سبعة وسبعون عاماً، عاشها "محمد كرد علي" حياةً صاخبة، قلقة، حافلة بالتحديات والمتغيرات، وثلاثة أرباع القرن، شكلت ثلاث مراحل من حياة "كرد علي"، وهي مرحلة النشأة والتكوين في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وفي هذه المرحلة برزت شخصيته كصحفي، ومرحلة الشباب والعطاء في الربع الأول من القرن العشرين، ومرحلة النضج، وفيها برز "كرد علي" كعالم مجتمعي ليكون المجمع العلمي العربي عصارة حياته.
وفي هذا الإطار موقع "eSyria" حضر في المركز الثقافي "أبو رمانة" بتاريخ 17/5/2011، ضمن سلسلة "أعلام خالدون"، ندوة عن "محمد كرد علي" أثراها الدكتور "يوسف سلامة".
عرف الأستاذ "محمد كرد علي" بمقدرته البيانية وأسلوبه الكتابي المميز بمتانة العبارة ودقة السبك ووضوح الفكرة، إضافة إلى جهده الكبير في سبيل إعلاء كلمة العرب والعروبة في زمن ساد فيه التخلف والظلام، واستشرى الفساد والانحطاط مادياً وخلقياً وكثرت فيه هجمات العابثين بتاريخ المسلمين والمفكرين من شرقيين ومستشرقين فألف كتباً عديدة في الرد على هؤلاء اتسمت بقوة الموقف والعمق والأصالة والمقدرة على دحض الفكرة التي كان يود أن يطفئ نورها منذ البداية
ونقل لكم الموقع بعض آراء الحضور حول هذا العلامة الذي ترك أثراً واضحاً تجلى في المجمع العلمي العربي الذي هو عصارة حياته وعنوان مسيرته، حيث تحدث الأستاذ "عدنان سالم" قائلاً: «لئن كانت حياة الإنسان التي لا يمكن أن تفصلها عن بعضها فواصل حدية، فإننا سنلاحظ في حياة "كرد علي" أن هاجس المجمع كان شغله الشاغل، حتى إنه وظف السياسة لخدمة هذا الهاجس، فاشترط على الفريق "رضا باشا الركابي" حين كلفه بتأسيس ديوان الترجمة أن يكون له استقلاله الخاص، ما سهل له الانتقال به إلى ما سمي المجمع العلمي العربي بعد ذلك، كما وظف الصحافة لخدمته أيضاً، فأصدر مجلة المجمع العلمي العربي عام 1920 بعد عام واحد من تأسيس المجمع، ولم تنقطع المجلة يوماً عن الصدور على الرغم من اضطرابات الحرب العالمية الثانية حين شح الورق وغلا ثمنه».
أما الأستاذ المفكر "محمود علي" فتحدث عما يخص النهضة الفكرية في مطلع القرن العشرين التي عهدها "كرد علي"، حيث قال: «لم تستأثر "مصر" وحدها بريادة بواكير النهضة الفكرية في مطلع القرن العشرين، بل شاركتها بعض أخواتها من البلدان العربية، بروادها النابهين من رجال الفكر والأدب والإصلاح، وكانت "بلاد الشام" موطناً لنهضة فكرية وليدة تعمل على إصلاح المجتمع وتخليصه مما ران عليه من جهل وتخلف، وتسعى إلى رفعة الأدب العربي، واستعادة ما كان عليه من قوة وازدهار في عصوره الزاهية، وحمل لواء هذه النهضة نفر كرام من زعماء الإصلاح في "الشام"، يتقدمهم الشيخ "طاهر الجزائري" وتلميذه النابه "محمد كرد علي" الذي تابع مسيرة شيخه بخطا واسعة، يدعو إلى الإصلاح والتجديد، ويحارب أهل الزيغ والأهواء، وينافح عن العروبة والإسلام، ويقود الحركة الفكرية في "سورية" في ثقة وثبات، وظل حتى وفاته في حركة دائبة وعمل متصل، لا يعرف الهدوء ولا الراحة، ولا ينقطع عن الكتابة والتأليف».
واللقاء الأهم كان مع الدكتور "يوسف سلامة" الذي أثرى الندوة وأفاض من فضل هذا العلامة "كرد علي" على "سورية" بعلمه ومعرفته، حيث قال: «"محمد كرد علي" من الأدباء الكبار، والكتاب الذين عرفوا بمواقفهم المشرفة إزاء الهجمات الكبيرة التي شنها ضعفاء النفوس ضد اللغة العربية والذين كانوا يستهدفون تقزيمها، وخصوصاً أولئك الذين دعوا للكتابة بالعامية، أو باللهجة المصرية، أو كتابة العربية بالحرف اللاتيني والحقيقة إن هذه الدعوات جميعها قد باءت بالفشل، ولم يتحقق لها النجاح بسبب تلك المواقف النبيلة لأصحاب الفكر المعروفين بجرأتهم وإخلاصهم للغتهم الأم، الذين أوضحوا أبعاد هذه المؤامرة ومراميها البعيدة والقريبة ومن هؤلاء الأستاذ "محمد كرد علي" صاحب كتاب "خطط الشام"».
وأضاف: «عرف الأستاذ "محمد كرد علي" بمقدرته البيانية وأسلوبه الكتابي المميز بمتانة العبارة ودقة السبك ووضوح الفكرة، إضافة إلى جهده الكبير في سبيل إعلاء كلمة العرب والعروبة في زمن ساد فيه التخلف والظلام، واستشرى الفساد والانحطاط مادياً وخلقياً وكثرت فيه هجمات العابثين بتاريخ المسلمين والمفكرين من شرقيين ومستشرقين فألف كتباً عديدة في الرد على هؤلاء اتسمت بقوة الموقف والعمق والأصالة والمقدرة على دحض الفكرة التي كان يود أن يطفئ نورها منذ البداية».
الجدير بالذكر أن "محمد كرد علي" ولد في "دمشق" عام 1876، لأسرة "دمشقية"، وتعلم في مدارس "دمشق" الابتدائية والإعدادية، وفاجأه القدر بوفاة والده وهو في الثانية عشرة من عمره، فلم يمنعه ذلك من متابعة تعليمه.
"محمد كرد علي" أحد رواد النهضة الفكرية العربية في مطلع القرن العشرين، وكتب في المقالة، وقدم الدراسات العلمية الرصينة، وألقى المحاضرات، وحقق المخطوطات، وترجم عن الفرنسية، غير تآليفه التي يذكر من أهمها: "خطط الشام 6 أجزاء، أمراء البيان، كنوز الأجداد، أقوالنا وأفعالنا، غرائب الغرب، المذكرات، غوطة دمشق، دمشق مدينة السحر والشعر، المعاصرون، الإسلام والحضارة العربية.