الدكتور "فؤاد طوبال" نحات وباحث سوري، عرف بإصراره على اكتشاف الجمال وإثارة ما هو غامض من التاريخ والحضارات القديمة.. يبحث بدقة في أدوات الشكل البصري الواقعي ويعيد بنائه نحتياً لكن ضمن بعد حسي مثالي عميق، يحاور به بصيرة المتأمل قبل بصره، فهو يعمل على مبدأ التأثير اللاواعي، وعلى الحس الرفيع في الأداء ، ولذلك اعتبر بروفسوراً في علم النحت.
الملخص: الدكتور "فؤاد طوبال" نحات وباحث سوري، عرف بإصراره على اكتشاف الجمال وإثارة ما هو غامض من التاريخ والحضارات القديمة.. يبحث بدقة في أدوات الشكل البصري الواقعي ويعيد بنائه نحتياً لكن ضمن بعد حسي مثالي عميق، يحاور به بصيرة المتأمل قبل بصره، فهو يعمل على مبدأ التأثير اللاواعي، وعلى الحس الرفيع في الأداء ، ولذلك اعتبر بروفسوراً في علم النحت.
eSyria تعمق في المسارات الوجودية والتطلعات البحثية لدى النحات وذلك عبر الحوار التالي :
*هل يمكنك في البداية إيضاح الأبعاد الحسية في العمل النحتي؟
**أي عمل فني هو عبارة عن خامة وفكر وحس، حيث تلعب الخامة أيضاً دوراً هاماً في الوصول إلى التعبير المطلوب، هذه الأشياء تشكل منظومة مهمتها أداء رسالة أو مقولة العمل الفني، وما يخص الأبعاد الحسية يمكن تلمسها بالجرعة الحسية المشحونة بالعمل.. هذه الشحنة التي شحن بها الفنان أصلاً فالفنان بطبيعته الإبداعية هو إنسان مسكون بالحس والفكر والتأمل والرؤية الخاصة التي تجعله يرى الواقع بصورة مختلفة ويستشف آفاق المستقبل و يبحث عن الرؤى الهاربة والعابرة في الحياة التي تؤثر فيه، ثم تسكن من خلاله بهذه الخامة التي تبقى تعبر بصورة مستمرة عن فكره وحسه وعصره وهمومه الثقافية.. وهنا يمكن أيضاً أن نتكلم عن الطبيعة العفوية التي يجب أن توجد في العمل الفني وتغنيه وتعطيه الحرارة والدفء المطلوب لتصل إلى المشاهد، وهنا أؤكد على العفوية في العمل التي تتشكل كتحصيل حاصل على يد الفنان الذي اكتسب الخبرة العملية والمهارة والإبداع من خلال طول تجربته ونوعيتها.
وفي أعمالي يمكن أن تلاحظ هذا بطريقة التعبير عن الوجوه في الأعمال التعبيرية، وكذلك يمكن أن تشكل بعداً آخر مهم في حالات أجسد فيها الشخوص الإنسانية التي لا يمكن أن تميز فيها الرجل عن المرأة، فباللمسات العفوية أشكل شخوصاً إنسانية لا يهم مذكرة أم مؤنثة حين يتطلب التعبير عن حالة إنسانية شاملة أحملها للشخوص.
**الخشب خامة لفتت انتباهي مؤخراً ولا سيما حين كانت تتطابق بعض القطع الخشبية أو الجذوع مع شخوص موجودة في الذاكرة أو اللاوعي، وسرعان ما أراها في هذه القطعة المعينة أو تلك من الخشب، وهنا أعالج بمهارة تضاريس تلك القطعة الخشبية وأرى فيها سهولة في الوصول إلى التعبير المعين بالخامة، وهذا ما يحدث أحياناً بخامة أخرى كالحجر، فالشخوص التي تسكن الذاكرة البصرية والرؤية التعبيرية سرعان ما تبحث هي بنفسها عن الخامة وتختارها، ونادراً ما أستخدم "بلوكاً" من الخشب بينما لجأت إلى جذوع وأشكال وقطع متطابقة لمخيلتي، وكان الخشب خامة مطواعة بين يدي مثلما كان الحجر وغيرها من الخامات في أعمال أخرى.
