«لإنجاز أي عمل غرافيكي حديث يجب أن يكون هناك صوفية وصفاء بوضع الأشكال الحروفية ضمن الفراغ لتكون اللوحة متوازنة حسياً وبصرياً، وأفضل الأمثلة للخط العربي: هي الخطوط المكتوبة في الجوامع وأغلبها بخط "الثلث"، فالمشاهد العربي يفتش عن كلمة واضحة في الآية القرآنية ليبحث عن بقية الكلمات...
بينما الأجنبي يرى الخط العربي خطوطاً زخرفية متداخلة بشكل جميل فلا يضيع مثل المشاهد العربي بالبحث عن بقية الآية ونسيان الجوهر».
لقد طلّ علينا الفنان التشكيلي الدكتور "نذير نصر الله" بنمط فني جديد وترانيم لونية عزفها بريشته التي لم نكن لنراها في فنون الأقدمين والمحدثين... طلّ علينا بالجديد من فن لا ندري ما نسميه، وأصدق ما يقال فيه: أنه بوح عاشق مصفى ونغم من لحن تجسد في حروف راقصة متناغمة بشفافية ريشة تحملك في وجد التأمل إلى المطلق... فتطرب وتتواجد وتشعر بالنشوة، فلا تدري أتصرخ أم تسكت
والكلام للفنان التشكيلي الدكتور "نذير نصر الله" الذي تحدث لموقع eSyria حول رؤيته للعمل الغرافيكي الحديث وأسلوبه التقني والتشكيلي في إنجازه، وعن صوفية التكوين في بدء انولاد اللوحة، وذلك خلال لقائه في معرضه للعام 2009 في غاليري "السيد ـ دمشق" بتاريخ 12/10/2009 وكان معه الحوار التالي:
** الخط العربي موضوع معرفي بحثي قديم، بدأت فيه منذ بداية السبعينات عندما كان المحتوى الحروفي إذا نزل في اللوحة يكون مكتوباً مثل أبيات شعر أو أقوال مأثورة... بعد سفري إلى "فرنسا" إثر إفاد من جامعة "دمشق" تابعت بحثي هناك في هذا النوع من الفن العريق حتى تسعة أعوام ومجال البحث كان مفتوحاً للدراسة، فانتسبت إلى فرعين من الجامعة "النحت" و"الحفر" وتابعت ثلاثة مدارس ليلية "إيستين" التي تدرس الطوابع والحفر ـ "النكتيف"، و"كورفيزار" التي تدرس الماكيت وطباعة الإعلان ـ "التيبوغراف"، وهو صف الحروف الرصاصية لتشكيل الإعلان و"الأوفست" للطباعة على المعدن بدون الغوص في المجال التقني للطباعة».
** دراساتي وأبحاثي التي أجريتها خارجاً تعني أن يعرف الفنان كيف سيكون تصميمه الفني منفذاً بتقنية الطباعة "أوفست" و"تيبوغراف" بشكل علمي صرف يضاف أليه تحليل اللون بأعداد النقط المشكلة له... هذه المدارس درستها حتى تخدمني في عملي الفني ومتابعتي للمعارض الفنية المختصة بذلك، من هنا استطعت أن أفهم كيف يفكر الفنان الفرنسي في إنجاز عمله الفني من الناحية التقنية والجوهرية التفكيرية في العمل، فكانت مواكبتي للمسار الفني الأوروبي بتفكيره وبتطبيقه».
** خلال دراستي لمادة الحفر ـ "الغرافيك" قدمت أعمالاً عدة بكل أنواع التقنيات الغرافيكية الحديثة، مثل: الحفر بواسطة "المنقاش" أو الحفر بواسطة "الحموض" بكل تقنياته الملازمة للسطح أو عن طريق "الليتوغراف" و"الشاشة الحريرية" و"اللينوليوم و"الخشب" وكل نوع من هذه التقنيات يتطلب التفكير الجّاد بكيفية الإفادة منها في تصميم وتشكيل اللوحة، وأي تقنية منها لها ماهيتها في التصميم والتشكيل الفني».
** غابت الكلمة في لوحتي لتحلّ مكانها حركة الحرف بتشكيل إبداعي مستوحىً من الخط العربي ومع التجريب تشكلت لدي علاقة الخط العربي بالموسيقى، فالخط معرفياً يحمل حروفاً متصلة ومنفصلة ذات إمكانيات بالمد والرفع والتدبير وحرية وضع النقاط... والموسيقى الوترية تحتوي الصمت والضجيج، الصمت قيمة والضجيج قيمة أخرى، وهذه العلاقة شكلت أعمالي الآنية... والخط العربي الأسود في موقعه على مساحة بيضاء مجردة، له قيمته والفراغ من حوله له قيمته، لذا كنا نشاهد في أغلب اللوحات المخططة بمجلاتنا توقيع الخطاط بريشته بعد أن ينهي لوحته استناداً إلى إحساسه بتوازن الأسود مع الفراغ الأبيض المحيط به، وبالنسبة لي أمارس وضع الأسود المرتبط تماماً مع الفراغ الذي يحيطه.
