"محمد الركوعي" فنان تشكيلي فلسطيني، ثائر ومقاوم، عرف عنه الجدية والحزم والمشورة الحسنة، تميز بإرادته وصلابته في النضال، ونجاحه عالمياً في مذهب الفن التشكيلي، وتجسيد الحس الثوري بإيحاء اللون الحار الغاضب، ولمسة العزاء والأمل في سطوعه وتجريده.
للتعرف إلى كينونة احتجبت بالغموض، eSyria زار الفنان "الركوعي" في 23/1/2009 بمرسمه مركز "الجليل" بمنطقة "اليرموك" "بدمشق"، وأجرى معه الحوار التالي:
هذه المرأة الفلسطينية، و"مريم" العذراء هي بنت الناصرة
**مرت تجربتي الفنية بأربع مراحل: مرحلة ما قبل الاعتقال، وحينها كان أسلوبي أكاديمياً وبسيطاً، وما بعد الاعتقال تحول إلى فن تعبيري أستوحي به القيم الإنسانية ومفردات الطبيعة والتراث، والمرحلة الأهم في حياتي كانت فترة الأسر، وفيها رسمت نداءات الصمود والنضال والتحرر..
في البداية واجهتني إشكالات الحصول على مواد الرسم، وسنحت الفرصة بطلبي لها أثناء لقائي مع وفد من "الصليب الأحمر" فنقلوا رغبتي إلى مدير السجن، فسارع بالرفض لأسباب أمنية.. في العام /1973/ حكم علي بالسجن المؤبد، ونقلت من سجن "غزة" المركزي إلى معتقل "عسقلان" حيث الأحكام العالية.
* ما سبب الاعتقال؟
** قدت في بداية السبعينيات أعمالاً مسلحة ضد جنود الاحتلال الصهيوني في "مخيم الشاطئ" "بغزة"، وشاركت في عمليات عسكرية أخرى، وخضت عدة معارك داخل المخيم وخارجه، وبعد ستة أعوام من المقاومة تمّ اعتقالي.
** تمّ عزلي لثلاثة أشهر في زنزانة انفرادية مظلمة، فجلست في تلك الفترة مع نفسي وتأملاتي وأفكاري، أرقب الحياة والغد المجهول، لم تجد إدارة السجن تبريراً لعزلي، فعمدت إلى إخراجي، وحينها أصبحت حياتي مختلفة، ومنها بدأ اهتمامي بالقراءة، ونظراً لعدم وجود مواد الرسم كنت أتخيل أني أرسم وألون، إلى أن رسمت أول لوحة صغيرة "اسكيتش" على طرف رسالة بيضاء، وصرت بعدها مع كل مكتوب أرسله إلى والدتي، أرسم رسوماً بسيطة كعصافير وورود.. بعد ذلك صرت أرسم على مناديل قماشية بيضاء، أستغل الفراغ داخلها وأصور عليه بأقلام الحبر الناشف معاناة الأسير وحلمه بالتحرر والنضال، فقام بعض رفاقي المعتقلين بمنحي ألواناً شمعية فمزجتها مع الحبر، فتحولت أعمالي إلى غرافيك رائع.
*كيف عرفت الأعمال خارجاً، وأنت في الأسر؟
**كنت أرسم بسرية كاملة ألون وأجمع أعمالي، وفي أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات بلغت أعمالي /300/ لوحة، أخرجتها دون علم إدارة المعتقل، فقامت بعض المعارض الوطنية بعرضها، فنالت إعجاباً وتقديراً وشهرة امتدت إلى العالم، وبتّ فناناً معروفاً في السجون.. ووصلت إلى تقنية عالية في التكوين ودرجات لونية مبتكرة من مزيج الشمع والحبر، وفي العام /1985/ تمّ تبادل أسرى في "جنيف" وخرجت من المعتقل بعد / 13/ عاماً قضيتها فيه، متوجهاً إلى "ليبيا" ثم إلى "دمشق"، لأمارس الرسم بمختلف الألوان والمذاهب بعد ذلك.
**بعد غياب ثلاثين عاماً عن "فلسطين" عدت إلى بيتنا في "مخيم الشاطئ"، فوجدت الكوخ الصغير قد تحول إلى بناء وفيه غرفة واسعة لي نافذتها تطلّ على البحر، راودتني قشعريرة الحنين، وبعد /5 / أشهر من عودتي قدمت معرضي الأول في غاليري "الميناء" وأتمنى أن تكون سالمة من القصف، عرضت فيها /51/ لوحة تحت اسم "تحية إلى الأسرى المعتقلين"، وعند الافتتاح فاجأني حضور هائل من الوسط الإعلامي والأدبي والزائرين.. وفي اليوم التالي كان خبر المعرض في الصحف، وقد فاجأ الكثير من أصدقائي الذين لم يعلموا بعودتي، وصادفتهم في المعرض، والغريب أن تلك الأعمال أوحت موضوعاتها باجتياح "غزة" الأخير، بيوت متهدمة وأناس يتشبثون بالبيوت، مزروعين كصخر الأزل في الأرض، مما أثار في داخلي الحيرة والسكون.
