوق بدمشق، وبعد تخرجه عمل خبيراً لدى المحاكم، كما عمل في التجارة مع شقيقه "سمعان الله ويردي"، وكان متعدد الهوايات مثل التصوير الضوئي وجمع الطوابع.

كان لـ"ميشيل الله ويردي" دور مهم في النهضة الموسيقية التي شهدتها دمشق في النصف الأول من القرن العشرين، فقد ساهم في إنشاء العديد من الاندية الموسيقية التي حملت على عاتقها مهمة النهوض بالحركة الموسيقية، وساهم في تأسيس أول ناد موسيقي في دمشق، وهو "النادي الموسيقي السوري" عام 1922، وفي نفس العام ساهم في تأسيس "النادي الأدبي" عام 1922، وكان له فيه دور فعال، ومن الأندية التي شارك في تأسيسها وكان له إسهامات فعالة فيها "الرابطة الموسيقية" عام 1932، إضافة إلى العديد من الأندية الأدبية والثقافية التي لم تكن تهتم بالشأن الموسيقي.

كما كان له مشاركات موسيقية محلية وعربية مهمة، ففي عام 1948 ألقى محاضرة هامة في مبنى اليونسكو ببيروت وعنوانها "الموسيقا في بناء السلام" وعقّب المدير العام لمنظمة اليونسكة "جوليان هكسلي" على المحاضرة مبيناً قيمتها وشاكراً المحاضر عليها، وفي عام 1964 شارك في المؤتمر الدولي للموسيقا العربية، وقدم بحثه بعنوان "جولة في علوم الموسيقا"، عرض فيه نتائج أبحاثه في السلم الموسيقي العربي وهرمنة الموسيقا العربية وهو مصطلح موسيقي معرّب، ونظراً لأهمية هذا البحث قامت إدارة المؤتمر بطباعته في كراس، ووزع على المشاركين في المؤتمر.

وبناء على تكليف من المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، شارك "ميشيل الله" عام 1969 في مؤتمر الموسيقا العربية المنعقد بمدينة "فاس المغربية"، وألقى محاضرة بعنوان "شيء عن الموسيقا العربية"، وعقب هذه المحاضرة دعته منظمة "اليونسكو" لتولي إدارة مؤسسة "الموسيقا المقارنة" في "برلين"، فاعتذر لأنه لا يستطيع الابتعاد عن بلده بشكل مستمر، واقترح تأسيس فرع للمؤسسة في دمشق، لكنهم لم يستجيبوا.

وضع "ميشيل الله ويردي" العديد من الدراسات والأبحاث الموسيقية الهامة التي يصب معظمها في موضوع بنية الموسيقا العربية وفلسفتها، ورأى في دراساته تلك ضرورة اعتماد الموسيقا العربية على السلم الموسيقي الطبيعي، لأنه  أكثر قدرة على التعبير عن الأصوات الطبيعية، واستنكر الاستعاضة عن السلم الطبيعي بالسلم الموسيقي المعدل الذي ابتدعه الأوربيون واستخدموه في موسيقاهم، ولم يعتمد "ميشيل الله ويردي" على المماحكات الكلامية في دعم رأيه، وإنما اعتمد على الحسابات الرياضية الدقيقة، ومن هذه الأبحاث دراسة بعنوان "الرياضيات الحديثة في النسبة المتواصلة الموسيقية" و"التجدير على أساس السلم الموسيقي"، واقتصر دراسته على السلم الموسيقي الطبيعي، ومن دراساته الاخرى "السلاسل الفيزيائية للأنغام الطبيعية" كما وضع نحو مئتي لوحة "ميزو كولوجية" تشكل متحفاً هو الأول من نوعه في الموسيقا، وتهدف إلى توحيد الموسيقا عالمياً.

ومن أهم الأبحاث الموسيقية لـ"ميشيل الله" كتابه "فلسفة الموسيقا الشرقية" الذي صدرت النسخة الاولى منه في السابع عشر من آب عام 1948، ويتضمن الكتاب في بداياته كلمة "تقريظية" لوزير المعارف آنذاك "منير العجلاني"، وكلمة أخرى لـ"وجيه بيضون" صاحب مجلتي "الإنسانية" و"كل جديد"، ويقع الكتاب في ستمئة وست صفحات من القطع الوسط، ويتألف من سبعة أقسام تناولت كل جوانب الموسيقا وسلالمها قديماً وحديثاً، وأوزانها وإيقاعاتها وعلامات التحويل فيها وأشكال الكتابة الموسيقية، ونال الكتاب إعجاب المستشرق البريطاني "هنري جورج فارمر" صاحب كتاب "تاريخ الموسيقا العربية" إذ وصف "فارمر" الكتاب بأنه آية المؤلفات العربية من نوعه بلا منازع.

