يشكل "مانويل جيجي" ظاهرة في الحياة المسرحية السورية والتي تخطت حدود الوطن إلى فضاءات أوسع وأرحب، ونتيجة هذه المسيرة الجادة والطويلة، يكرم هذا المبدع السوري متأخراً من قبل وزارة الثقافة في حفل الختام لمهرجان "دمشق" المسرحي الخامس عشرة. وكأن لسان حاله يقول "أن تأتي متأخراً خير من أن لا تأتي".
موقع eSyria وخلال تواجده في المهرجان التقى المخرج الفنان "مانويل جيجي" وعن تجربته كانت بداية الحديث، وعن الانعطافة التي قادته إلى الإخراج المسرحي، فقال: «حصلت على "البكالوريا" من مدرسة "الآسية"، وبعدها مباشرة سافرت إلى أرمينيا لدراسة الإخراج المسرحي، بقيت هناك 6 سنوات، سنة لغة و5 سنين دراسة الاختصاص الإخراجي، عدت إلى سورية وخدمت في المسرح العسكري فترة طويلة حوالي 3 سنوات ونصف من الخدمة العسكرية، ووظفت في ذات المكان، بقيت في المسرح العسكري حتى سنة الـ2000 تقريباً أي حوالي 23 سنة، سنة 1997 أخذت إجازة بلا راتب وسافرت إلى الكويت خلالها كنت أدرس في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمّر، درّست منذ سنة 1982 حتى 1996 مادة التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية في "دمشق"».
أتمنى دائماً حتى هذه اللحظة وفيما بعد، أن يتفوقوا علينا باجتهادهم، لأن كل شيء بحاجة للاجتهاد والقراءة والثقافة، فقط أن يسألونا ويستشيرونا، أنا حتى الآن أستشير أساتذتي، وإن لم أجد أحداً فإني أتذكر أساتذتي وما كانوا يقولونه وأسترجع هذه الخبرات من الأساتذة الكبار وأعرض خلاصتهم، فالشباب إن أخذوا مني أو من غيري من الأساتذة كلمة كأنهم كسبوا سنة، أفضل من أن يضيعوا وقتهم في البحث، وهذا تطوير للإنسان العربي بكل مجالات الحياة
وتابع حديثه: «في الكويت بقيت عشر سنوات درست مادة التمثيل والارتجال وتقريباً عملت 8 مشاريع تخرج فيها خلال هذه المدة، لأن أكثر الأحيان كنت أستلم مشروع التخرج بسبب تمكني من تخرج الدفعات بشكل لائق وجميل، وكانوا يعتمدون على المدرسين السوريين، أنا و"فايز قزق"- "أديب معلا"- "عبد المعين عيون السود"، وفي البداية سلموني إخراج عرض مسرحي لفرقة المعهد العالي في الكويت وكان أول عرض للفرقة، وقتها عملنا "المهاجر بريسبان" لـ"جورج شحاتة" وهو فرنسي من أصل لبناني، وكانت من بطولة زميلنا "فايز قزق"، كان العرض جميل وكان الضيوف السوريين كثر من المقيمين في الكويت والمدرسين في جامعاتها، أحدهم قال لي أني أطفأت شمعة في سورية وجئت إلى الكويت، فقلت له: "شمعة واحدة تكفي لسورية والكويت"، فهي دولة عربية والشمعة للجميع، فمن نعطيه إن كان كويتياً أو سورياً فالكل إخوة».
وسألناه بكل شفافية عن الأسباب التي دعته للتدريس في الكويت، فأجاب: «بصراحة هي الضائقة المالية، أنا لو بقيت هنا وأعمل في المسرح فقط، ما كان ليكون عندي بيت أسكن فيه، ذهابي للكويت جعلني على الأقل أستقر مادياً وأشتري بيتي وأدرَس أبنائي، ولهذا دور كبير في حياتي، فالمسرح بشكل عام لم يعد كما كان، أنا كنت أعتبر نفسي هاوياً طول حياتي، حتى لو عملت بلا راتب فأريد العمل بالمسرح، وحتى الآن أدرس وما زلت آخذ ما كنا نأخذه، وهذا شيء محزن بكل صدق، ولكني لا أستطيع الانقطاع عن هذا، فجذوري هنا، أنا تربيت في هذا البلد وله علي حق العطاء وإفادة الآخرين، وهذا مبدئي في الحياة».
وعن كون معظم تكريماته كانت خارج سورية، يوضح: «أنا تكرمت مرة من وزارة الثقافة قديماً في يوم المسرح العالمي وهذا قبل أربع سنوات، جوائزي أخذتها من خارج سورية، وأظن أن حقي كان مهضوماً بعض الشيء ولكني لم أكن أتكلم، فأنا من النوع الصامت، مهما حدث فعلي العمل فقط، أنا لا أنتظر شيئاً من عملي، درست على حسابي، جئت إلى هنا دون أن أبعث من أي جهة، درَست أولادي على حسابي ولم أبعثهم على حساب أي جهة أيضاً، رغم كل هذه الأمور بقيت أعمل بشكل شبه مجاني بسبب إخلاصي لما أؤمن به، ولدت هكذا وسأبقى هكذا، هذا أمر إنساني، خاصةً في الفن والأدب فنحن لا ننتظر مثل هذه الأشياء، فالكاتب الذي يكتب لا ينتظر أن تشتري الناس كتبه».