*ما موقفك من الاجتياح الأخير على "غزة"؟
**كثير من الفلسطينيين سكنوا "سورية وعمان ومخيمات بيروت"، ولهم حق لن ينسوه، يعلّموه لأبنائهم وأحفادهم يقيناً ثابتاً فحواه العودة والانتصار، ورغم جبروت القوة الغاصبة على أرض "فلسطين"، فإن الشعب العربي المتشبث بأرضه وولائه وكرامته.. سيرفض الرحيل والعدوان، ويبقى صموده يقول: «زمن الهزائم ولى، وإن مرّوا فسيمرون على أجسادنا»، سيأتي للمظلوم يوم يتحرر فيه من عبء عزلته، وقيده وخوفه، ورده الصارم سيحمل العبرة لكل من فرض التهجم والسطوة والقتل..
أثناء الاجتياح الأخير على "غزة" صعدت الأنفاس الثائرة إلى مقامها الأخير، منتظرة تبدل الموازين حتى تنطلق، ونحن شعب إنساني لا نرغب في ذبح المعتدي كما فعل بنا، ولكن ثورة الحاقد المظلوم أن لم يعد حقه إليه لن تعرف هوادة أو رحمة، وكان همي وخوفي في بعض أوجهه من قصف بيتنا في "غزة" وإحراق لوحاتي التي أخرجتها من السجن، وأحمد الله أنها بقيت سالمة.
أبعاد السمو في الفن
**أميل في مرحلتي الجديدة إلى استخدام ألوان مغايرة لما اعتدته سابقاً، كتدريجات البني المحروق، ومعه مواد أخرى مساعدة للتشكيل، قد تكون متناقضة على سطح اللوحة، وهذا ما يثير استغراب بعض الفنانين.. لكن مجمل التجربة تجمعها انسيابية ثابتة مع الأعمال السابقة.. والمميز أنني أتعمد بها إدخال اللون وإزالته بطرق خاصة، مظهراً لمسات التجريد والاختزال.. أما تكوينات اللوحة استوحيتها من نور الشمس وشجر النخيل، والأبواب والنوافذ.. فالباب الدمشقي نفسه في "القدس، ونابلس، وغزة" حتى البناء العمراني والهندسي ذاته.
**أشارك في كل عام بمعرض سنوي يقيمه اتحاد الفنانين التشكيليين الفلسطينيين في "سورية"، وفيه أقدم لوحة فنية جديدة وخلال العام الماضي شاركت ببانوراما تشكيلية، مؤلفة من /7/ لوحات، رسمتها بتقنية مبتكرة وأنا في "غزة" أثناء الحصار، تحدثت فيها عن الوجود الفلسطيني المعذب، وحلم السلام والعودة، بعيداً عن الصراع والحصار والشتات، قدمت رؤية تقول: «إن الحق سيدٌ لا يقهر، والمصير سيد الحقائق».. هذه البانوراما باتت جزءاً من روحي وجسدي، ولن أفقدها مهما ضاقت الظروف.
** ذاكرة المكان مرسخة بكل أعمالي.. "مولدي في منطقة "الرمال" "بغزة"، ومضات طفولتي.. "البحر، زرقة الماء، النخيل، مغيب الشمس، وهج الشفق وسطوع لونيه الأصفر والأحمر"، ذكريات مازجتها تنقلاتي ما بين "فلسطين ودمشق"، لأجد نفسي أخيراً ابن بلاد "الشام" تجمعنا لحمة تاريخ أصيل، من تراث وتقاليد وعادات وهمٍ وطني مشترك، وحسّ قومي جذوره في العمق، فهل أنسى معتقل "عسقلان" ويحيطني ما يقارب /50/ معتقلاً سورياً عايشوني همي، وكنت جزءاً منهم؟
** إنهما نورٌ محض في ظلام طال اسوداده، بل بوصلة المعرفة للتائه في لوحة الزمن.
** الهلال موجود ضمن الهندسة الإسلامية، على المآذن وأقواس الأبواب والنوافذ والقناطر.. وفي الرسومات القديمة، جميعها مكونات المكان، تأثرت بها وسجلتها عبر أعمالي بواقعية تنتمي إلى تخيلي، تلك المكونات كنز من التراث والعمران الخالد.
