"وانيس باندك" من المخرجين السوريين الأوائل في "سورية".. والمحدثين في عالم المسرح "بحلب"، فمنذ البدايات ورغم الظروف التي كانت سائدة عمل على تحقيق حلمه ومعرفته متحدياً ما أحاطه من الصعوبات.. فأخرج الكثير من النصوص المسرحية المقتبسة من الفكر المحلي والعربي والعالمي.. وعالج بها الهم الإنساني وقضاياه الاجتماعية، فكانت عروضه امتداداً لنهضة المسرح في مطلع السبعينيات والثمانينيات.. وأثراً لا ينسى في الذاكرة الفنية في "حلب".
eSyria زار الدكتور "وانيس باندك" وأجرى معه هذا الحوار، وفيه قراءة لنشأته وواقع المسرح السوري، والأمور التي يتطلبها لنهضته مجدداً.
إن الأدب المسرحي هو المدرسة الروحية الأكثر قرباً للمتأمل
** مع بداية السبعينيات بدأت نشاطي كممثل مع فرق الهواة، وحققت عبرها بعض النجاحات.. ولفت الانتباه في مهرجان الهواة الذي كان يقام في "دمشق" سنوياً ثم انتقل المهرجان إلى "حلب"، وبعد ثماني دورات توقف هذا المهرجان الذي لعب دوراً هاماً في حياتنا المسرحية آنذاك، وخلق مجموعة من المسرحيين الذين تركوا بصماتهم في الحركة المسرحية في "سورية" حتى الآن.
في نفس الفترة عملت ممثلاً مع مسرح الشعب بحلب عام /1974/ في مسرحية "الأرض والذئاب" تأليف الكاتب المسرحي"أحمد الطيب العلج" والتجربة الأهم في هذه المرحلة مشاركتي في المختبر المسرحي الذي كان يشرف عليه المخرج "وليد القوتلي" عام /1980/ في "دمشق"، وكنا نقوم بالتأليف والإخراج والتمثيل الجماعي، وكان هذا المختبر الذي استمر لمدة سنة كاملة بمثابة معهد مسرحي مكثف لنا جميعاً، ومن بيننا ظهر فنانون مبدعون أذكر منهم "بسام كوسا، وندى الحمصي، وواحة الراهب.."
** في عام 1981 عدت إلى "حلب"، وأسست فرقة "الشهباء" المسرحية وشاركني في التأسيس الفنانان "رضوان سالم، وماهر دروبي" حيث عملا معي بالتمثيل في معظم أعمال الفرقة.. وفيما بعد في المسرح القومي.
عملت مخرجاً ومديراً لفرقة "الشهباء" حتى نهاية الثمانينيات، والأعمال المسرحية التي قدمناها شكلت تظاهرة فنية مهمة في "حلب"، وذلك حسب رأي النقاد وقد دخلت بعض هذه الأعمال تاريخ المسرح في "حلب" مثل " مسرحية "الدراويش يبحثون عن الحقيقة، واحتفال ليلي خاص بدريسدن"، و"سكان الكهف" للكاتب العالمي "وليم سارويان".
** اعتمدت العروض التي قدمتها على نصوص مسرحية محلية وعربية وعالمية.. عالجت من خلالها بعض القضايا التي تهم المواطن اجتماعياً وإنسانياً، وحاولت الخروج عن الشكل التقليدي في عرض النصوص وقدمتها برؤى متعددة "تعبيرية، ورمزية، ومحلية"، تلك التجارب تركت أثراً طيباً لدى الجمهور.
مدينة تنهض من وسط الركام
** قمت بأعمال كثيرة على صعيد الإخراج والتأليف، أذكر منها "احتفال ليلي خاص بدريسدن" "لمصطفى الحلاج" و"سكان الكهف" "لوليام سارويان" واثنان فوق الأرجوحة للكاتب الأميركي "سالنجر" وفي المسرح القومي قدمت أعمالاً "لوليد إخلاصي" "من يقتل الأرملة"، و"الميراث " للراحل "ممدوح عدوان"، وآخرها عرض أشباح المدينة.
