يعود المؤلف الموسيقي وعازف البيانو السوري "مالك جندلي" إلى دار الأوبرا السورية بعد جولة عالمية شملت أكثر من ستة دول ليقدم أمسية موسيقية بمرافقة الأوركسترا السيمفونية الوطنية السورية بقيادة المايسترو الروسي "سيرغي كوندراشيف" محتفياً بأقدم تدوين موسيقي في العالم اكتشف في مدينة أوغاريت السورية على رقم طيني قبل أربعة آلاف وخمسئة عام.
وقدم "جندلي" ذاك التوزيع عبر مقطوعة "أصداء من أوغاريت" أعاد من خلالها الربط بين الماضي والحاضر، متناولاً أول المقامات في العالم، ومستجلباً أصداءها التي تتعالى في نغمات بيانو حيوية ومتلاحمة مع موسيقا معاصرة، وتتابعت هذه الرؤية الموسيقية في الموازنة بين المقامات الشرقية والموسيقا الكلاسيكية الغربية، والسعي للمزج بينهما بطريقة أكاديمية، تحافظ على خصوصية تلك المقامات مع مراعاة الهارموني الذي يميز الموسيقا الكلاسيكية.
من الجميل جداً أن تكون موسيقا بهذه السلاسة، ومعاكسة للكثير من الحفلات الموسيقية في سورية التي تصيبك بالملل منذ دقائقها الأولى
حيث تنقل عازف البيانو الشاب بين موسيقا أقرب إلى التصويرية عبر مقطوعة "يافا" المهداة إلى الشعب الفلسطيني، و"أميسا" الاسم الأقدم لمدينة حمص وموسيقا "عيد" ذات النغم الشعبي البسيط مع ملاطفة للفلكلور السوري، ثم معزوفة "أرابيسك" بزخرفاتها الباروكية والتنويعات على الإيقاعات بصورة تزيينية.
ويمزج عازف البيانو السوري في معزوفته "ليل" بين دفء الموسيقا وسلامها إلى ما يشبه الترتيل، قدم بعدها إلى معزوفة "أندلس" التي صهر فيها موسيقا الغرب مع الشرق ضمن محاولة لكسر القيود وإزالة الحدود من خلال العزف بسمات موسيقية عربية لكن على إيقاعات تانغو غربية، ثم قدم "جندلي" "حلم البيانو" مزاوجاً بين قوالب باخ المركبة أكبر الكلاسيكيين الغربيين، ليهدي بعدها مقطوعة "سليمى" لروح جده مقدماً من خلالها تحولاً من الحرف إلى النغم وتبادل العاطفة بينهما.
وقال "مالك جندلي" لموقع eSyrian: «يسعدني جداً تقديم مؤلفاتي وتوزيعاتي الموسيقية في بلدي سورية، بعد أن جبت بها بقاع مختلفة من العالم، أقدم لهم توزيعاً موسيقياً لأقدم تدوين موسيقي على وجه الأرض بحسب ما أثبتت الكثير من البحوث العلمية المتعلقة بذاك الرقم الطيني المحفوظ ضمن المتحف الوطني بدمشق».
ولفت "جندلي" إلى أنها المرة الأولى التي يقدم فيها معزوفاته هذه في دار الأوبرا السورية بمرافقة أوركسترا كاملة، مبيناً أنه يفضل قادة الأوركسترا الروس على غيرهم من الأوروبيين أو الأمريكيين لأنه يعتقد أنهم الأقدر على فهم الموسيقا التي يقدمها، ولاسيما أنها تملك روحاً شرقية ممزوجة بتكنيك غربي في العزف.
وأضاف صاحب "أصداء من أوغاريت" أنه سيكمل رحلته الموسيقية بعد محطته في سورية التي شملت افتتاح مهرجان مار اليان الثقافي بحمص والأمسية هذه بدار الأوبرا حيث سيقدم حفلاً في الجامعة الأمريكية ببيروت ليعود بعدها إلى "حلب" ليقدم حفلاً خيرياً خاصاً لأطفال قرى الأطفال "SOS".
وسبق الحفل كلمة للملحق الثقافي الألماني بدمشق "بيتر آدمز" قال فيها: «إن "مالك جندلي" قدم للعالم الموسيقا السورية البحتة رغم تعدد منابع ثقافته الموسيقية بين سورية وألمانيا وأمريكا، خاصة أنه يستخدم لغة الموسيقا القادرة على إيجاد لحظات ساحرة تلامس كل إنسان بشكل شخصي مهما كان انتماؤه ومستواه المعرفي أو الثقافي».
وأضاف: «سنتمم العلاقة الثقافية مع الشريك السوري، ففي هذه السنة هناك معارض مشتركة للمكتشفات الأثرية، كما أن معهد غوته سيفتتح فرعاً له في حلب، وفي أيار سيفتتح مهرجان إبداعات مشتركة، وفي حزيران أيام الموسيقا السورية- الألمانية».
وأثارت الأمسية الموسيقية التي قدمها "جندلي" سجالاً واسعاً في أوساط الحاضرين، فـ"أدهم الياس" طالب علوم التقنيات في الجامعة الافتراضية السورية قال: «من الجميل جداً أن تكون موسيقا بهذه السلاسة، ومعاكسة للكثير من الحفلات الموسيقية في سورية التي تصيبك بالملل منذ دقائقها الأولى».
بينما رأت "وفاء الشيخ أحمد" أن ما قدمه "جندلي" لم يخرج عن كونه إعادة للحفل الذي قدمه كعازف سولو في دار الأسد للثقافة والفنون بدمشق في مسابقة "صلحي الوادي" لآلة البيانو التي كان عضواً في لجنة تحكيمها، خاصة أنها استمتعت إلى معزوفات ألبومه "أصداء من أوغاريت" على قرص مدمج مع أوركسترا كاملة.
أما "رجاء العاني" مدرسة الموسيقا فتقول: «إن تقنيات عزف "مالك جندلي" هائلة، كما أنه يمتلك إحساساً بالمتلقي عالي المستوى، إضافة إلى أنه يراعي عدم تسرب الملل، لذلك فإن جميع مقطوعاته لا تتجاوز عشر دقائق، بمعنى أنه يستطيع إيصال أفكاره الموسيقية ضمن زمن قليل، وهذا بحد ذاته بحاجة دليل على عمق تفكيره الموسيقي».
وأشار الصحفي "محمد ديب" 43 عاماً إلى أنه رغم جودة الأمسية إلى أن التركيز على هذا العازف زائد عن حده إذا ما قارناه من الناحية الموسيقية والتقنية مع عازفين مهمين في سورية أمثال "غزوان زركلي" على سبيل المثال، لكن يبدو أن "جندلي" يعرف كيف يسوق لنفسه أكثر بكثير من غيره.
يذكر أن جندلي ولد في ألمانيا لعائلة ذات اهتمام وولع بالموسيقا الكلاسيكية وبدأ يتلقى علوم الموسيقا في الرابعة من عمره وكان أول حفل بيانو له على خشبة المسرح في الثامنة كما سبق له أن قدم معزوفات ألبومه أصداء من أوغاريت برفقة فرق موسيقية عالمية في أوروبا والولايات المتحدة وازدادت معرفة الجمهور العربي به بعد إصداره فيديو كليب لمقطوعة حلم البيانو وبثها على بعض الفضائيات العربية.