«في لوحتي أتحدث عن موسيقى الحروف، أقصد بها تلك الحركية التي تجعل من الحرف عنصراً متحركاً علماً أنه ساكن، وتجعلني أنهي التكوينات التي بني عليها تشكيل اللوحة، وهي عائدة إلى نفس المنطلق لست أدعي أني مكتشف تلك العظمة، فعندما نتحدث عن حرف النون نحلل فلسفة تجعل من هذا الكون الذي انطلق من نقطة حددها الخالق هي نفس النقطة التي ستعود إليها، فالكون الفسيح الواسع يبدأ من نقطة ثم يعود إليها، لتكون البداية والمرجع… هذا الإيحاء الذي تتلخص به الحروف في عملي التشكيلي»
والكلام للفنان التشكيلي "محمد غنوم" الذي تحدث لموقع eSyria عن عراقة الخط العربي في التاريخ الإسلامي والحديث، وعن خصوصيته التأثيرية والجمالية كمحتوى تشكيلي وبصري في اللوحة الحروفية، وذلك خلال الحوار التالي:
أن الحروف والكلمات في اللوحة الحروفية يجب أن تظهر بتشكيل عفوي يعود إلى ذائقة الفنان على أن تكون مبهمة غير مقروءة
**كل شعب من الشعوب له ما يميزه بين فنونه، وله جانب يهتم به أكثر من بقية الجوانب، ونحن في مجال فنونا البصرية هناك اهتمام متميز بفن الخط العربي نبع من البنية الفلسفية للنظر في الفنون البصرية... فالإنسان العربي منذ القدم له اهتمام بما هو مطلق ونظرة لا تكترث للماديات والمحسوسات بقدر ما تهتم بالأشياء التي هي أكثر تجريداً لأن البيئة التي عاش فيها الإنسان العربي بادية يمتدّ بها النظر إلى اللامحدود، وهو في نفس الوقت عاش بها متأملاً فنمت لديه النظرة إلى المجردات أكثر من الأشياء المادية المحسوسة…
وبعد مجيء الإسلام تعمقت تلك النظرة ولاسيما القرآن الكريم الذي شكل دستور الأمة والدين، وترافق ذلك باهتمام كبير بكتابة آيات القرآن بأبهى وأجمل صورة مما أدى إلى نهضة الخط العربي الإسلامي، فكانت المدارس الخطية وبدأت منذ مراحلها الأولى في إتباع أسلوبين: الأول يعتمد الاستقامات والزوايا الحادة فكان الأسلوب الجاف والمستقيم ثم اندرجت كل أنواع الخط الكوفي فيما بعد، والثاني الأسلوب اللين الذي ظهرت فيه الحروف ملتفة ومتعانقة، حيث كتبت بأداة بسيطة بيئية المنشأ وهي "القصبة"، ومع اهتمام العرب والمسلمين بالخط العربي باتت الصورة الجمالية له أكثر تكاملاً، وبعد أن عشقت هذا الفن النبيل شعوب اعتنقت الإسلام مثل الفرس والأكراد وشعوب "آسيا الوسطى" أحدثت له مدارس خطية نموذجية قاعدتها وأساسها الثقافة البصرية لتلك الشعوب.
** كان لا بدّ للخط العربي بعد المراحل التي مرّ بها وحددت كلاسيكيته وأصبح له خطوطاً موزونة بعدد النقاط التي بينت وأوضحت عرض وامتداد والتفاف الحرف، من أن يحظى بنظرة متطورة أكثر من الخطاط تتواءم مع العصر، وتستدعيه بدورها إلى البحث في جوانب تفجير الطاقات الجمالية للحرف العربي التي لم تكن تكتشف وتدرس عندما كان الخطاط قاعدياً كلاسيكياً همه إتباع القواعد والأوزان… من هنا نشأ الاتجاه الحرفي وهو في تسميته قاصر على أن يعطي المضمون والمفهوم الدقيق لهذا التطور، ولكنني سأستخدمه حتى يكون سهلاً على القارئ أن يعلم أن جميع الفنون البصرية التي تعتمد في بنيانها وتكوينها على تشكيل الحرف العربي سواء كان نحتاً أم رسماً أم تصويراً أم حفراً هي طاقة إبداعية مرجعيتها الإيمان، والمبدع الذي يعتمد الحرف كمفردة تشكيلية في لوحته مؤمن بتلك الطاقة، وبما في بنية الحرف من تشكيلات جعلته يحاور هذا الفن ويوصله إلى المشاهد، فتجده أحياناً يبني تكوينه عليه وأحياناً يترك القراءة للكلمات وأحياناً أخرى يغيبها، فالحروفية مجال غير مقتصر على العرب بل ظهر بقوة عند الشعوب المسلمة الأخرى… فإننا نشهد في "إيران" اتجاهات عديدة للفن الحروفي وليس مستغرباً أن نرى فنانين غربيين من أوروبا وأمريكيا والشرق الأقصى وجدوا أنفسهم بهذا التشكيل.