**هي مشاركة الطبيعة لي في العمل التي لا تتوفر مثلاً في حالة اختيار عمل أنفذه في الصلصال أو في الجبس ثم أنقله إلى خامة البرونز أو البوليستر وغيرها من الخامات.. وهنا نعود إلى مسألة العفوية والجرعة الحسية في العمل، ويمكن أن نذكر الحس كأحد الوسائل المباشرة للوصول إلى الإدراك والمعرفة.
*إحدى أعمالك النحتية لها مدلولات عميقة جداً وكانت نصفين: جذع شجرة كما حورته الطبيعة والنصف الثاني وجه إمرأة دقيق الملامح، ولاحظنا أن هذا العمل حاز على اهتمام كبير من النقاد وأصحاب الصالات ورواد المعارض المتذوقين.. حبذا لو تصف لنا أبعاد الحس التعبيري المتجلية في هذا العمل؟
**تفسيراً لما سبق ذكره كنت مسكوناً بقصة حريق حدثت في بيت من بيوت الحي، وقد تهادى إلى سمعي أن إمرأة احترقت في البيت، وفي هذا الوقت بقيت في ذاكرتي صورة عن إمرأة شابة ذهبت ضحية الحريق كما تشكلت في أعماقي صورة رمزية أخرى عن المرأة ومعاناتها وعطائها عبر التاريخ.. هذه الصورة أصبحت واضحة التشكل في ذاكرتي وحسي الوجداني.
بعد ذلك بفترة وجيزة شاهدت جذعاً من الخشب سرعان ما رأيت الصورة الرمزية للمرأة المحترقة في داخله، وبعد حصولي على هذه القطعة الخشبية ودخولها محترفي سرعان ما بدأت أعمل ولعدة أيام بدون توقف حتى تجلت هذه الرؤية بشكل واضح في العمل المنفذ، واتضحت مأساة الحريق بالنصف المحترق من جذع الشجرة الذي أكملته ببعض الأطراف الواضحة وختمته بالوجه الذي تظهر فيه اللمسة الواقعية والحركة المعبرة عن المعاناة في هذه الوضعية، لذلك كان العمل ملفتاً ومعبراً وبطريقة تحمل كل هذه المنظومة التي أسلفت عنها من الحس والخامة والفكر واللمسة العفوية وكذلك صدقية ورسالة العمل، وكل هذا عبر لي عنه الكثير من المتذوقين المثقفين الذين شاهدوه وعلقوا عليه بكثير من العبارات التي أعتز بها، بعضها كان شعرياً وبعضها الآخر تعبيراً عفوياً مطابقاً لرؤيتي في هذا العمل.
**من أقدم الخامات التي استخدمها الإنسان وحملها أحاسيسه وصنع منها أدواته ورسخ فيها عقائده وأفكاره هي خامة "الحجر"، وهي خامة جيدة ومتنوعة جداً ومنها ما هو صلب وصعب ومنها ماهو طري نسبياً وهو أيضاً موجود بالطبيعة بأشكال مختلفة وموحية، وقصة تعاملي مع الحجر تعود إلى حوالي عقدين من الزمن حيث كنت أشاهد ألواناً منه إستخدمته في تنفيذ أعمال كثيرة صغيرة الحجم نسبياً، ومن الأعمال القديمة التي تعود إلى العام/1990/ وما بعده، أعمال من الحجر البركاني الأسود الصلب، مثال عنه "المرأة المغتسلة" حيث جهدت في تنفيذه وصنعت منه تمثال هذه المرأة فأصبح كالعجينة الطرية بعد تنفيذه وصقله، ومن الأمثلة الأخرى عن أنواع الحجر وألوانه عمل " سمكة وحوريات" وهو من حجر الصوان المائل للصفرة، وقد تركت في هذا العمل بعض لمسات الطبيعة وألوانها في أجزاء العمل بينما لجأت في أجزاء أخرى إلى الواقعية الدقيقة مستخدماً الخيال والسريالية حيث زاوجت بين اللمسات العفوية والمساحات المشغولة والأخرى المتروكة دون معالجة، وكان عملاً مميزاً أقتنه وزارة الثقافة من إحدى المعارض السنوية التي أقيمت في المتحف الوطني في "دمشق".
