"أحمد معلا" فنان تشكيلي سوري، عرف عنه قراءاته المعمقة للتاريخ، وبحثه في مجرياته ووقائعه التي تشكل حتى اليوم محوراً للنقاش والجدل، كما أنه يعرف برؤيته البعيد ة للأشياء وإدراكه المعرفي لحقائقها، وتجسيدها في اللوحة بفهم بصري مؤثر وحس وجداني له بعده ومدلوله عبر تشكيلات كثيفة الإيحاء للشخوص الإنسانية المغيبة الملامح. وللتعرف إلى هذا النوع من فتون التشكيل في الرؤية البصرية eSyria زار الفنان " أحمد معلا" بتاريخ 4/4/2009 في معرضه بغاليري "آرت هاوس" في "دمشق" وكان معه الحوار التالي:
**أرسم وأصمم منذ الطفولة.درست الفنون الجميلة في "سورية وفرنسا" وحاولت مقاربة العالم من خلال البصر وما يتبع البصر من آليات, كالبصيرة, والإبصار والمشاهدة, والتبصَر من خلال محاولات في التخييل والتجسيد والتمويد(من مادة). لعبت الخطوط والألوان دوراً جاداً في صياغة العالم الذي قدمته في نتاجي الفني، وهو نتاج تجاوز سطوح اللوحة إلى أبحاث في الغرافيك والخط والإعلان والإتصال البصري بدءاً بسينوغرافيا المسرح ومناظر وديكورات السينما، وصولاً إلى التنصيبات والطقوس التشكيلية والكتاب والكتابة والطباعة.
لنقل إن كل ما يتعلق بالصورة هو من شأني وهاجسي. من محاولتي الإقتراب من الآخر أو من نفسي. هي فلسفة العلاقة مع هذه الرحلة التي نقطعها سوية في الحياة بما هو حاضر.. ماض.. وقادم.
**لوحتي كثيفة حتى لو لم يكن فيها شخص واحد، أقصد أنني أشغل السطوح بكثافة من اللون أو الخطوط أو المواد. في معرض /1994/ في "المركز الثقافي الفرنسي" كانت ضربات الريشة والسكين تشغل فضاء اللوحة ولحمها وبشرتها بكم هائل من اللطشات والضربات الإيقاعات، الآثار الخطوات.
في اللوحة الحشدية يملأ الناس السكون، راقصين منتحبين مفتخرين أذلاء, مراوغين ناقمين مهووسين في طقوسهم المختلفة. قطعان وعصابات، طوائف وزرافات ملل ونحل تختلط في غلواء انقياد أو تمرد, متورطين خائفين،مكسورين أو مشيّعين لموتاهم لضحاياهم لشهدائهم لرسلهم المخذولين أو الأبطال.
مصائر مشتركة يحدّها التاريخ من الباطن، والموت من الأمام, الأمل من الحاضر والخوف من كل حدب وصوب. ماذا فعلتم للقادم من الأيام يقولها الفرد من الجهة المناوئة.
**الحكايا الشعبية التاريخية والمعاصرة جزء من بنيتي الثقافية، وليس فقط ما هو شعبي بل أيضاً ما هو نخبوي، محلي أو عالمي، تجارب الشعوب هي التي تحملها إلينا الثقافات المتنوعة، الشعر الياباني النحت الأفريقي، القصص الديني، جبروت الملوك والقادة، الخيانات والتواطآت، الفجائع والقرابين.
الفن القديم وأساليب تناول العمل الفني تتشارك جميعاً لتشكل أسلوب اقترابي من اللون والشكل والإتجاه خلال عملي، أسطرة أو تغريب، مسرحة أو كولاج، مزامنة أو مساكنة، تصاد أو صراخ، إنشاد جماعي أو فردي. طقوسية تغذّ في تناولها للحلم.
أكرر أن كل من سبقني في تاريخ الفن يشكل حقلاً مرجعياً بالنسبة لي، كل من يعاصرني هو فرصة للتعلم منه أو لمعارضته كما حقيقة الأشياء في وجودها دونما مكابرة أو توسل.
إنني أحتقر الضعف، وجهدت من أجل أن أحب الجديد دون أن أضطر لكره القديم أو المعاصر.
**لا يوجد واحدة , إنه خليط كما أسلفت: احد القادة الرومان يقول: " سحقاً أيها الوطن العاق إنك لا تستحق رفاتي". ديوجين يطلب من الإسكندر أن يبتعد عن ضوء الشمس. السيد المسيح وهو يحمل صليبه. ثورة العبيد. ظهور الإسلام في الجزيرة العربية. النهضة العربية نهاية التاسع عشر. الثورة الفرنسية. الحسين في كربلاء، المتنبي في ديوان سيف الدولة. المعري وسلطان الدولة. النضال الفلسطيني منذ /1948/. المقاومة اللبنانية وما جرى في تموز/ 2006/. غيفارا. الشعب الفييتنامي.
والعديد العديد من المآثر والملاحم لا أعمل على توثيقها بقدر ما أحاول هضمها وإعادة إخراجها من خلال مختبري الروحي البصري. إنها محاولة لرفد العمل الفني بغنى العواطف والمشاعر، والمواقف. بتثمين الوعي من خلال مقاربة عالمنا الداخلي الذي يزداد تعقيداً مع التطور التقني لتناول المعلومات.
