«من أجل أن يكون العمل الفني نقياًً يجب البدء من الذاكرة الأولى ربما هي الطفولة لأنها الأصدق والأكثر طهراً أو الحلم، ومن ثم تأتي الأشياء الثانية كاستعارات واعية حيناً وغير واعية حيناً آخر، أنا أتعلم من الوعي الخاص الذي هو ذاكرتي الأولى وعالمي الأمثل والوعي الكبير الذي هو الحقيقة كأن أرى عظمة الله في تكوين الحياة أو أبحث في الطبيعة، وحتماً الإنسان يصبو إلى الحقيقة آملاً في بلوغ مرحلة ما من الكمال والاتزان والرضا».
والكلام للفنان التشكيلي السوري "منذر كم نقش" الذي تحدث لموقع Damascus eSyria عن حقيقة التكوين البصري وأبعاده في المتخيل… والبعد الحسي الذي يجمعنا به عند تحليله على اللوحة، وذلك خلال الحوار التالي:
تعوم أجساده الأنثوية بعريها الطهراني في قبة الفلك الأعلى متخلصة من آثام الاتصال الحسي، وبالقدر الذي تستطيع به أن تملك إيحائه الخصوبي الميثولوجي فإنك ترى معراجية تصوفية خاصة به، ولاسيما طريقة رسمه للأنامل الرهيفة التي تذكر باستبدال الرضيع لثدي أمه بمص أصبعه وذلك ضمن حالات ملتبسة تقع بين الطهارة والخطيئة القدسية
** كل ما يتعلق بمراحلي هو بحث عن توازني الداخلي، وقليلاً ما طرحت هذه المراحل بشكل معارض وفي الوقت الذي شعرت به بهذا التوازن أقمت معرضاً شخصي ربما كنت قاسياً على نفسي حتى أصل إلى قناعة معينة تتناسب مع طموحاتي الفكرية… باختصار أحب أن أقدم الأشياء بصدق وليس دائماً بإمكاننا التعبير عن الأشياء بصدق.
** الإنسان مليء بمشاعر نبيلة تلزمه البحث عن آداة للتعبير عنها، وإذا أراد التعبير حقاً تبدأ عنده عملية البحث حتى يتوصل إلى قناعة تتناسب مع الحلم الذي يجول ويتجدد في نفسه وتحقق له مع الاستمرار توازنه الداخلي وتصل بالنتائج لديه إلى التكامل، هذه المعادلة تجدها في كل عمل تشكيلي جديد أقوم به فليس لدي وصفة دائمة أسير بها طوال حياتي بل أتجدد مع العمل حسب مشاعري وما أتطلع إليه مستقبلاً.
** تقاليدنا كشرقيين تميل إلى النواحي الإنسانية أكثر منها إلى البحث في الأمور المادية وأنا كشرقي أعتز بإنسانيتي لأنها كمالي، وهناك فرق ما بين اعتزازي بنفسي وبين اعتزازي بإنسانيتي، والحالات التي أكون فيها متصلاً مع الآخر تابعة للعمل والثقافة، فعندما اختلي بكتاب أو أقابل صديق أرجع إلى نفسي وإنسانيتي حتى أفهم الأمور أكثر وأعيشها بشكل أعمق، والطبيعي أن تدخل تطلعاتي الشخصية ممزوجة بالعلم وذكريات الطفولة المكانية والاجتماعية والحسية فتشكل حافزاً ورغبة في التعبير عنها ضمن عمل فني.
** الفن بحاجة إلى الجانب الروحي والإنساني بعيداً عن الانزلاق خلف متاهات المادةً… المسألة فحسب مشكلة اقتصادية تجعل الآخرين يهملون المسألة الإنسانية ويمكن أن يكونوا محكومون بسلطة المادة والأفضل أن نكون نحن واعيين لذلك ولا ننجرف سعينا خلف المادة ونفقد بالتالي إنسانيتنا، شخصياً أحاول أن أبتعد بقدر الإمكان عن الأمور المادية التي لا جدوى منها وأضع الإنسان في مقدمة تطلعاتي، فأنا كما قلت سابقاً: معتداً بإنسانيتي وربما العزلة التي تحضرني هي الابتعاد عن المحرض المادي وإن كنا محكومين به.