** نص "أشباح المدينة" مستمد من التاريخ ومن الوثائق التي كتبت عن "حلب" في الرابع الأول من القرن التاسع عشر، لا لتستعيده بكل تفاصيله المحزنة.. بل لتؤكد على راهنيته وإسقاطه على واقع الوطن العربي وما يجري فيه من أحداث. أما قصة العرض فتدور أحداثها في عام /1798/، حين يصدر أمر سلطاني عثماني يقضي بنصرة "مصر" وصد حملة "نابليون" عنها، فيتجه من "حلب" سبة آلاف فارس وبغيابهم عن المدينة تفرض الضرائب على الأهالي ويزداد الناس قهراً، وتبرز الفوارق الطبقية والاجتماعية، بل يتعرضون إلى مأساة أخرى من نهب وسلب وتعذيب من قبل جماعة تسمى "اليكجرية"، لكن السكان لم يستسلموا بل قاوموا تلك العصبة من الأشباح، وفي غمرة هذه الأحداث ظهرت العلاقات الإنسانية والتعايش والتآلف بين أبنا ء "حلب"، لكن فرحتهم لم تدم طويلاً، فقد فتك الطاعون بأبنائها ثم تلاه الزلزال المدمر في العام /1821/ الذي قتل وشرد عشرات الآلاف.. رغم هذه الظروف نهضت المدينة من وسط الركام لتستمر عبر التاريخ.
** إن تكريمي من قبل الفنان التشكيلي "عبد الرحمن مهنا" على عرض "أشباح المدينة" شرف كبير يبعث فيني الأمل، وتقدير يشعرني بأن عملي ليس عبثاً، فإذا كانت المؤسسات عاجزة عن تقديم التكريم للذين يعملون بصمت.. فإن "عبد الرحمن مهنا" تجاوز تلك المسألة، وقال: «إن التكريم الحقيقي يمكن أن يكون بمبادرات شخصية تعيد الثقة بين الفنان والجمهور».. كما أن مبادرته هذه تعبير روحي وأخلاقي عظيم، وتؤكد أن أفراد المجتمع يستطيعون أن يعطوا للأعمال الفنية الجيدة قيمتها الحقيقية، ويجعلونها نموذجاً يحتذى به من أجل المزيد من الإبداع والتألق.
نهضة بدأت بالتراجع
** عرضت في السبعينيات والثمانينيات أعمال مسرحية هامة، شكلت تياراً متميزاً في عالم المسرح "بحلب"، ولو استمرت لبقيت نهضته بخير، لكنه على العكس بدأ بالتراجع مع بداية التسعينيات.. حيث سيطر المسرح التجاري على الساحة الفنية، باستثناء بعض المبادرات التي لا تشكل ظاهرة مسرحية، فبات هناك عالم متخلف مسرحياً، والأعمال الجيدة والجادة التي تعرض قليلة، وتعتمد على بعض المبادرات الشخصية لا أكثر.
** المسرح القومي في "حلب"، هو المكان الوحيد الذي استطيع أن أقدم فيه ما أطمح إليه من مسرح إنه محترف وتخصصي، والوحيد الباقي في المدينة الذي يحافظ على مستوى معين من الجودة فنياً وفكرياً، والصعوبة أننا نعاني من قلة الإنتاج للمسرح القومي بسبب ضعف الميزانيات التي تخصص له، وهذا سبب يمنعه من خلق تقاليد مسرحية عريقة تعيد الجمهور الحقيقي للمسرح.
** أنا مع هذا الرأي، فالمسرح بكل تفاصيله يشكل مدرسة متكاملة إذا تم توجيهه بشكل صحيح، عندها لا يكون فقط الأكثر قرباً للمتأمل، بل يمكنه أن يحقق ثورة في المجتمع، ويحقق أهدافاً نبيلة وعظيمة.. كما حدث تاريخياً في كثير من المجتمعات.
