حين تخطو خطوتك الأولى إلى مشغله، تنبعث الأسئلة الكبرى المخبأة في أعماقك بحثاً عن إجابات طال انتظارها، لا يدعي لنفسه القدرة على الإجابة، لكن أعماله هي التي تبرز أمامك كأجوبة منتهية، وفي كثير من الأحيان كأسئلة أكبر من تلك التي فكرت فيها في أي وقت مضى، الفنان التشكيلي والنحات "عادل خضر" استقبلنا في مشغله وكان لنا معه الحوار التالي.
"عادل" فنان مجتهد ومواظب على عمله الفني، يغوص في اتجاهات عديدة ويتألق بها، ولعل أبرز هذه الاتجاهات تجربته في فن "الميدالية"، الذي يعتبر برأيي من أهم تجاربه، كونها حاكت العديد من الشخصيات التي تعتبر رموزاً للثقافة العربية، وصورهم راسخة بتفاصيلها في ذهن المتلقي، وهنا يكمن التحدي الذي نجح "عادل" بتخطيه ببراعة كبيرة، أما تجربته في العمل على الجبص فكان له العديد من الأعمال التجريدية العميقة التي تعتمد على رموز هندسية، أسس من خلالها لتنفيذ أعمال كبيرة"نصبية"، أما عن المعدن، فالمعدن قبل كل شيء هو تدوير شيء مستعمل، وتحويله من شي ملقىً إلى قيمة جمالية وفنية، وقد تناول عادل في تجربته نموذجاً مصنعاً ومبسطاً لإنسان اليوم المفرغ من الداخل ، تكرر هذا الشخص في تجليات كثيرة، تشبه إلى حد بعيد مسرحة من المسرح النحت، إذ تظهر هذه الشخوص المتشابهة بشكلها، بعلاقاتها الحياتية المتنوعة
** لا يمكن التفريق بين الخامات إلا بقدر ما تمنحك الخامة القدرة على التعبير عن أفكارك من خلالها، وهذا يتعلق بالموضوع الذي يعالجه الفنان، فالخامة هي إحدى أدوات التعبير، فقد تختار موضوعاً يصعب التعبير عنه بالرخام أو الحجر لاحتوائه على فراغات كبيرة مثلاً. إذاً ما يفرض التوجه نحو خامة معينة دون غيرها هو الموضوع أولا، ثم التشكيل الفني. ربما يقول فنان ما: إن خامة بعينها توافق مزاجه أو إحساسه، أما بالنسبة لي فأحب كل الخامات، خاصة أني استمتع بإخضاعها للتجريب واستنفار طاقاتها الكامنة وطاقاتي أيضاً، من خلال الصراع والتعارك معها خلال عملية التشكيل.
** لدى شعوب هذه المنطقة التي نعيش فيها كنوز ثقافية وثراء معرفي له طابع إنساني، وأنا أحاول قدر المستطاع أن أجسد في أعمالي ما تحويه من القيم والمثل النبيلة، هي إذاً مسألة ثقافة نؤمن بها، ولقد وجدت بالسيد المسيح رمزاً للتضحية والفداء والدفاع عن أفكاره حتى الموت، إن فكرة الموت ثم الانبعاث من جديد هي فكرة عظيمة، وهي ذاتها الفكرة التي تقول (إن نمو الشجرة هو فناء البذرة ولكنه في الوقت نفسه ولادة بذرة جديدة متطورة عن الأولى) إنها شجرة الحياة، أضف لذلك أن الصلب فداء للآخرين والمعرفة المسبقة بالموت هي فكرة نبيلة مازال لها تجلياتها المعاصرة الجاذبة لمحاربة الظلم أينما كان، إن هذه الأفكار استهوتني ولذلك جعلته يعلو ويتعالى على صليبه فهو أكبر من صليبه لأقول إنه تغلب على ظالميه. إن هذه الأفكار أصبحت ملكاً للإنسانية جمعاء ومن هنا تأتي أهميتها المستمرة.
** إن الفكرة هي انعكاس لواقع موضوعي، وبنفس الوقت فهي تؤثر على ذلك الواقع، وبما أن الفن هو فعل إنساني معرفي واع يعكس أيضا الواقع في أشكال وصور فنية، إذاً فالأفكار التي يتناولها الفنان هي ليست خارج المحسوس، وعلى هذا فالفكرة هي منطلق أولي يستدعي الشكل من خلال توظيف المهارة الفنية لتركيب وتنظيم وبناء عناصر العمل بشكل متوازن ومتوافق مع المضمون أو الفكرة، وهذه العملية ليست بالبسيطة إنها تفاعلية بين أحاسيس الفنان، ورؤيته الجمالية، وقدرته على استخدام كافة عناصر التشكيل، لأن الفن تعبير مكثف ومختزل للحياة.
