احتضن مرسم فاتح المدرس معرض الفنّان التشكيلي محمد الوهيبي، المعرض بعنوان (أبيض، أحمر، أسود+ ذهبي) وهي الألوان الرئيسية لواحدٍ وثلاثين لوحة منفّذة بتقنية (الكرافيك: الحفر) وجميعها من مقاسٍ واحدٍ تقريبا (3024)، أما موضوعاتها فهي فسحة للتأمل الإنساني يعبّر محمد الوهيبي من خلالها عن مكنوناته الداخلية بعيداً عن الدخول في دهاليز مدرسةٍ فنيّةٍ بعينها،
هذا ما نراه في الوجوه المتعدّدة ذات الجسد الواحد، وحالة التجاور الاستثنائي بين الكائنات الإنسانيّة وغير الإنسانيّة ذات النظرات المتضادة الاتجّاه، و الكؤوس والأقنعة والكائنات البحرية التي تنتظم على مائدةٍ أشبه بمذبحٍ في معبد، و المرأة الشجرة بكلّ تغصّناتِ وجهها وعيونها الخشبية الملامح. بعد هذه الرؤية التي لا تتعدى حدود الانطباعات الأولية نترك الحديث الوهيبي وهو الأقدر على إعطائنا فكرةً أكبر عن معرضه ( يعتمد عملي تقنيّاً على (الغرافيك) كتقنية استنساخ، ويقترب من التصوير باعتبار أننّي أعمل على السطح لإنتاج نسخة وحيدة، أما بالنسبة لموضوعات اللوحات فجزء منها مستوحى من كلماتٍ مثل" القصّة تسري في عروق السرد، لِتشِمَ على زند الربيع وشمَ أناي.. الأوز يصيح لعقربٍ يستأذن الصيف، ليجفّف عين العين لؤلؤ الأصداف في ليل الخليج". هذه الكلمات لها علاقة بضميري الداخلي ، أفسّرها من خلال التأمل فتوحي لي بأشياء أترجمها بصرياّ على اللوحة، وأحاول من خلالها أن أحكي حكايةّ ما في شكلٍ من أشكال التعبير يتكامل مع اللغة العربيّة المكتوبة بما لكلماتها من دلالات غير مباشرة تعتمد على الحدس . بالإضافة إلى الكلمات هناك الوجوه الذكريّة والأنثويّة التي تتآخى في جسدٍ واحد لتكشف عن أكثر من شخصيّةٍ تسكن الإنسان، وهذه مسألة رمزية ترتبط جذورها لدي بالحنين إلى الماضي، فقد أجد في داخلي كإنسان وجهاً لأبي الذي لم أره يوماً، وهذا ما حاولت إظهاره من خلال الأشكال والألوان . فيما يتعلق بالألوان أنا أميل بشكلٍ عام إلى التقشف اللوني بل أؤمن باللون الوحيد الذي يترجم حسّنا الانفعالي بدون بهرجةٍ أو بذخ، فلون البحر الأزرق لونٌ وحيد تغازله الألوان الأخرى كلون الشمس عند الغروب، هذا ما اعتمدته تماماً في معرضي حيث اخترت أربع ألوان أساسيّة هي(الأبيض- الأحمر- الأسود- الذهبي) يمكن أن تتّحد على نحوٍ ما لتؤلف موضوعاً بالتكامل مع المفردات التشكيلية الأخرى.
اللون الأسود يشير إلى السديم والعدم، أعمل في البداية على المساحة السوداء حيث يعطيني السديم مساحاتٍ تشكليلة أحمّلها كل مكنوناتي الداخلية وأفرّغ من خلالها أحاسيسي، وعندما أكشط اللون الأسود أكشف عن الأشكال البيضاء التي قد تدهشني بحضورها وتشعرني بمتعةٍ لطالما اختبرتها في طفولتي، الأمر أشبه بلعبةٍ طفوليّة أمارسها عن وعي لأقول من خلالها شيئاً ما تتردد أصداؤه ذاتي، أمّا اللونين (الأحمر والذهبي) فاستخدمتهما تبعاً لموضوع اللوحة وقدرة اللون على ترجمة إحساسي بهذا الموضوع. الأحمر هو لون الشغف الحقيقي والانفعالات الداخليّة ويمثّل بحدّ ذاته صرخةً بصريّة.بينما يشير اللون الذهبي لدي إلى الوضوح واستخدمته كلون يشير إلى المعادن التي تحمينا وتقتلنا في آنٍ معاً، أنا أكره المعادن لأنها قتلت وتقتل كثيراّ من الناس لكنّني استخدم ألوانها في لوحاتي كنوعٍ من الثأر الأخلاقي ).
كان ذلك أبرز ما قاله الوهيبي عن معرضه و دلالات لوحاته والذي يمكن تلخيصه بالتوقف عند لوحة (النكبة) التي نرى فيها ألوان المعرض الأساسية (الأبيض- الأحمر- الأسود- الذهبي)، ووجهاً لإمرأةٍ تحدّق بالأفق على نحوٍ ما، تحمل على رؤوس أصابعها ورقةً مطويّةً على شكل خيمة، بينما تحتضن ورقة أخرى كتب عليها" بالكاد أضأت شمعة لأرسم نخلة.. هدم المحتل بيتي.. الورقة بيضاء دون نخلة. الورقة صفراء.. طوى الغريب الورقة على شكلٍ ما صارت خيمة النكبة"
محمد الوهيبي: من مواليد فلسطين- خريج كلية الفنون الجميلة بدمشق( قسم الحفر)- أقام العديد من المعارض الفردية وله مشاركات في معارض جماعيةّ على المستوى المحلّي والعربي والعالمي- توّلى التدريس لفترة في مركز (أدهم اسماعيل) للفنون التشكيليّة بدمشق. وصفه الناقد فتحي صالح بأنه (فنّان الاستقراءات الإنسانيّة الدافئة، في عمله صيرورة حركيّة متفاعلة، عوالمه جميله لها سحرها وفلسلفتها وحكمتها الآخاذة، لديه رؤية تكنيكية وتكوينيّة في مساراتٍ متنوّعة الاتجاهات، لا يتورّع عن تحطيم التفاصيل الواقعيّة الدقيقة لصالح تشكيلية المشهد، الزمان والمكان لديه يرتبطان بالفعل والحدث والمهمّة التي يسندها لعمله الفنّي).