شهدت الساحة المسرحية السورية الكثير من العروض التي تشكل فيها الغرفة مكاناً تجري فيه الأحداث، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: "أوضة سورية"، "المهاجران"، "مونودراما"، "حلم ليلة عيد"،... وتشير الدراسات المسرحية منذ عرض "الغرفة" لمؤلفها "هارولد بنتر" 1957 إلى أن هذا المكان المسرحي يجعل قاطنه أكثر قدرة على البوح بأسراره، والإعلان عما يشبه فضائح تستفيد من سينوغرافيا الغرفة لتصارح المتفرجين بحوارات متميزة بخصوصيتها.
ففي عرض "المهاجران" لمخرجه الدكتور "سامر عمران" كانت غرفة الملجأ هي مكان للإفصاح عن جميع النوازع الداخلية لشخصيتين تقطنان غرفة في ذاك الملجأ، وليس العالم الخارجي أكثر من ملامح غامضة يحمل تأثيراته النفسية على شخصيتي العمل، اللذين يفضلان العيش داخل الغرفة، على التعرض لهمجية الخارج وقسوته، يقول "عمرن": «إن أي مسرحية لها مكانها وموقعها على خشبة المسرح، واختيار مكان العرض تحكمه بنيتها الداخلية، إضافة إلى مقصد المخرج من تلك المسرحية، بمعنى أن طبيعة العرض هي التي تقرر مكانه، وفي عرض "المهاجران" كان لدينا رغبة بجعل المتفرج يصدق أحداث المسرحية، إضافة إلى أن يعايش المعنى الإيحائي البعيد لغرفة الملجأ».
المسرح منذ نشأته يتجه نحو الأماكن البديلة، كالمسرحيات التي تتم ضمن الملاعب أو على شاطئ البحر، فعروض "البيرفورمانس" بشكل عام غيّرت النظرة التقليدية إلى مسرح العلبة الإيطالية، بحدوده الضيقة
وأضاف أستاذ التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية: «المسرح منذ نشأته يتجه نحو الأماكن البديلة، كالمسرحيات التي تتم ضمن الملاعب أو على شاطئ البحر، فعروض "البيرفورمانس" بشكل عام غيّرت النظرة التقليدية إلى مسرح العلبة الإيطالية، بحدوده الضيقة».
أما في مسرحية "أوضة سورية" لمخرجته "علا الخطيب" وبطولة "سعد الغفري"، فتحول المكان/الغرفة إلى موضوع بحد ذاته، يجتمع فيه زوج وزوجة بطريقة كاريكاتيرية، وتضاعف السينوغرافيا المشغولة من ضيق الأمل الممنوح للشباب السوري في امتلاك مكان للحياة، وعن هذه التجربة يخبرنا "الغفري" بأن نص المسرحية كان يدعم فكرة مسرح الغرفة، والعمل ضمن هذا الشرط، ويقول: «المسرح فن شرطي، ولذلك كان بالإمكان استخدام خشبة مسرح القباني كلها، أو حتى مسرح الحمراء، للحديث عن تلك الغرفة الضيقة، لكن التأثير النفسي سيكون أكبر في حال اقتصار مساحة الغرفة على جزء صغير من خشبة القباني، وهذا ساهم في دعم الفكرة التي يقوم عليها العرض أساساً».
في الوقت ذاته شهد العام الماضي محاولة مسرحية لجعل غرفة حقيقية داخل منزل حقيقي مكاناً للعرض، من خلال مسرحية التوءم ملص التي حملت عنوان "مونودراما"، حيث تم استدراج الجمهور المسرحي إلى بيتهم، وبعد ذلك تم إعدادها بطريقة أخرى لعرضها على مسارح تقليدية في العاصمة، وبعض المحافظات، وتلك المحاولة أثارت حولها الكثير من التساؤلات، كما تم ترشيح ذلك العرض للدخول ضمن قائمة "غينيس" كأصغر مكان لعرض مسرحي، واللافت اليوم هو الإعلان عن تظاهرة تحمل اسم "مسرح الغرفة" ستتم في غرفة الأخوين ملص ذاتها، وعن هذه الفكرة يقول "أحمد ملص": «عندما قدمنا أنا وأخي عملنا "ميلودراما" في غرفتنا الخاصة، تضاربت الآراء في كون مسرح الغرفة موجود في العالم سابقاً أو لا، رغم ترشحنا للدخول في كتاب "غينيس" عن تلك المسرحية، لكن ما أعلمه أن تظاهرة كاملة تتمحور حول مسرح الغرفة، هي تظاهرة غير مسبوقة في العالم».