** موضوع الذات الإنسانية أمر داخلي بالنسبة إلي، والسؤال كيف يرجع الشخص لذاته الإنسانية ويتمثل كل شيء في عوالمها من ثقافة ذاتية وهدف فكري وفعل يسمو إلى إنجاز عظيم؟ الحقيقة كل فنان يملك مخزون بصري متنوع الجمال يحاول عندما يشعر بإلحاح الإبداع نحوه أن يخرجه في عمل فني يكون فيه منصفاً لنفسه ولكنه لا يستطيع أن يراقب ذاته ولكن يمكنه أن يكون صادقاً من الداخل بإحساساته وانفعالاته، وتأتي اللوحة لتسجل تلك الانفعالات والأحاسيس بحركة لونية تحكمها بصيرة الفنان وفهمه البصري للتكوين، بدورنا نحلل القصة التي مثلتها لوحته فنرتد باللاشعور إلى الذات ونبحث عن الأمور الإيجابية في داخلها حتى نفهم من تحليلنا لها اللوحة ومضمونها التشكيلي.
ومضات تأملية
** في يوم ربيعي صحوت باكراً والضوء لم ينتشر بعد، فخرجت إلى فناء البيت ورحت أتأمل بزوغ الفجر وأرقب انتشار الضوء الذي يخرج رويداً رويداً، وفجأة وجدت نفسي أدخل بعالم روحي عجيب لا بل مزيج من الحلم والتأمل ففكرت بقصة الحياة والموت والحقيقة في وجودهما؟
العجيب أنني وجدت تساوياً بينهما وشعرت أنه بإمكاني أن ألعي قصة الزمن فأذهب بسهولة نحو ذاك المجهول الذي ممكن أن أسميه "الموت" وبسهولة أستطيع الرجوع إلى مكاني، كنت سعيداً بهذا التفكير والشعور الذي أحسسته ولكن سرعان ما تغيرت الأشياء وباتت أكثر مادية ووضوحاً مع خروج الشمس وغاب ذاك الشعور عني، وكم تمنيت حينها لو أنه دام.
خلال اليوم التالي استيقظت بنفس الوقت وحاولت أن أسترجع ما شعرته بالأمس فلم أجد ه طبعاً لأن الزمن تبدل، وأصبح هناك استعارات جديدة ولم أحصل على الحلم السعيد الذي هو بين اليقظة والحلم والحقيقة، تلك اللحظات حاولت أن أسجلها على بياض اللوحة وطبعاً لم يكن هناك منظر طبيعي ولا سماء ولا امرأة بل كان كل ذلك وإنما بطريقة الحلم، وهذا ما نراه في اللوحة وهو خير إيضاح للطريقة التي أرى بها الأشياء.
** عندما يريد الفنان أن يطرح فكرة ما في لوحته فأنه يتطلب أدوات توافق خروج فكرته إلى الحياة، والأشياء الموجودة أمامه هي مجرد وسائل مساعدة لكشف ما يريد التعبير عنه، وأحد هذه الوسائل المادة التي يستعملها في تشكيل اللوحة وكيفية استغلالها بما يخدم الكشف عن الفكرة، وذلك يفسر استخدامي لمادة الباستيل التي أصبح لدي بفضل تجربتي معها معرفة كبيرة لدرجة أنني أشعر أثناء العمل أن حركة يدي مع تلك اللمسات اللونية الدقيقة تمشي مع حركة النبض، فأضيع بالمساحة وإنما بوعي ودراية للون ووجهته مع حركة الشكل.
** لم يأتي اختياري للمرأة كنموذج في عملي التشكيلي بالمصادفة بل اخترتها لأنني أراها رمز للطبيعة والحياة وليس مجرد جنس، إنها تعطيني مجالاً واسعاً للبحث في كينونة هذه الطبيعة والمرأة ليست وحدها في لوحتي بل هناك عناصر أخرى ملتحمة بها كتجسيدي للطبيعة الكاملة بغض النظر عن الناحية الزمنية، والعناصر تلك اختزال لما هو موجود في الطبيعة ورغبتي من ذلك أن يتحرر المتلقي بالنظر إلى لوحتي من إرهاصات الواقع دون أن يتوقف عند نقطة معينة بل يرى ويحلل الطيبعة ككل من خلال التفاعل الطبيعي بينه وبين عناصرها.
** كل الأِشياء في عوالمي الفكرية تصل بك إلى ذات المطاف طالما أننا نتحدث حولها ويبقى للحوار البصري لغته فإن حدث عن طريق العين يكون أكثر مادية وإن حدث عن طريق النظر للوحة ككل يكون أكثر مثالية في التعمق والتحليل، كإيضاح إذا رسمت وجه لشخصية ما يكون التركيز بعد عرض اللوحة على العين مباشرة بمحاولة فهم للحالة التي تكون عليها بمعزل عن بقية الشكل، وفي أعمالي الأمر مختلف فالعين لدي مغمضة وفي عمل أو عملين مفتوحة قليلاً وذلك لأنني أريد للحوار البصري أن يكون مفتوحاً على عناصر اللوحة ككل وليس في جزء محدد منها.