إن السياق الذي تتحول فيه الحكايا والقصص والأساطير والملاحم من خلال عجائن العمل الفني تبدّل من الصورة الأولى للحدث، فالمذبحة تتحول إلى ماليس له علاقة بالدم.. بينما الثورة تأخذ شكل العروس في أبيضها النقي. الموت أفقي، والسكر يافع أصفر...إلخ
**أية إحالة تتعلق بمن يقيم الإحالة، فالنسر بالنسبة لإبن الجبل هو غيره بالنسبة لساكن السهول،
لا يقيم العزيز في البلد السهل، ولا ينفع الذليل الرجاء. هناك العديد من المشاهدين الذين يرون في كل جمع على منضدة طعام، عشاء أخير..!
لهذا لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون. وهنا لا أضيف قيمة إيجابية للذين يعلمون.
عند الكلاباذي ( المتصوف) "إما تعرف، أو لا تعرف، لا يمكن أن تتعرف".
علاقتي بالمسرح والرقص قديمة، منذ الطفولة في "الرقة"، وإذا كنت قد دعمتها بمشاهدات "باريسية، فإنني أظن أن المسرح والسينما والفيديو كليب هي التي أقامت إحالاتها على الفنون التشكيلية حيث الإتجاهات والمدارس صاغت علاقات هندية متنوعة التعقيد في حضور الكتل البشرية والأدوات والديكورات.
المسرح الطبيعي، اليوناني, الروماني, الكلاسيكي. الخشبة الإيطالية أو الحلبة أو الخشبة المفتوحة. كلها وغيرها وصولاً إلى خيال الظل هي جزء من مختبري التشكيلي، وخلطها مع بعضها ينتج طوال الوقت أشكالاً جديدة لتناول عملي الفني.
**من يدعي هذا؟ لا أظن أن هناك من يتبنى أفقاً ضيقاً إلى هذا الحد. هل المعرفة قيد, لله دركم.
الينابيع تجف إن لم تحظى سنويا برفد مائي. لا يمكن مناقشة بديهية في حدودها الأولى.
ليهنأ من يظن هذا الظن بالحرية. ومن أين تمكن من أن يقول ما يقول لولا ما قرأه في طفولته.
**أنا منشغل بما يحيطني على كافة المستويات: سياسياً اجتماعياً معرفياً فنياً, ولا بد لهذا الإنشغال من أن يقود إلى تصورات عن البنى التي تشكلنا، وسينعكس هذا لا بد في طريقة تناولنا للحياة، وأشكال وأساليب إظهارها. مما يحمّل العمل أبعادا أعمق تتمظهر إشارات ودلالات ورموز. مبطنة أو حادة الوضوح، مغمغمة أو بليغة الحضور. الأمر يتعلق بالمشروع الثقافي المعرفي التشكيلي الذي أساهم من خلاله مع المبدعين في مجالات شتى, للمشاركة في النمو الإنساني.
يجب علينا أن نتذكر قصة الفارس المدجج بالسلاح وهو يمتطي صهوة جواده, وقد التقى عصفورا صغيرا منقلبا على ظهره مادّاً جناحيه، ورافعا ساقيه الهزيلتين نحو السماء. سأله الفارس: مالذي يدعوك إلى فعل هذا؟ أجاب العصفور: سمعت أن السماء ستسقط على الأرض. قال الفارس: وهل تظن أنك ستوقفها بقدميك هاتين؟ أجاب العصفور: على كل منا أن يقدم ما بمقدوره واستطاعته.
**ما يزال السؤال مؤرقا بالنسبة للعلماء، العديد من النظريات العلمية ما تزال تشتغل على فهم العالم. النظرية الإهتزازية والفيزياء الكوانتية تراكم معطياتها منذ سنوات. بالنسبة لي: يبدو أن الرحلة المعرفية لا يمكن أن تستقر على يقين في فهمنا للكون والحياة. على الأقل اليوم أو خلال وجودنا الحالي إلى أن نغادر هذا العالم. أعرف أن التطور الحالي للوعي البشري هو متسارع بصورة مدهشة، ويمكن أن يعادل ما أنجزته البشرية خلال السنوات الستين الماضية كل ما أنجزته البشرية خلال القرون السابق كلها.
في أحيان أشتغل وأنا أحاول أن أصنع ما تصنعه الحياة في الغصن الخريفي، تندفع سرياً إلى أن تتفتق في الربيع أوراق وأزهارتتبدل ألوانها وحضوراتها مع كل تقادم للحظات، وأرقب أنظمة تتبدل وتتبادل الصيغ التي تعلنها مظاهر الحياة المتنوعة، عارفا أن مجموع زوايا المثلث الفيثاغورسي مائة وثمانين درجة لكنها أكثر أو أقل عن"ريمان" و"لوباتشوفسكي".
ليس من جوهر ثابت لها، الجوهر في حركة دائمة، حركة تتطلب الزمن، وتحل المعضلة عندي في أزمان المشاهدة التي تتقرأ التباسات الأشكال غير النهائية التي أقدمها، فليس من خط يحيط شكلاً في عملي. لا شئ نهائي. واللوحات مقابر إن لم نتمكن من بث الحياة فيها خلال المشاهدة.