بريشة تعبيرية يغرق الجسد الإنساني في المادة اللونية التي تشكل خلفية اللوحة، لتظهر بحراً من مكنونات جمالية تعبر عن روح الفنان ورؤيته.
موقع "eDamascus" التقى الفنان "باسم دحدوح" وكان معه الحوار التالي:
أنه يرسم الجسد دون الشخص، فلا تجد الوجه في اللوحة، وإن وجد يكون مغيباً، كما أنه يرسم الأرجل التي لها مغزى الثبات والقوة والارتباط
** بشكل عام في الفن لا تتخذ قرارات بالعمل اليوم على لوحة تعبيرية، وغداً نوع آخر، لكن على ما يبدو أنه خلال فترات زمنية طويلة يصير العمل كاختبار للمنافذ التي تناسب روح الفنان دون الأدلجة، خاصة أن التقسيمات المدرسية وجدت لسهولة الدراسة، لكن ليس من الضروري في التعبيرية أن تبدأ من نقطة وتنتهي عند نقطة أخرى، ووجدت أن روح هذه المدرسة تناسبني كشخص، لذلك تحمل لوحاتي ذاك الطابع التعبيري، على أي حال التعبيرية صفة غالبة على المحترف السوري.
** ربما يعود ذلك إلى أننا في موقع جغرافي وزمن لا يناسب الحيادية كثيراً، فمن غير الممكن أن يكون هناك أناس تموت وأرسم لوحة رومانسية، وهنا لابد أن نفهم ما هي التعبيرية، إذ تشكل اتجاهاً فنياً بطله الحقيقي الإنسان، لذا نجد أن إنسانية الموضوعات التي تتطرق لها التعبيرية تناسب عملياً المحترف السوري، ويلزمها شيء من الحرارة، كما أن لها علاقة في المزاج العام الذي يناسبه أيضاً الأداء التعبيري، ويجب ألا ننسى تأثيرات الرعيل الأول في انفتاح جميع النوافذ المعرفية المؤثرة بالمحترف، وزيادة هويته، وأي فنان أو لوحة لها أم وأب، خاصة أن تكوين الفنان يعود لمجموعة تراكمات معرفية وثقافته البصرية، إضافة إلى مهارات تشكل مقومات الفنان التي يمكن أن تكون عبئاً عليه، وعلى الحالة الإبداعية، وبالضرورة خلال المسار الطويل من العمل والاكتشاف في الفن، يوجد أشخاص كجزء من معرفتي كفنان يصبحون أصدقاء لي وجزء من معرفتي اليومية.
** ما أقوله قناعة شخصية، حتى تتشكل حالة إبداعية نقية للفنان، بالضرورة عليه أن يحاول التخلص من ثقل وسيطرة ثقافته ومهاراته المسبقة، وحينما نعلَّم طلبتنا في كلية الفنون الجميلة نجعلهم يمتلكون مهارات معينة، لكن عندما تبدأ عملية الشطح الإبداعي يحتاج إلى مساحة من الحرية التي لا يمكن أن تمتلكها وأنت مثقل بأفكار ومهارات مسبقة، لذا يمكن أن تكون الثقافة عبئاً، وهنا تكمن أهمية الفنان "فاتح المدرس" ببراءته التي تشابه براءة الأطفال، لكن بمهارة وحرفية تشكيلية عالية، والكثير من الحالات الإبداعية تتكئ على القيم الحقيقية للطفل.
** العمل الفني يحوي الشكل والمضمون، وإذا أردت أن تقوم بمسح فني على موضوعات اللوحات فستجدها إما "موضوعا إنسانيا" أو "بورتريها" أو "تجريدا" أو "جزئيات" وكل منحى له اتجاهات كبيرة، ومعظم الفنانين رسموا الجسد الإنساني، وأتوقع أن أحد هواجسي الجسد الإنساني الذي يمثل العمود الفقري لأعمالي الفنية، لكونه أداة تعبيرية له علاقة بالمحيط، وأحمله عوالمي الداخلية.