** عندما نقف أمام فن عظيم مثل الخط العربي الذي يعد العمود الفقري لشخصيتنا العربي التشكيلية لن يكون هناك تمييز أو فصل بين الشكل والمضمون، لنأخذ مثالاً حرف النون المكون من ثلاثة أرباع الدائرة والمرتكز في وسطه على نقطة تميزه عن الأحرف الأخرى... لا يمكننا على الإطلاق أن ننظر إلى تلك الدائرة الناقصة دون أن تكون تداعيات المضمون مترافقة مع ذاك الحرف الذي أقسم به الخالق عندما قال: «نون والقلم ما يسطرون» وهنا لا يمكننا إلا أن نحس وندرك أنه لخص وأوجز هذا الكون في هذا الحرف، ولهذا عندما أرسمه وأجمله في عملي التشكيلي أشعر أنني دخلت في محراب عباد "الله" فالشكل والمضمون في الخط العربي لا فرق أو فصل بينهما.
** لطالما كتبت الحروف بالحبر الأسود على السطح الأبيض والآن عندما شكلنا أعمالنا الفنية استخدمنا كل التقنيات المبتكرة من ألوان زيتية ومائية وإكريليك… فلم يعد هناك اقتصار على اللونين الأبيض والأسود، وقد ظهرت لدينا نتائج وصور باهرة وجميلة في تشكيل الحروف والكلمات… وهي برأيي تشكل إضافة غاية في الأهمية لهذا الفن، والألوان بدرجاتها وسحرها أظهرت عمق وجمال الحرف كمفردة بصرية في التشكيل.
** بتصوري ليس هناك لوحة في العالم متكاملة الأبعاد لا في السابق ولن يكون في المستقبل، هناك بحث يجتهد عليه الفنان ليصل به إلى مرحلة ما واجتهاده يبقى بين أمرين تقدم أو تراجع، فلكل عمل فني فئة تتذوقه قد تحبه أو لا تتفاعل معه، والكون يتسع لكل الآراء والأذواق والثقافات لكن في النهاية ليس هناك عملاً متكامل لأن التكامل محصور بالخالق فقط، ولن يمكننا مهما بلغنا من العلم والثقافة والدراية والإبداع أن نحقق عملاً متكاملاً، وإنما نصبوا ونهدف إلى عمل أكثر تميزاً يحمل هويتنا ويظهر اعتزازنا ويوضح افتخارنا ويشهرنا بين الشعوب الأخرى.
** سوئلت هذا السؤال منذ /30/ عاماً ولازال البعض يسألوني إياه، ولا زلت أدافع عن هذا التوجه الذي أقوم به في اللوحة المعتمدة على الحرف العربي، وكل يوم أزداد اقتناعاَ أن قراءة الكلمة أو الجملة واضحة أو غير واضحة لا يقلل على الإطلاق من أهميتها التشكيلية، وليس صحيحاً ذاك التوجه الذي يخجل من قراءة تلك الكلمات والحروف وكأن هناك عيباً في أن تكون القراءة التشكيلية والأديبة معاً؟!