وفي مجال آخر كونه ابن ثقافتين (عربية- أرمنية)، وعن هذا المزيج الثقافي الذي ساهم في تكوينه، يوضح: «من الجميل جداً أن يكون الإنسان وليد عدة ثقافات، هذا الأمر أغناني بشكل كبير، أغناني بالثقافة العربية والثقافة الأرمنية، إذاً فأنا أقدر على القراءة والإطلاع بلغات مختلفة، وفي نفس الوقت باللغة العربية، إذاً عندي مجال للمقارنة من جميع أنواع الآداب والفنون، وحتى الدراسات عن فنانين ورسامين وأدباء وشعراء، عندما أقرأ الأصل والمتَرجم أستطيع الحكم بشكل أكبر على حقيقة المستوى، وأشعر بمتعة أكبر بسبب معرفة الأصل والمترجم، وهذا الأمر شعرت به خلال كل حياتي، لدي مكتبة مميزة باللغتين العربية والأرمنية، وكان مجال الترجمة في الاتحاد السوفييتي سابقاً غزيراً جداً، وكان يترجم كثيراً للأرمني، فأنا حصلت بشكل غير مباشر على الثقافة الروسية عندما ترجمت إلى اللغة العربية، والترجمة هناك مستواها عالي جداً، لأن الكاتب الكبير يترجم عملاً كبيراً، إما رواية أو شعر أو مسرح،..الخ، كنا نشعر أن النص المترجم وكأنه مكتوب باللغة الأرمنية، يقولون أن أفضل ترجمات شكسبير هي الترجمة الأرمنية، عندما نقرأها نحس أن شكسبير كتب بالأرمني، بسبب مستوى الألوان والأوزان وإيقاعات اللغة الموسيقية تكون كما الأصل تماماً، عندما نرى عرضاً مسرحياً ما، نحس أنه حقيقةً مكتوب باللغة الأصلية الأرمنية، ولذلك استفدت من انتمائي لثقافتين مهمتين جداً، الثقافة العربية والثقافة الأرمنية أو حتى المترجمة للأرمنية».
وعن معنى تكريمه في ختام مهرجان "دمشق" المسرحي في دورته الخامسة عشر، يجيب "جيجي": «أنا أقول نتيجة ذلك أني يجب أن أبدأ من جديد، أعتبر أني أنهيت مرحلة المراهقة المسرحية في العمل الفني، وهذا التكريم جاء ليقول لي أنه أصبح لدي تجارب وخبرات كبيرة بـ57 عرض مسرحي، إذاً يجب أن أفكر أكثر، فقد زادت الحكمة، وأصبح لدي فكر أعمق، إذاً يجب أن أعمل بهدوء أكثر، وبأعمال أهم، فهذا التكريم أتى كمن رفّعني إلى درجة أعلى، حتى أكون دقيقاً وحذراً بانتقائي وبهدوئي بعملي، لأني إن عملت عملاً واحداً خلال السنة فهو يعادل خمسة أو عشرة مما عملته سابقاً، كالنبيذ المعتّق، فكل شيء في الحياة هكذا، كلما عتق الأمر أعطي نجوم أكثر، ونحن كلما ازدادت خبرتنا ازداد فهمنا للحالة الاجتماعية ولما يتطلبنا محيطنا ومجتمعنا، يكون البحث بشكل جدي وبشكل أخلاقي أكثر، وحتى الحكمة تصل لمرحلة ناضجة أكثر».
أما رسالته إلى الشباب مخرجين وممثلين، فقال: «أتمنى دائماً حتى هذه اللحظة وفيما بعد، أن يتفوقوا علينا باجتهادهم، لأن كل شيء بحاجة للاجتهاد والقراءة والثقافة، فقط أن يسألونا ويستشيرونا، أنا حتى الآن أستشير أساتذتي، وإن لم أجد أحداً فإني أتذكر أساتذتي وما كانوا يقولونه وأسترجع هذه الخبرات من الأساتذة الكبار وأعرض خلاصتهم، فالشباب إن أخذوا مني أو من غيري من الأساتذة كلمة كأنهم كسبوا سنة، أفضل من أن يضيعوا وقتهم في البحث، وهذا تطوير للإنسان العربي بكل مجالات الحياة».
الدكتور "نبيل حفّار" أحد أبرز الأساتذة المسرحيين، يقول: «كان "مانويل جيجي"من أوائل المخرجين الذين عادوا من الاتحاد السوفييتي من أرمينيا، حاملاً معه شهادة الإخراج المسرحي، واستطاع فعلاً منذ بداياته أن يقدم مجموعة من الأعمال الإخراجية التي لفتت الأنظار إليه كمجدد على صعيد الإخراج، وخاصةً في التعامل مع الممثل وفي اختيار النصوص، إذا عدنا إلى جملة أعماله التي قدمها نجد دائماً أن اختياره للنصوص كان مميزاً جداً، فينتقي تلك التي تخاطب الجمهور السوري في قضاياه الأساسية وتجعله يفكر دائماً في المستقبل».