وقبل البدء بكتابة فصول كتابه هذا، قام "ميشيل الله" بجولة شملت العديد من دول آسيا للإطلاع على الموسيقا الشرقية لشعوب هذه الدول ومعرفة خصائصها وسلالمها الموسيقية وإيقاعاتها وأوزانها، حرصاً على أن يكون كتابه شاملاً كاملاً.

وتركز معظم أبحاث الكتاب على الدفاع عن السلم الموسيقي الطبيعي ومهاجمة السلم الاوربي المعدل، فهو يهاجم السلم المعدل، ومما يقوله عنه في كتابه :"عل تشريح هذا السلم وإيضاح ما انطوى عليه من تحريف المراكز الصوتية وهدم النسب الموسيقية التي بنيت عليها سلالم الأمم الغابرة من أحب الأبحاث إلى عشاق الموسيقا العربية"، ويتابع :"فمن الضروري إذن أن نبين لهم كيف جاء، وأي تشويه أصابه".

وفي دفاعه عن السلم الطبيعي يرى "ميشيل الله" أن هناك الكثير من الاختلافات بين موسيقانا العربية والموسيقا الغربية، فالسلم الموسيقي المعدل قسمه الغربيون إلى اثني عشر جزءاً متساوياً لتسهل تأليف الموسيقا أو لتسهيل صنع الآلات الموسيقية، ويرى أن تقسيم السلم الموسيقي إلى اثنتي عشرة درجة متساوية ذهب برونق الموسيقا الغربية.

بينما يرى أن السلم الموسيقي العربي مؤلف من سبعة عشر جزءاً، وهذه الاجزاء غير متساوية، كما كان له آراء معارضة لإقحام العلوم الموسيقية الغربية كالهارموني والبوليفوني في الموسيقا العربية بغية تجديدها، وله رؤية أخرى في تجديد موسيقانا، هذه الآراء جمعها في مقالة بعنوان "التجديد في الموسيقا العربية"، ونشرها في مجلة "الإذاعة السورية"، العدد رقم 97 الصادر بتاريخ السابع من أيلول 1957، وتتكرر هذه الآراء في أكثر من موقع في الكتاب.

وسواء في كتابه "فلسفة الموسيقا الشرقية" أم في أبحاثه الأخرى، يرى "ميشيل الله" أن الموسيقا العربية تمتاز عن الموسيقا الغربية يإيقاعيتها، بينما الموسيقا الغربية غير إيقاعية، وهذا مانع أساسي من الخلط بينهما، ويرى أن الموسيقا العربية دائمة التجديد من داخلها، فقد كان الغناء في القديم قائماً على الليالي والموشح والقصيدة، وفي العصر الحديث جاء الدور والمونولوج والطقطوقة، وفي الموسيقا الآلية كان البشرف والسماعي واللونغا، وهذه جاءتنا من الأتراك، وفي العصر الحديث جاء المارش والرقص والموسيقا الخفيفة.

لكنه من جهة أخرى لا يرى مانعاً من إدخال القوالب الموسيقية الغربية كالأوبرا والسوناتا والسيموفونية إلى الموسيقا العربية، شرط أن تكون ألحانها مصوغة بأنغام طبيعية غير معدلة، كذلك يرى "ميشيل الله" أن التجديد في الموسيقا العربية يكون في مواضيعها وطريقة عرض هذه المواضيع، وهذا مرتبط بموهبة الموسيقي المبدع ومقدرته ومعرفته بالأنغام والموازين ومدلولاتها، وإحاطته بطبيعة الآلات ورنينها ومساحات صوتها ومعاني تدرجاتها بين الحدة والغلظة وغير ذلك من أسرار الموسيقا.

وفيما يتعلق بحاجة الموسيقا العربية إلى آلات كثيرة لتطويرها، يقول "ويردي" إن الكتب القديمة تروي أن العرب اخترعوا آلات موسيقية كثيرة لم تعد مستخدمة، ويدعو إلى إحيائها بدل إقحام آلات غربية إلى موسيقانا، وإن كان لابد من استخدام آلات جديدة، فيجب أن تكون قادرة على أداء الأصوات الطبيعية.

أما العلامة التي يمكن أن تقوم بين الموسيقا العربية والغربية فيراها "ميشيل الله" محصورة في حدود الاقتباس فكما يجوز اقتباس أية قصة أو قصيدة من اللغات الأجنبية وتعربيها كذلك يجوز اقتباس جمل او قطع موسيقية كاملة من الموسيقا الغربية شرط تعربيها أي نقل الأنغام المعدلة إلى الطبيعية ولكن مع الإشارة إلى مصدرها.

 

المراجع

- موسوعة أعلام الادب والفن

- فلسفة الموسيقا الشرقية