نوعاً ما لا توجد سيطرة لألوان معينة، ما السبب؟
لا توجد سيطرة لون معين، لكن بفترة سيطر اللون الأزرق على أعمالي، لأنه صريح، واستخدام لون معين له رسالة للمتلقي، وله علاقة بحالتك النفسية وما تريد إيصاله، أما بالفترة الأخيرة فهناك ألوان قريبة من البني والأبيض والأسود، وأشعر بأن بذلك يكون بناء اللوحة صحيحاً، وأريد الإشارة إلى أن كثرة الألوان أو قلتها ليستا الحالة الصحيحة والمثالية للوحة الفنية، لكن الصحيح مقدار ما تكون صادقاً مع ذاتك ونفسك واللون الذي يشبهك كفنان، فخير الكلام ما قل ودل مع الدراما الموجودة في اللوحة، ويقال إن لوحة "الجرنيكا" ملونة بأبيض وأسود، لتكتشف أنها ليست كذلك، فهي عبارة عن مقامات لونية متقاربة بطريقة قريبة للأبيض والأسود وتحوي ذكاءً لونياً مذهلاً، ما يمثل مقولة خير الكلام ما قل ودل، وهذا أحد أسرار نجاح اللوحة في إيصال رسالتها البصرية المعتمدة على التوازن الغرفيكي للأبيض والأسود، لذا ينبغي أن تكون الملونات في مكانها باللوحة، وأريد أن أقول في لوحاتي الأخيرة لا أعرف كيف كنت أصنع اللون، فقد كان عبارة عن طبقات من التوشيح، تصل لمقام معين دون توصيف فاللون شيء من جيناتي عبر الأداء.
شاركت في "بينالي فينيسيا" ما الذي تقدمه مشاركة كهذه للفنان باتجاه العالمية؟
** سأتحدث عن العالمية أولاً ثم نعود إلى "بينالي فينيسيا". العالمية ثوب واسع وعريض على كل من يطلق له وصف فنان عالمي، ومصطلح العالمية يستخدم بشكل غير دقيق، فمواصفات الفنان العالمي تفرض أن يكون الفنان فاعلاً وله رصيد بالمتاحف، ويمكن أن نطلق على الفنان "مروان قصاب باشي" فناناً عالمياً وبامتياز كالفنان "كوشكا"، وهو أحد الفنانين العالميين، وحتى إن عرض أي فنان أعماله ولوحاته في الغرب لا يصبح فناناً عالمياً، ولا يمكن أن ينجح الفنان في العالم دون طابع المحلية، وهناك تجربة في معرض "يورب أرت" بجنيف حيث كان هناك تجانس ومحبة بالجناح السوري وقواسم مشتركة بالهم العام للفن، ولم يكن لدينا هاجس العالمية وتسويق الأعمال، والجناح السوري كان من أفضل الأجنحة المشاركة، وهذا برأي الفنانين الأجانب لوجود الصبغة المحلية التي تشكل بوابة عبور نحو طريق العالمية، والمحلية حاضرة في المحترف الفني السوري التي لم توضع بعد ضوابط له، وعلى ماذا ستكون هوية هذا المحترف، لكن يبدو أنه في جيناتنا نشعر بأننا ننتمي لحضارة عمرها خمسة آلاف سنة، وهذا ما انعكس على المشاركة السورية، وهذا نقيض المشاركة الاسرائيلية الخفيفة والهشة والسطحية، لأنهم لا يملكون أي قيم ثقافية أو تصويرية ولا يعتمدون على مفرزات حقيقية، لكنك تملك الشعور بأنك ابن حضارة تقف وراء إنجازاتك، وهناك اكتشفنا أننا ننتمي إلى محترف واضح المعالم يتميز ويتفوق على الآخر، والتعبيرية الإنسانية التي تحمل جيناتك وبصمتك كفنان، ويبدو أن خصوصية اللوحة ليس لها علاقة بالأسلوبية التي ترسم بها بل تتصل بالأداء وبخلفية الفنان، أما بالنسبة لموضوع "بينالي فينيسيا" فالموضوع يبدو مثل لعبة كرة القدم فكلما تواصلت مع الأوروبيين تكتسب خبرة واطلاعاً جديداً ومعرفة جديدة، وإن كنت حيادياً يمكنك أن تكتشف موقعك بالضبط أين يقع، وإن كانت خطواتك صحيحة أم إن هناك انحرافات بالمسارات، وانطباعاتي من "بينالي فينيسيا" أنه ثاني أهم بينالي في العالم، وفيه مشاركات من أغلبية دول العالم، وهناك عتب على الدولة لعدم المشاركة دائماً فيه، ومشاركتنا كانت مصادفة فهناك من يريد من الفنانين الإيطاليين أن يتعرف علينا "كلغز"، لأننا غير مقروئين ويطلبون التعرف على الآخر عبر ثقافته الشرقية، لذا قاموا بجناح تكريمي لسورية وهي أول مشاركة في "بينالي فينيسيا"، ولماذا لا يكون هناك جناح مخصص لسورية في هذا "البينالي"؟ وينبغي أن تكون المشاركة فيه من الأولويات، وأنت تجد أن الغرب لديه مشكلة مع العرب بالسياسة وكل النواحي الأخرى، لكن إذا قدمت لهم أعمالاً فنية بالتأكيد ستصل رسالتك إليهم، لذا أعتب على نوم وزارة الثقافة التي يقع على عاتقها دور يجب القيام به، ويبدو أنها "طلقت" دورها وانسحبت منه.