الدكتورة "ميسون علي" أستاذة في المعهد العالي للفنون المسرحية، تقول في شهادتها عنه: «
معرفتي بالأستاذ ""مانويل جيجي" تعود لسنوات طويلة منذ أن كنت طالبة في المعهد العالي للفنون المسرحية، وكانت أثناء تدريسه بقسم التمثيل، (وهو من الرعيل الأول المؤسس للمعهد ولقسم التمثيل خاصةً)، وهو في عمليته التدريسية يعتمد منهج دقيق جداً، عمل بجدية على منهج ستانسلافسكي في التمثيل، الذي يعتمد مفهوم المعايشة للدور المسرحي ويعمل على الذاكرة الانفعالية للممثل، هناك نوع من الواقعية في الأداء، وقد اجتهد الأستاذ "مانويل جيجي" كثيراً في تخريج عدة دفعات من المعهد، ليس فقط تدريس مادة التمثيل وإنما قام بالإشراف على العديد من مشاريع التخريج للقسم، نذكر منها إشرافه على تخريج دفعة عملت على نصوص "أنطون تشيخوف" ونصوص أخرى، بعد سنوات وبعد تخرجي من المعهد ومتابعة دراساتي العليا في الخارج وحصولي على الدكتوراه، عدت مجدداً للتدريس في المعهد العالي للفنون المسرحية، التقيت مجدداً بالأستاذ "مانويل جيجي"بعد عودته من دولة الكويت ليستلم رئاسة قسم التمثيل في المعهد، فعدنا والتقينا هو كرئيس قسم وأنا كأستاذ محاضر في المعهد ومجدداً عدت لمواكبة تجربة هذا الإنسان الذي أعطى من وقته ومن عمره ومن جهده الكثير للمعهد وطلبته، وكان فعلاً من المؤسسين، وخرج طلاباً نعتز بهم وأصبحوا الآن نجوماً في المسرح والتلفزيون، فهو يستحق هذا العام هذه اللفتة الكريمة من وزارة الثقافة، حيث يتم تكريمه في حفل الختام، لأنه أعطى الكثير والكثير جداً».
الأستاذ "عبد الفتاح قلعجي" كاتب مسرحي وشاعر وباحث وناقد، يقول: «الأستاذ المخرج والصديق "مانويل جيجي" مخرج كبير ومتمكن من أدواته، وشهدت له عدّة عروض منها عرض "الآلية" الذي عرض في هذا المهرجان (مهرجان "دمشق" المسرحي في دورته الخامسة عشر) شاهدته في أواخر التسعينات في مهرجان القاهرة للمسرح التجريدي، استحقّ هذا العرض جائزة أفضل تقنية عن خيال الظل، وأعتقد أنه أخذ جائزة النقاد آنذاك، أغلب عروض "مانويل جيجي" تتميز بالبحث في الشخصية والبحث في الفكر، وهذه من دعائم العرض الذي يجب أن يكون متكاملاً».
الدكتور "حسام السعيد" يقول: شاهدت جملة من عروض "مانويل جيجي" وحدثته وكنت أجد شخصاً عميقاً، يعرف تماماً الذي يفعله، فهو يتناول مواضيعه بما يتناسب مع الواقع الاجتماعي، وكثيراً ما كنا نستمتع بعروضه».
الفنان "رمزي شقير" ممثل سوري مقيم في فرنسا، يقول: «"مانويل جيجي" أستاذنا أولاً، مربي مسرحي، تربطه بأغلب الممثلين الذين عملوا تحت إشرافه كممثلين أو من كان حوله علاقة إنسانية عميقة جداً، لا أحد يستطيع القول أن العلاقات الإنسانية غير ضرورية للعمل الاحترافي، إذا كان المخرج ممتازاً ويمتلك مواهب فنية ممتازة ولا يملك شيئاً من الإنسانية فأنا لا أعده مخرجاً، الأستاذ "مانويل جيجي" استطاع تحقيق معادلة صعبة جداً إنسانية وفنية وهي نادرة بين المخرجين حتى العالميين منهم، "مانويل جيجي" قدم شيئاً لا ننساه، لا ننسى ابتسامته الدائمة في العمل والجهد والتعب، "مانويل جيجي" عمل ثنائية مهمة جداً مع شخص اسمه "نعمان جود"، ونحن دائماً كمخرجين وممثلين عندما نسأل ما رأيك بـ"نعمان جود" يقول كيف "مانويل جيجي"؟، وبالعكس، هؤلاء استطاعوا عمل ثنائية نادرة اليوم في العالم، وللآن هم يعملون سوياً، هناك علاقة إنسانية بينهم مهمة جداً وتربطها العلاقة الفنية بين بعضهم البعض».
والجدير ذكره أن المخرج "مانويل جيجي" من مواليد سنة 1946 "زحلة"، وبعدها جاء إلى سورية، ودرس في مدارسها الأرمنية، فهو ينحدر من أب سرياني عربي وأم أرمنية.