ولاحقاً نفذت في خامة الحجر والرخام أعمال ضخمة نسبياً في ملتقيات محلية ودولية للنحت، مثل ملتقى "دمشق" الأول للنحت عام 1997 وملتقى الأمل الثاني بحلب عام 1998 وملتقى عاليه الدولي في "لبنان" عام 2000 استخدمت خلالها قطع كبيرة من الحجر منه الحجر الرحيباني والحلبي والرخام اللبناني، وهذه هي تجربة أخرى مع الحجر حيث توجب تنفيذ العمل بوقت محدد، ففي ملتقى دمشق" نفذت عملاً كنت قد نفذته بشكل مصغر سابقاً على حجر صغير، وفي الملتقيات الأخرى كان مباشراً.
*ما المراحل التي تمر بها المنحوتة حتى تأخذ الشكل التكاملي والتوازن في عملية الإسقاط
البصري، وحركة الانهيار والصعود بين خطوطها اللينة؟
**إن المراحل التي يمر فيها العمل النحتي متعلقة إلى حد كبير باختيار الخامة ونوع العمل، حيث يمكن أن يبدأ العمل بالصلصال ويمثل شخصية معينة مثل وجه تاريخي كمثال مجاهد أو شاعر أو كاتب.. بينما تمر المنحوتات الخزفية بمراحل التشكيل والصب والحرق والتزجيج.. وكذلك الأعمال المنقولة إلى خامة أخرى كالبرونز أوالبوليستر..
أما الأعمال المنفذة في الخشب أو الحجر أو المعدن المباشر فهي تستلهم من فكر الفنان وتنسكب في الخامة مباشرة، وربما تحتاج فيما بعد إلى بعض لمسات التعتيق أو التاثيرات على السطح هذا من الناحية التقنية، ومن ناحية التوازن في العمل والإسقاط البصري فأنني أنظر إلى العمل بدءاً من الكل إلى الجزء وبالعكس، وأعالجه بشكل عفوي ومتكامل دون أن يكون ذلك مؤكداً لدي.
**إلى جانب عملي كنحات يستهلك مني العمل بالتدريس في كلية الفنون الجميلة والبحث العلمي جانباً كبيراً من الوقت، وهذه أيضاً رسالة أخرى أؤديها في حياتي. أما ما يخص البحث العلمي فأنا منشغل بكثير من البحوث، فمنذ أن نلت شهادة الدكتوراه كنت مهتماً بالبحث في مجال النحت التدمري ثم تبع ذلك عدة بحوث حول الفن البيزنطي المبكر وعن دور المعالجات الفنية في تأريخ الأثار النحتية وبحوث أخرى كثيرة كلها منشورة في دوريات محكمة.. أخرها بحث حول التمائم الخزفية والفخارية في الحضارة المصرية القديمة، وهذا البحث أجريته في "القاهرة" وينشر في مجلة علوم وفنون تصدرها جامعة "حلوان" وكذلك ألفت كتاب في تاريخ الحضارات يدرس لطلاب كليات الفنون الجميلة، ولا زلت مهتماً بكثير من الموضوعات التي تتعلق بحضارات "سورية" وفنونها القديمة وأثارها..
وما يخص البحث الأخير حول التمائم الخزفية والفخارية في الحضارة المصرية القديمة، فقد كرست وقتاً طويلاً لذلك وتوصلت إلى نتائج كبيرة حول الفترات المبكرة التي عمل فيها الفنان المصر ي القديم بالنحت والخزف النحتي والفخار حيث شكلت القطع النحتية الصغيرة كمّاً كبيراً من النحت في الحضارة المصرية القديمة وحملت أهمية كبيرة أستخدمت كتمائم وتعاويذ ومعلقات وألواح كثيرة في غاية الأهمية وفي غاية الدقة، قلد فيها المصري القديم الحجر الكريم وسعى إلى صقلها وتلوينها وكان لها أهمية رمزية كبيرة من كل النواحي في الشكل والمضمون واللون والحجم وكل شيء.
