"الشاهد" عنوان المعرض الأحدث للتشكيلية "ريما سلمون" وهي المعروفة بانشغالها الدائم بتقنيات اللوحة وما يمكن أن تضيفه من خلال تلك المواد إلى التعبير، الذي هو الأساس في عملها التشكيلي خلال مراحل تجربتها المختلفة، والتي تتصف لوحاتها عموماً بتقشـّفها اللوني وثراء سطحها الغرافيكي، والذي توليه الفنانة أهمية قصوى ليغتني بالمؤثرات البصرية العالية في قيمها التعبيرية والجمالية.
إن من خلال الحضور البهي للشكل "على الرغم من بشاعته أو الأصح حقيقته" وهي تصيغه بتفاصيله البديعة بعد اختزاله، وهي المهتمة أيضاً في نفس الوقت بالتفاصيل التي تجتهد على إبرازها في بعض المناطق من الجسد، كنهايات الأيدي والأرجل وشكل العيون، لكثير من التعبير "ملاذها في اللوحة"، وما يعكسه من دلالات وطاقات إيجابية وسلبية على المشاهد، وهي المشاهد الأول والشاهد على ما يتم إنجازه خلال مراحل العمل الذي غالباً ما يفاجئها وهي مستمتعة بانشغالها من البداية بما تضيفه من مواد أثناء التأسيس على قماش اللوحة الذي يُظهر بعض التضاريس موحية لها بأطلال ذلك الشكل، أو ذلك الشخص الذي تستقدمه تدريجياً إلى صلب العمل، حيث المكان الذي يضمّ بعد ذلك مجموعة النسوة وقد جلسن على نسق واحد بمواجهتنا، وكأنهن من عائلة واحدة، فبقوا محدّقين بذهول إلى الأعلى بانتظار بارقة أمل عساها تقلّل من حجم المصيبة التي جمعتهم في هذه المناسبة، وفاضت بها الوجوه والأجساد التي كادت أن تخرج من الكادر من شدة ازدحامها في ذلك المكان الذي ضاق بهم وبمصيبتهم .
لقد رسمت الفنانة في مراحل سابقة من تجربتها المرأة وحيدة، مستفيدة من رمزية الموضوع ودلالاته، ومن وجهها هي الذي ترى فيه كثير من الإشارات والرموز، وفي مناسبات تالية رسمتها إلى جانب الرجل لتدلّل على تكامل وتلاحم تلك العلاقة الجدلية والأزلية بينهما، من حاجة المرأة دائماً لحنان الرجل وحمايته، وهي اليوم كما نلاحظ في هذا المعرض عادت من جديد لتبرز قدرات جديدة في هذا الموضوع "المرأة" بمفردها ، وما تواجهه في المصائب، كالحروب المشتعلة في أكثر من بقعة على هذه الأرض والتي تفقد بعدها معظم النسوة رجالها، لتتحمّل بعد ذلك كل المسؤولية بصبرها وصمتها، وبعض الأمل ربما بلحظات أقل شقاءً، وهذا ما جسّدته الفنانة في معظم لوحاتها، وبخاصة تلك التي اصطفـّت على جدارين قاربت فيها من حيث الشكل العام مشهداً مؤثّراً لجلسات العزاء الخاصة بالعائلة بعد الفقدان في ذروة الفجيعة.
في "الشاهد" عنوان المعرض الأحدث للتشكيلية "ريما سلمون" بغاليري "أيام" ب"دمشق" آذار 2011، نلاحظ في مجموعة أعمالها الجديدة والتي قد لا تبتعد في صياغاتها على ما تعودنا مشاهدته سابقاً في لوحاتها من قيم تعبيرية عالية تميّزت الفنانة في إظهارها بتكثيف شديد إن من خلال اللون الواحد وتدرجاته باتجاه الأبيض من الإضاءة التي تمثّل في لوحاتها الأمل لشخوصها، أو باتجاه الأحمر الذي يمنح الوجوه كثيراً من الحيوية، على الرغم من هول الفاجعة وهو يحوّل تلك الوجوه بحالاتها المتباينة في مدى إحباطها إلى ما يشبه المسوخ من حجم التشوه الذي أصابها، وهي تمطرنا بالأسئلة وتجعلنا بمواجهة تلك الحالات الغريبة والمستهجنة لشخوصها عموماً معلنة صراحة عن مرارة الحقيقة التي نخفيها نحن، بينما يواجهونها هم بالصبر وبعض الأمل مجتمعين في المصيبة، لصعوبة التمييز في مدى تأثـّرهم بالحدث من خلال التعبير الموزّع على كافة أجزاء المشهد والشخصيات بنفس الأهمية، بدءاً من المبالغة بوضعية الأرجل وطريقة تشبّثها بالأرض وحتى نهايات الجسد وتفاصيل الوجه ونظرة العيون المتأمّلة بالأعلى، وكأنها بذلك تشير بشكل غير مباشر إلى "الزمان والمكان" ، تلك العلاقة القائمة أصلاً بين ما هو مادي في الأرض، وروحي متجسّد في السماء.