** سؤالك ردني إلى الحديث عن جيل الستينيات الذي كان مهماً، حيث تجاوز ما قدم بعده وعلى ما يبدو أننا نعيش بفترة الستينيات، ونتحدث عن مفهوم لوحة الحامل وموضوعاتنا تفرضها ثقافة المجتمع والتطور في مجتمعنا "سلحفاتي"، ولهذا التطور سلبياته وإيجابيته فاللوحة "الحامل" بغض النظر عن المدرسة الفنية التي تنتمي إليها فإنها تظل رصينة، مهما تحدث الأوروبيون عن المطلق والحداثة وما بعدها، وعن اكتشافات ما تتسبب بخضة كبيرة دون أن تكون بالضرورة صحيحة، ولسنا متخلفين عن الأوروبيين فلدينا شيء كبير ومهم ويقرؤه الآخر بشكل صحيح، لكننا أغلقنا على أنفسنا أبواب التجريب، وأريد أن أذكر أن قلة من بينالي فينيسيا قدموا مفهوم اللوحة، فأغلبية العروض فن مركب ومدهش ويحمل فكراً، ويجعل المشاهد جزءاً من العرض، فلا يزال الحديث يدور في بلادنا عن "الحلال والحرام" بالمعرض، وعن تقبل الجمهور لعمل مركب ويخلد من خلال صورة، وهذا أحد إيجابيات المشاركة في "بينالي فينيسيا" حيث تمكنا من متابعة تجارب الآخرين الذين يوسعون مساحة الحرية، فكل شيء متاح لك كفنان، يبحث في كيفية العمل على الجانب الإنساني، إذ لا تستطيع العمل على الفن المركب وتتكلم عن قضية في نفس الوقت، وكيف يمكن المزاوجة بينهما؟ وهذا يردنا إلى التعبيرية التي تشبهنا وتحمل قيمة فنية عالية.
** هناك ثغرة كبيرة في التشكيل السوري، وهي عدم وجود متحف للفن الحديث فكل الدول لديها متاحف من هذا النوع، ودائماً عندما نريد أن نسوق ذاتنا نتحدث عن حضارتنا الفنية، فيما يتم التعامل مع الفن المعاصر كنشاط فقط.
الفنان "إدوار شهدا" اعتبر أن "دحدوح" من الفنانين السوريين القلائل الذين يملكون أهمية في التشكيل السوري، حيث استطاع في المراحل الأخيرة أن يكون له بصمة فنية خاصة به، وبالتشكيل السوري أيضاً.
وقال "شهدا": «إن "دحدوح" عمل على المادة واللوحة وعلى التعبير والأجساد البشرية، أما حالياً وفي بعض الأعمال الفنية فإنه يضيف الحجم إذ إن اللوحة بالنسبة إليه تكون أكثر من بعدين، دون أن يعني ذلك أنه رسمها على طريقة المنظور والبعد الثالث، كالأسلوب الأوروبي للوحة، بل على العكس يضيف مادة ثانية على اللوحة كالخشب، وذلك بوضع إطار سميك ليضيف بعد بصري آخر للوحة».
وأضاف: «أنه يرسم الجسد دون الشخص، فلا تجد الوجه في اللوحة، وإن وجد يكون مغيباً، كما أنه يرسم الأرجل التي لها مغزى الثبات والقوة والارتباط».