**سبق وعرضت الكثير من أعمال الرسم و التصوير في معارض عامة منها معارض مهرجان "المحبة" ومعارض النقابة والمعارض المشتركة ومعارض أساتذة كلية الفنون الجميلة.. وأنا أحب الرسم مثل ما أحب النحت وأمارسه.
** تجسد هذه اللوحة "شاطئ النيفا" في "سان بطرس بورغ" في "لينغراد" سابقاً، وأهم ما في اللوحة أنني رسمتها في جو بارد جداً وكان ذلك في عام /1986/، حيث كنت أقف في زاوية من الشارع أتأمل وأرسم، ودرجة الحرارة في الجو تتجاوز عشرة تحت الصفر، كنت مطراً لكي أكملها، وبقيت مستمراً في الرسم حتى سقطت الريشة من يدي ولم أعد أستطيع الإمساك بها فيختلج ذهني العودة إلى منزلي القريب من هذا الشاطئ، ودهشت عندما رأيت أناساً كثيرين واقفين خلفي ليتفرجوا علي كيف أرسم اللوحة تحت هذه الظروف.
*يبدو أن الالتزام بقسم النحت في كلية الفنون أبعدك نسبياً عن القيام بمعارض شخصية، وجعلك تكتفي فقط بالمشاركة في معارض مشتركة، أم أنها مجرد مرحلة؟
**ليس هذا فقط إنما الصعوبات والعوائق أمام النحات بشكل عام ولا سيما في مكان تنفيذ النحت أو الظروف الصعبة التي تحيط بالنحات حيث لا يمكن لك أن تستخدم آلات تصدر أصواتاً أو خامات تصدر غبار أو أدخنة .. في محيط سكني مثلاً ولايمكن لك أن تنقل بسهولة أعمال نحتية ثقيلة من مكان إلى أخر وغيرها من الصعوبات لذلك فإنك ترى أن معارض النحت نسبياً قليلة جداً قياساً بأعمال التصوير والغرافيك إضافة إلى ما تشكله أعباء الإلتزام بالتدريس والإهتمام بالطلبة والأعباء العلمية الأخرى، ولكنني أتوق جداً إلى إقامة المعارض الفردية والسفر فيها إلى أماكن مختلفة من العالم، وهنا يمكن القول أن النحات يحتاج إلى رعاية ومساعدة أكبر من قبل المؤسسات الثقافية..
يذكر أن:
الدكتور "فؤاد طوبال"، نحات ورسام وباحث في الفن التشكيلي، تخرج من قسم النحت بكلية الفنون الجميلة جامعة "دمشق" عام /1977/، عين معيدا متفرغا في كلية الفنون الجميلة عام
/1978/، حاز على شهادة الدكتوراه "PH.D" من معهد "ربين سان بطرس بورغ ـ لينينغراد" الأكاديمية السوفييتية عام /1987/ ، نال مرتبة أستاذ قسم النحت في كلية الفنون الجميلة في "دمشق" عام /2007/، وهو عضو نقابة الفنون الجميلة ـ "سورية"، واتحاد الفنانين التشكيليين العرب، شارك في معارض جماعية مختلفة وفي عدة ملتقيات محلية ودولية، وعمل إلى جانب الفن في الإخراج الفني والديكور والمسرح والموسيقى، وله مساهمات نقدية، عمل في "المملكة العربية السعودية" مدرسا ورئيسا لقسم التربية الفنية، نشر العديد من المؤلفات و الأبحاث في الفنون والحضارات القديمة.. وله عدة أعمال نصبية، ومشاركة في تنفيذ النصب التذكاري للمجاهد "صلاح الدين الأيوبي"، أعماله متنوعة منفذة بالحجر والرخام والمعدن المباشر والبرونز والبوليستر والخزف والفخار والخشب ، بالإضافة إلى أعمال غرافيكية وأعمال في الرسم الزيتي والأكوريل.