إن لوحات "ريما سلمون" بالعموم وفي هذا المعرض بشكل خاص تُظهر للمشاهد ومن غير عناء مدى تمكّن الفنانة من أدواتها ، فهي تستخدم أداة عريضة تترك على السطح أثراً قاسياً، أو من فرشاة عريضة ولمسات قوية ونزقة وبتكثيف واختزال شديدين في الوقت نفسه تجسّد ذروة الحدث "الفاجعة"، وبالموازاة نلاحظ اجتهادها على إغناء الكادر من خلال تدرجات ذلك اللون البني، مستفيدة من قيمه الغرافيكية وباتفاقه مع الأسود لكثير من التعبير عن الحالة الخاصة التي أرادت تجسيدها في هؤلاء النسوة على اختلاف جنسهم وصفاتهم المتداخلة أحياناً بين الذكورة والأنوثة التي لا تعنيها بالنتيجة، أكثر من الغاية أو الهدف الذي تسعى الفنانة الوصول من خلاله إلى أقصى حالات التعبير عن الأحاسيس أو المشاعر في تلك اللحظة من الرسم.
في هذا المعرض الذي خصصت الفنانة "سلمون" جانباً منه لـ "البورتريه" ، ربما لإغناء المعالجة أكثر في تلك الوجوه التي رسمتها منفردة هذه المرة كموضوع مستقل ، أو كتفصيل لموضوعها الذي ما زالت تفضله إلى اليوم وتشتغل عليه برغبة الباحث لاكتشاف قيم جديدة ومثيرة في كل مرة، هي اليوم بالإضافة إلى الحسّ الغرافيكي العالي الذي نتلمّسه باللون وبعض ما ظهر من خطوط نتيجة تأثير الفرشاة أو أداة الرسم على السطح، هناك الإحساس بالحجم والذي بدا أكثر وضوحاً في هذا المعرض من الرغبة التي نلاحظها لدى مجموعة الأشكال في اللوحة الخروج منها باتجاهنا، وهذا برأيي ما منح تلك التجربة مقوّماً جديداً وإضافياً لما تميّزت به دائماً، وهو الإحساس بالكتلة من خلال المنظور الذي ظهر على أكثر من مستوى في اللوحة بشهادة الضوء الذي جاء غزيراً على بعض المناطق فيها، ليمنح العناصر المختلفة في عملها مصداقية و جدية بحثها التشكيلي والتقني في نفس الوقت.
تقدم الفنانة "ريما سلمون" في هذا المعرض ، رؤية جديدة لخصوصية موضوعها في العمل، وكأنها تقصد مشاركتنا هواجسها أكثر، فتبدو اللوحات الجديدة وكأنها مشغولة بعدسة مقرّبة، حتى لتواجهنا تلك الوجوه بفيض من صدق التعبير يصل إلى حدّ الصدمة، ودائماً بنفس المجموعات اللونية والتي غالباً ما تقتصر على البني الموشّح بالأحمر أو بالأسود ومشتقات كل منهما، مستفيدة من قيمتهما التشكيلية كلون، والرمزية كدلالة، لكثير من البوح عن الحالة النفسية والعاطفية التي تختزنها تلك المجموعات من الأشخاص أثناء اجتماعهم وفي جلساتهم الخاصة، ودائماً بمواجهتنا.
وفي النهاية أرى أنه لا بدّ من الإشارة إلى حالة الصدق لحظة الرسم ، والتي تصلنا من خلال التعبير الذي يفيض مع الشكل إلى حدود الكادر باتجاهنا، تلك اللحظات غالباً ما تبدو مؤثـّرة وموجعة، وهي الأهم بالنسبة للفنانة دائماً بما يعنيها الموضوع بخصوصيته وحساسيته، وهذا غالباً ما يتعارض مع غاية السوق والمقتني الذي يبحث عن الجماليات في العمل الفني والتقنيات التي تغني اللوحة وتجعلها مرغوبة في الاقتناء، والفنانة "ريما سلمون" تعرف مسبقاً أن لوحاتها ليست من هذا النوع ولا تحمل تلك الهموم، فبقيت مخلصة لموضوعها الذي ما زال يقدم لها المزيد من احتمالات الدهشة والمفاجأة بما يظهر فيها من أشكال وأناس تشعر بقربهم وتعاطفها معهم، وكأنها لا تريد مغادرة هذه المرحلة لطالما بقيت هناك إشارات وجملة من الأسئلة في اللوحة التي ما زالت غير قادرة على الإجابة عليها.
ستبقى تلك الأسئلة وغيرها من الإشارات، محفـّزاً للفنانة لكي تبحث أكثر في الشكل واللون ومختلف عناصر اللوحة عن قيم جديدة ترضي بعض غرورها، لتقدم في المستقبل نتائج بحثها المجتهد والذي نشاركها الأمل بأن يكون، كما تتمنى، ومثلما كان دائماً، مختلفاً بجمالياته، مفاجئاً بجديته ومدهشاً بجديده.