أما المرأة في لوحتي، هي الأرض والحياة والرمز والحنين، "نابليون" قال: «اليد التي تهز السرير، هي التي تهز العالم». حتى اللباس ميزته باللون الأزرق الفاتح وهو لباس السيدة "مريم" العذراء ـ المرأة الناصرية.
سئلت مرةً : «لماذا ترسم "مريم" المجدلية في جميع أعمالك»؟ فقلت: «هذه المرأة الفلسطينية، و"مريم" العذراء هي بنت الناصرة».
** الفن يعبر عن الخير والجمال والحلم، والسلام في جوهره انعكاس للماضي والمستقبل، يقدم الحل ورؤية للزمن، وفعله في التغيير عندما تختزن موضوعاته الذاكرة البصرية وتحلل معانيه، الفن جمالٌ إلهي ولد في الطبيعة والكون وتحمله فطرة الإنسان.
** يمرّ الفنان خلال تجربته بمراحل عديدة، لها رؤيتها وأساليبها.. وأثناء التجريب بها واستعادة العمل عليها تحدث صوفية الفكر باللوحة، فقد يخلق الفنان بعد التجربة والإدراك والحس والتعمق في القراءات واختزال المراحل التي مرّ بها، نتاجاً فنياً مثالياً بموضوعه ومحتواه المعرفي، يكون تتويجاً للروح الجمالية، والفنان بتواصله مع فنه لا يستمر على نفس الأسلوب وإنما يقدم نمطاً جديداً عائداً إلى خبرة وتراكم.. هذا ما أشعره في راهني، إنني أميل إلى "الاختزال والتجريد"، لأضع أمام المشاهد علامات وإشارات البحث والتعمق والتحليل..
رحلة الفنان لا تسير بوتيرة واحدة، إنها تجارب تنتهي بخبرة طويلة، تندرج في التجربة الإنسانية منذ فن الكهوف وحتى الفن الحديث حيث لا حدود أو معايير أو قيود..
*ماذا تقول عن الراحل الفلسطيني "مصطفى الحلاج" في معابر ذاكرتك كرأي ووفاء؟
**الراحل "مصطفى الحلاج" فنان ذو شهرة عربية وعالمية، إنسان طيب متواضع قبل أن يكون مبدعاً، رسم أطول لوحة غرافيكية في التاريخ سميت "ارتجالات الحياة"، ورغم تقدمه في السن كان دائم البحث والإبداع، رسم تراجيديا الشعب الفلسطيني مأساته وحلمه.. توفي وهو ينقذ أعماله من ألسنة اللهب المتطاير.. وكم تمنيت أن أشاهد لوحته تلك معروضة في حياته. لقد ابتكر فن الطباعة على خشب "المازونيت" التجربة الأولى في العالم، إن رحيله خسارة كبيرة لنا وللفن.
حول أعمال الفنان، قالت الكاتبة السورية "حنان العظم": «صور الفنان "محمد الركوعي"، عبر أعماله الفنية مسيرة النضال العربي للشعب الفلسطيني، المتحدي لكل الممارسات الصهيونية.. عمل على تشكيلها بتقنية لون جديدة، ابتكرها من ألوان الباستيل والحبر، فكانت في معتقله سلاحاً مارس به نضاله، وحدد عبره موقفه، فقدم عصارة تحديه ووجوده الإنساني وشيئاً من قلبه.. كرسالة غاضبة تنبثق مفرداتها من لوحته إلى العالم».
ببلوغرافيا الفنان
ولد الفنان "محمد الركوعي" عام 1950 في منطقة "الرمال" "بغزة"، قضى مرحلته الأولى في "مخيم الشاطئ"، ودرس دبلوم معلمين ـ قسم التربية الفنية مدة 5 أعوام، نال الجائزة الأولى على قطاع "غزة" عام 1971، وعمل مدرساً في المدارس الثانوية هناك، اعتقل عام 1973 وحكم عليه بالسجن المؤبد في معتقل "عسقلان" الصهيوني "بفلسطين" وقضى منها 13عاماً، رسم خلالها عشرات اللوحات.. عرضت في العديد من دول العالم، وفي العام 1984 أقام له المركز الثقافي الروسي "بدمشق" معرضاً تكريمياً لأعماله، وفي العام 1985 تمّ تبادل أسرى في "جنيف"، وأطلق سراحه مع مجموعة من الأسرى توجه معهم إلى "ليبيا" ومن ثم قدم إلى "دمشق"، ومنها بدأ توسعه مع الفن، ويدير حالياً مركز "الجليل" للفنون اليدوية "الفلسطينية" والتراث الشعبي.