** كل النصوص المكتوبة حالة تطور بشكل عام للإعلام التشكيلي، شباب مثقف يبحث و يكتب ومع الاستمرار يخرج من بينهم محللون أكفاء للعمل التشكيلي مع وجود سوية للنصوص التحليلية المكتوبة، وبقدر ما طور الفنان معرفته وأدواته بقدر ما استطاع أن يرى الأشياء في محيطه بشكل مختلف يحدد منه قيمتها الفنية والجمالية، وبالتالي يترك للكاتب التشكيلي أو الباحث في علم الجمال نتاجاً فنياً غنياً بفلسفة معينة تحلل من خلالها الأشياء وتكتشف منها تطلعات جديدة… وهنا يحضرني قول الدكتور "أسعد عرابي" الباحث في علم الجمال: "كل عمل إبداعي له بداية وتطور"، ويبقى السؤال بصفتي كناقد ومحلل تشكيلي: كيف أظهر الشكل في اللوحة وأبدأ من خلاله بتشكيل علاقاتي التحليلية؟
** نحن متأثرون بشدة بالمدارس الغربية فهل يمكننا برأيك أن نتحرر من ذلك وننشئ وجهة مختلفة في التشكيل تحمل هويتنا وشخصيتنا علماً أنك تعمل ما بين سويسرا وسورية ومعظم زمنك أمضيته في الغرب؟
** لا شك أن الغرب تميز بتجارب هامة على صعيد الفن التشكيلي، وكذلك نحن وإنما نختلف عنهم كثقافة وطرح وبحث… فممكن رغم اختلافنا الثقافي والحضاري أن نفهم تجاربهم ونستفيد منها وممكن أن نكون في حوار دائم معهم، ولكن أن نأخذ الفن الأوروبي كمسلمات ونحاول تقليده كما هو! هذا خطأ كبير المفروض أن ندرس كيف طورا أفكارهم وأساليبهم في التشكيل ونأخذ الفائدة من المعرفة بما يخدم وجهتنا في التشكيل.
أنا شخصياً عندما أعمل هناك وأعرض لوحاتي، يقولون لي: "هذا فن شرقي" وعندما آتي إلى "دمشق" بنفس الأعمال، يقولون لي "هذا فن غربي" وذلك يدل على أن الإنسان يؤثر ويتأثر مع الاعتزاز بالهوية الثقافية، التشكيل السوري يحضره تأثر شديد بالمدارس الغربية مع العلم أنه لدينا تقاليدنا وأحاسيسنا وأفكارنا وباستطاعتنا أن نكون شخصية خاصة بنا مع الإفادة من نتاج التطور لتلك المدارس… في أعمالي أعتز بهويتي وإنسانيتي وحاولت أن أطرح فكري بما يتناسب مع تقاليدي وليس تقليد الغرب.
تحليل ورأي
كتب الدكتور "أسعد عرابي" الباحث في علم الجمال تحليلاً أوضح به الحياة التصوفية التي يعيشها الفنان ويستقي منها إلهامه في تكوين الشكل، قال فيه: «إن "منذر" نتاج للزهد والتعفف عن صغائر الأمور والتفاصيل والعزوف عن ضجيج العالم وتخمة العلاقات العامة، إنه الغائب والحاضر عنا، زهد في شخصه وفي تواصله وحديثه مع الآخر، زهد في نحته وفي تصويره، نفسه تعاف التفاصيل والثرثرة البصرية أو السردية، تعبيره يقوم على ما قلّ ودل إنه يذكر بحكمة الاختزال في الثقافة الأدبية (اجعلوا من رسائلكم تواقيع) وبقول "النفري" (كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة)».
وفيما يتعلق بكونية الأجساد الأنثوية التي شكلت الكثير من التساؤلات في أعماله، قال الدكتور "عرابي": «تعوم أجساده الأنثوية بعريها الطهراني في قبة الفلك الأعلى متخلصة من آثام الاتصال الحسي، وبالقدر الذي تستطيع به أن تملك إيحائه الخصوبي الميثولوجي فإنك ترى معراجية تصوفية خاصة به، ولاسيما طريقة رسمه للأنامل الرهيفة التي تذكر باستبدال الرضيع لثدي أمه بمص أصبعه وذلك ضمن حالات ملتبسة تقع بين الطهارة والخطيئة القدسية».
في سطور
يذكر أن الفنان "منذر كم نقش" متخرج في كلية الفنون الجميلة جامعة "دمشق" عام 1968 ثم انتقل إلى "باريس" حيث أكمل دراسته هناك وحصل منها في عام 1976 على الدبلوم العالي للفن، وفي العام 1990 عاد إلى "دمشق" ودرّس في كلية الفنون الجميلة، وهو الآن يعمل كفنان متفرغ يكسب عيشه من خلال بيع أعماله في صالات عرض أوروبية وشرق أوسطية بارزة، ويعيش حاليا بين سويسرا وسورية.