فمن الذي سنّ تلك القوانين التي حرمت قراءة الجملة أو الكلمة في العمل الفني... ومن الذي جعل تلك القراءة خطيئة يرتكبها الفنان ولا يستطيع التكفير عنها إلا عندما يكون عمله الفني غير مقروء، ولا يعتمد إلا على الترميز والإيحاء بأن هناك حرف عربي أو كلمة يجب أن تحطم ملامحها حتى تنال استحساناً؟ أقول بإيجاز: ليس هناك ما هو معد مسبقاً لنتذوق ونحس ونسعد، ليس هناك قوانين بل هناك صيرورة وممارسة في الفن وكل مجالات الحياة.
**اللغة البصرية لا تأتي بالمصادفة لأنها مرتكنة على أرضية ثقافية وفكر عميق، الفن التشكيلي فكر وليس خطوطاً وألواناً تأتي بها اليد عبثاً، وليس كما يشاع أنه ابن للحظة غير المستندة على أي شيء. إن الفن عمل عقلي بامتياز العقل صنع المعجزات ولا يمكن أن ينفصل عن العاطفة والحس والشعور، والإبداع عمل فكري، والعاطفة تأتي لتجعله يعيش حياة دائمة وألقاً مستمراً.
** الخط العربي فن تجريدي بحت لأن الحروف ليست أشكالاً تشبيهيه، ليست يد أو وجه أو عين… إنها أشكال تجريدية توحي بصعودها وهبوطها والتفافها وعناقها بما صنعته الكائنات من بشر وشجر وحيوان… عندما ندرس مراحل نشوء الكتابة نبدأ بالمرحلة الصورية عندما عبّر الإنسان عن رغباته برسم الصور على جدران الكهوف ثم انتقل إلى مراحل اختلف حولها الباحثون من رمزية وصوتية ومقطعية… هكذا حتى الوصول إلى اكتشاف الأبجدية التي اعتمدت على الشكل التجريدي لنأخذ مثالاً: الحروف المسمارية المكتشفة في حضارة "أوغاريت"، التي نرى من خلالها كم جهد الخطاط العربي منذ القدم في تشكيل الحروف بأبهى صورة ممكنة.
تحليل ورأي
في إحدى المعارض الشخصية للفنان، قال الناقد التشكيلي السوري "طارق الشريف": «بدأ الفنان "محمد غنوم" رحلته مع الخط العربي من عملية التزاوج ما بين تكوين الحرف واللون، ففي البداية استخدم الحروف على أساس حرف منفرد يتكرر ويكتب ويلون ثم يخلق إيقاعات لونية مختلفة ومعبرة، هكذا اكتشف أن الحرف قيمة فنية بحد ذاته وذلك من جمالية تأليفه، ورأى أن تكراره مع الإضافات اللونية سوف يجعل للوحة أهمية تجريدية وتشكيلية».
أما الراحل "فاتح المدرس" كتب في أحد مقولاته: «إن "محمد غنوم" في تجربته الجادة في مجال التشكيل العربي يقف في مقدمة الفنانين العالميين لأجل الروعة الإبداعية عند العرب، والموسيقى الحسية في عمله التشكيلي حقيقة تجعلنا نقف باحترام أمام حدسه الجمالي الرائع».
سطور من تاريخ الفنان
يذكر أن الدكتور "محمد غنوم" من مواليد " دمشق " عام /1949/، متخرج في كلية الفنون الجميلة ـ جامعة "دمشق" قسم "التصميم الداخلي"، دكتوراه فلسفة في علوم الفن ـ "طشقند" عام /1992/، عضو المكتب التنفيذي لنقابة الفنون الجميلة حتى عام /2000/، الموجه الأول للتربية الفنية في سورية، ويشغل رئيس جمعية أصدقاء الفن في "دمشق" منذ العام /1996/، مدرس محاضر في كلية الهندسة المعمارية ـ جامعة "دمشق"، أقام خلال مسيرته الفنية /17/ معرضاً شخصياً في عدد من المدن السورية و/37/ معرضاً في دول عربية وأجنبية… حاصل على جوائز عديدة أهمها الجائزة الأولى في مهرجان الخط العربي ـ "طهران"، والجائزة الأولى للخط و الموسيقى في "فرنسا".