ساحة الأدب المسرحي تخلو من الإبداع
** ظهر في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي كتاب مسرحيون معروفون، أسسوا المسرح السوري وقدموا نصوصهم للفرق المسرحية الهاوية مجاناً، وللمسرح القومي بأجور زهيدة.. وعدم وجود تشجيع حقيقي مادي ومعنوي للكاتب المسرحي المحلي، جعله يتجه إلى التلفزيون الذي يدفع بسخاء مقارنة مع المسرح أو لكتابة جنس أدبي آخر.. وهذا جعل الأدب المسرحي السوري الذي كان متطوراً في مرحلة ما يتوقف عند حدود تلك المرحلة ويغيب عن الساحة رغم أن بعض التجارب برزت في الثمانينيات، لكنها لم تشكل ظاهرة ومع مطلع التسعينيات غاب الكاتب السوري المسرحي تماماً، ما جعل معظم المخرجين إما يتجهون للنص العامي فيعيدونه ويقدمونه أو أن يكتب المخرج نص العرض، ورغم وجود معهد مسرحي في "دمشق" يخرج طلاباً في قسم النقد والأدب المسرحي إلا أن ساحة الأدب المسرحي السوري ما زالت خالية من أي إبداع حقيقي، والسبب في عدم وجود الدعم في مسرحنا السوري يعود إلى أن القائمين على المؤسسات المسرحية ما زالوا يعتبرون المسرح نوعاً من الهواية وليس فناً صعباً مركباً، يحتاج إلى إمكانيات مادية كبيرة وتشجيع لصانعيه.. فعندما يتحول فن المسرح إلى صناعة كما في التلفزيون والسينما عندها سيتدفق الدعم له.
** حتى يرتقي المسرح لدينا إلى مستوى هذه الأعمال.. نحتاج إلى ثورة مسرحية على كافة المستويات إدارياً وفنياً ومادياً، يجب أن تعطى للمؤسسات المسرحية إمكانيات هائلة حتى تقوم بإنجاز مسرحنا السوري الذي نحلم به ونستحقه، ويليق ببلد ذي حضارات عريقة موغلة في القدم "كسورية".
إسقاطات تاريخية على الواقع المعيش
حول عرض أشباح المدينة قال الناقد "نذير جعفر": «أفاد الدكتور "وانيس باندك" من المسرح الوثائقي في تقديمه للأحداث الوثائقية في العرض، متكئاً في الوقت نفسه على معطيات المسرح الملحمي عند "برخت". أما الدلالات التراثية الوثائقية في مشاهد العرض تربط الماضي بالحاضر في إشارة خفية إلى أن من لا يفهم ماضيه لا يفهم حاضره».
وقال الفنان التشكيلي "عبد الرحمن مهنا": «كرس المخرج "وانيس باندك" كل حياته في تأليف المسرح والإخراج المسرحي، ويتحدث عبر أعماله عن الواقع المعاصر من خلال استلهام التاريخ، وإبراز أحداثه ومآسيه.. فيجري إسقاطات تاريخية على الواقع المعيش، متبعاً أسلوب الحكاية السردية، وهو من المسرحيين الذين استطاعوا على الرغم من الظروف الصعبة للفن المسرحي في "حلب" أن يوجدوا له رواداً.. ويعملوا على تطويره، ومسرحية "أشباح المدينة" من العروض الهامة التي كان لها أثر عميق وصدى في الساحة الفنية».
ببلوغرافيا المخرج
ولد الدكتور "وانيس باندك" في "حلب" عام /1955/، حاصل على ليسانس في التاريخ من جامعة "دمشق"، ودبلوم في الفن المسرحي من جامعة "يريفان- أرمينيا"، درس في المعهد العالي للفنون المسرحية "بدمشق"، وأخرج العديد من الأعمال المسرحية.. كما عمل مديراً للمسرح الجوال ومسرح الطفل في المسرح القومي "بحلب"، وهو كاتب قصصي، وله مجموعة بعنوان "الصيف المجنون" صادرة عن دار "الحصاد" في عام /1989/.