وعن تظاهرة "مسرح الغرفة" التي ستقام في الفترة بين الثالث عشر من آذار والثالث والعشرين منه، يوضح "ملص": «ستتضمن تلك التظاهرة ستة عروض، مدة كل منها عشر دقائق، ولا تنتمي تلك العروض إلى نمط مسرحي محدد، ولكن ما يربط بين تلك العروض هو كلمتا "مسرح"، "جورج وسوف"، إضافة إلى عدد من المؤثرات المسرحية هي "قرع باب، ضحكة عالية، صفعة كف"، وأيضاً هناك شرط أن يؤدي كل عرض ممثلان فقط، لا أكثر، وهذا شبيه بما تقوم به بعض العروض الفرنسية من اختيار كلمات بانيو، طائر، وصوت قرع جرس...».
من جهته يرى الناقد المسرحي "سامر محمد إسماعيل" أن الغرفة باتت تشكل ملمحاً مكانياً يكاد يغطي مساحته مجمل العروض الأخيرة، ويقول: «هذه الغرفة لا تلبث أن تؤدي أدوراً مختلفة على مستويات عدة أهمها الشكل السينوغرافي المقترح لصياغة المكان المسرحي على الخشبة، ومما لا شك فيه أن هذه الغرفة باتت نموذجاً متخيلاً لدى المشاهد السوري عن الطريقة التي يأخذها الفضاء أمامه في عروض كثيرة داخل العلبة في مسرح الإطار الإيطالي».
ويضيف "إسماعيل": «ما يلفت الانتباه هنا أن المصادرة على هيئة المكان لدى المتفرج؛ صارت- وبشكل نهائي- دلالة على فكرة الجمهور عن ممثلين يسكنون مساحتهم الضيقة المعزولة على طول فترة المسرحية، أو بتعبير آخر فكرة هذا الجمهور عن ساكني الخشبة، وفعاليتهم داخل الرسم المؤطر لأفعالهم، ونواياهم، وقدرتهم على التأثير في المتفرج الزائر للغرف المسرحية السورية».
ويرجع الناقد "إسماعيل" أصل مسرح الغرفة إلى مسرحية "الغرفة" ل"هارولد بنتر" التي تكاد تكون- حسب رأيه- من أفضل النماذج التي يعلق عليها المسرحيون السوريون آمالهم للترحيب بجمهورهم، واستدراجه إلى المعيش الخيالي لحياة الممثلين في زمن العرض.
ويقول أمين تحرير صفحات المسرح في جريدة "شرفات الشام": «لئن كانت غرفة "بنتر" مشغولة وفق أسلوب المدرسة الطبيعية، إلا أنها لا تعتمد في طبيعة علاقاتها بين الشخصيات المسرحية أو على مستوى الحبكة والصراع على هذا المذهب، فقد ظلت الغرفة السورية عبارة عن ترداد مستمر لأسلوب "هنريك إبسن" وغرفة زواره، حيث يلتقي الفضاء الخارجي بالفضاء الداخلي لهذه الغرفة عند أبواب الكواليس على نحو (يخرج.. يدخل)، من هنا كانت الصيغة التي تعامل معها المسرحي السوري ضيقة وغير باعثة على التخيل إلا بما يفرده النص من تأويلات تعتمد على المادة الدرامية من قصة العرض وتضاعيف شخصياته، لذلك تبقى المسرحية السورية نوعاً هجيناً بين فضاءين، الأول داخلي يحتل عبر غرفه المغلقة/المفتوحة نوعاً من الخلوة، والمصارحة المؤلمة، والنوستالجيا الصارخة، والثاني فضاء خارجي تحيده الغرفة، وتجعله أكثر غموضاً وسوداوية، حتى بالنسبة لخروج الممثلين ودخولهم عبر كواليسه».