** كثيراً ما يحدث هذا الأمر لأن تشكيل العمل الفني يتم ضمن سياق عقلي وفكري وجمالي وتتدخل فيه إحساسات الإنسان، حيث تبدأ الفكرة بشكل بسيط ثم تتطور إلى شكل ربما يكون أكثر تعقيداً أو بساطةً، وفي تلك اللحظة التي يحس فيها الفنان باكتمال الخطوط النحتية واكتمال التشكيل النحتي، يشعر برضاه عن العمل الذي قام به، ويقدمه للناس. على هذا فإن العمل الفني يتحول بيد النحات من مرحلة إلى أخرى، هي عملية بناء خطوة.. خطوة، مثل الإيقاع الموسيقي علامة.. علامة، لتصل إلى جملة فنية متكاملة من حيث الجمال والإحساس والتعبير.
** الشباب اليوم لديهم أدوات معرفية أوسع وأهمها الإنترنت، فهم بهذا المعنى مطلعون أكثر على الأعمال العالمية والمتاحف المختلفة، ما يؤثر على منتجهم، لذا فمن المفيد التواصل معهم لغنى مخزونهم، وبطبيعة الحال إن كل جيل جديد سيكون أكثر تطوراً وحداثة، أما ما ينقص الشباب فهو الخبرة والتقنية بالتعامل مع الخامات، وملتقى من هذا النوع يتيح لهم إمكانية التعلم والاستفادة من خبرة الأقدم عهداً في التكنيك اللازم لكل خامة، إضافة إلى صراع الأفكار بين الجيلين وهو صراع مثمر وجذاب.
** هنا يمكن الحديث عن شيء نفسي، ربما لأن هاتين القامتين كانتا دائماً أكبر في داخلي من المنحوتات التي اشتغلت عليها وربما أفضل تعبير عما منعني من تقديمهما هو قول الشاعر نزار قباني :"إن الحروف تموت حين تقال"!.
** كان الملتقى من أنجح الملتقيات التي أقيمت في سورية، وهو ملتقى دولي شارك فيه العديد من النحاتين العالميين من "تركيا، استراليا، بولونيا روسيا"، ونحاتين عرب وسوريين. عملنا في مكان أثري يبعد عن مدينة "السويداء" 3كم عمره 3000 سنة، وإدارة الملتقى كانت جيدة جداً، وراحة الفنان كانت مؤمنة بشكل ممتاز، ما أتاح لنا إمكانية تقديم أعمال فنية تستوفي شروطها الإبداعية.
قدمت عملاً بارتفاع 4.5 أمتار مع القاعدة، تناولت فيه فكرة بعنوان "نداء لإنقاذ الحياة" وهو عمل ذو طابع نصبي، ومن حيث التشكيل هو كتلة معمارية قريبة إلى المسلة’ ويمكن أن نراها عمود روماني مع تاج، في الربع الأدنى من المنحوتة أحدثت فراغاً بشكل مربع وهو يوحي بالضيق في علم الهندسة، وفيه بيضة للإيحاء بسجن الحياة أو المستقبل الحبيس، وفي الربع الأخير فراغ بشكل مستطيل وهو بعلم الهندسة أكثر راحة وحرية يتصاعد الشكل لينتهي بوجود طائر في حالة نداء لإنقاذ البيضة السجينة، حماية البيضة رمز للوجود، ومطلب لولادة الجديد، ويمكن للعمل أن يقرأ قراءات أخرى ومن هنا تأتي واحدة من جماليات العمل الفني، أي إمكانية قراءته قراءات متعددة.
** إن العمل الفني يحرر طاقتي النفسية والحركية ويمنحني شعوراً بالحيوية والحياة، إنه شعور الحرية الممتع. إن العلاقة بالعمل الفني كلما كانت حميمية انعكست إيجابا على النتائج، ومن الناحية الفنية هاجسي تقديم الجديد سواء من ناحية الشكل أو المضمون وهذا من الصعوبة أن يتحقق بسهولة، ولذلك فهو هاجس يدفعك دائما لأن تبحث بجدية للوصول إلى هدفك.
النحات والفنان التشكيلي "زكي سلام" يحدثنا عن أعمال النحات "عادل خضر" فيقول: «"عادل" فنان مجتهد ومواظب على عمله الفني، يغوص في اتجاهات عديدة ويتألق بها، ولعل أبرز هذه الاتجاهات تجربته في فن "الميدالية"، الذي يعتبر برأيي من أهم تجاربه، كونها حاكت العديد من الشخصيات التي تعتبر رموزاً للثقافة العربية، وصورهم راسخة بتفاصيلها في ذهن المتلقي، وهنا يكمن التحدي الذي نجح "عادل" بتخطيه ببراعة كبيرة، أما تجربته في العمل على الجبص فكان له العديد من الأعمال التجريدية العميقة التي تعتمد على رموز هندسية، أسس من خلالها لتنفيذ أعمال كبيرة"نصبية"، أما عن المعدن، فالمعدن قبل كل شيء هو تدوير شيء مستعمل، وتحويله من شي ملقىً إلى قيمة جمالية وفنية، وقد تناول عادل في تجربته نموذجاً مصنعاً ومبسطاً لإنسان اليوم المفرغ من الداخل ، تكرر هذا الشخص في تجليات كثيرة، تشبه إلى حد بعيد مسرحة من المسرح النحت، إذ تظهر هذه الشخوص المتشابهة بشكلها، بعلاقاتها الحياتية المتنوعة».