** خلال معرضي الأخير في غاليري "السيد ـ دمشق" قدمت أعمالاً غرافيكية بالحبر الصيني، وأعمالاً في الشاشة الحريرية مضافاً إليها ألوان الإكريليك والباستيل والزيتي بدون أن ننسى أن بعض الأشكال منفذة على نوطة موسيقية، وبادرتي لإنجاز هذا المعرض أتت من خلال عمل طلب مني إنجازه إلى "برج العرب" في "دبي" ويتلخص بتنفيذ لوحات فنية غرافيكية بتقنيتي وأسلوبي، وقدمت في هذا العمل أكثر مما طلب مني وبعدة تقنيات... وما عرض في غاليري "السيد" هو ما زاد عن تلك الأعمال في "دبي" والفضل بهذه البادرة إلى غاليري "رافيا ـ دمشق" وفنانونا الكبير "مروان قصاب باشي" الذي رشحني لذلك.
** على الفنان أن يكون صاحب ذهن صاف، متأمل، باحث في مكنونات الجمال والحس الروحاني الصديق حتى يصل إلى مرحلة من السكينة الاستحواذية على النفس لا يسمع بانغماسه بها أي صوت حوله، ويعيش اللوحة بكل أحاسيسه الشعورية دون التخلي باللاشعور عن مقدرته التقنية والتشكيلية في الإنجاز، كما يجب ألا ننسى أن لكل حامل للوحة مادة تنسجم معه بالشكل التقني، مثال: أنواع الورق ونسبة الصمغ الموجود عليه أو النشا والمادة المرشوقة عليه، والمفروض علي عند إنجازي للوحة أن أعيش لحظة انولادها بعيداً عن التفكير العقلاني، وهذا يعني أن الإحساس يقود عملية الإبداع الذي لا يأتي إلا بعد تجارب كثيرة.
** تعود هذه التأثيرات إلى كوني ترعرعت في "النبك" مسقط رأسي، وهي بلدة تقع إلى الشمال الغربي من "دمشق" بيضاء في لونها حتى الظل عند شروق الشمس يسقط أسوداً أو غامقاً على الحيطان البيضاء وتتغير عند رؤيته مدارك التفكير والوجدانية... وكنّا نرى ذلك في الطريق وفي البيت وفي كل مكان... إذاً "النبك" بلدة جميلة بحلتها البيضاء حتى حيطانها الخارجية بيضاء حتى الطرقات المتفرعة في دروبها كانت نظيفة جداً، وهذا يفسر طريقتي في اختزالية اللمسات الخطية على اللوحة البيضاء المجردة، وأقول هنا إن الفضل لكل ما سبق لأساتذتي... ولهم تحية إن كانوا في "سورية" أو "فرنسا" حيث تواجد الحوار الطويل بيننا لتشكيل "نذير نصر الله".
لحن تجسد في حروف
جاء في كتالوج المعرض رأياً تحليلياً للفنان التشكيلي السوري ـ الناقد الفني "أحمد المفتي"، قال في بعضه: «لقد طلّ علينا الفنان التشكيلي الدكتور "نذير نصر الله" بنمط فني جديد وترانيم لونية عزفها بريشته التي لم نكن لنراها في فنون الأقدمين والمحدثين... طلّ علينا بالجديد من فن لا ندري ما نسميه، وأصدق ما يقال فيه: أنه بوح عاشق مصفى ونغم من لحن تجسد في حروف راقصة متناغمة بشفافية ريشة تحملك في وجد التأمل إلى المطلق... فتطرب وتتواجد وتشعر بالنشوة، فلا تدري أتصرخ أم تسكت».
يذكر أن الدكتور "نذير نصر الله" من مواليد "النبك ـ دمشق" عام 1946، حصل في العام 1974 على إجازة من كلية الفنون الجميلة من جامعة "دمشق"، وفي العام 1984 حصل على دبلوم من المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة ـ جامعة "باريس" قسم "النحت"، كما انتسب إلى ثلاث مدارس ليلية هناك "كورفيزار" و"إيستين" و"كولومب"، وحالياً ي عمل مدرساً في كلية الفنون الجميلة ـ جامعة "دمشق" قسم النحت، من مقتنياته "الثور المجنح" في المتحف الوطني ـ "دمشق" عام 1978، وتمثال "المركب الفينيقي" في جزيرة "أرواد" عام 1975، وله بحث علمي في مدينة "برشلونة ـ إسبانيا" لمدة /6/ أشهر بكلية الفنون الجميلة هناك، وتوج بحثه بعمل نحتي وضع في حديقة الكلية، كما حصل على الجائزة الأولى في مدينة "أوبرني ـ فرنسا" بعنوان "غرافيك وموسيقى وكلمات".